الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 70/فقيد الأدب التونسي

مجلة الرسالة/العدد 70/فقيد الأدب التونسي

بتاريخ: 05 - 11 - 1934


أبو القاسم الشابي

ولد سنة 1909 وتوفي سنة 1934

ثكلت تونس، بل الأدب العربي عامة، أديباً عبقرياً فذاً كان منتظراً منه - لو امتدت حياته - ان يكون كوكباً لامعاً في سماء الأدب العربي الجديد، بل دعامة قوية ترتكز عليها المدرسة الحديثة للشعر العصري. ذلك هو الشاعر المبكى على شبابه أبو القاسم الشابي

ولد أبو القاسم الشابي عام 1909 في (مدينة توزر) عاصمة الواحات التونسية الجميلة بالجنوب، من إسرة ذات مجد، وكان أبوه الشيخ محمد بن أبي القاسم الشابي قاضياً شرعياً تنقل بوظيفته في مدن مختلفة. وهو من قبيلة كبيرة ذات تاريخ حافل تدعى الشابية

أما حياة الشاعر الفقيد فليس فيها من الحوادث ما بهم كثيراً لقصرها، فلم يتخط فجر شبابه الغض، ولم يطو الخمسة والعشرين عاماً بعد؛ إلا أن هذه الفترة الصغيرة في تاريخ نموه الفكري ذات خطر عظيم، ذلك أن المذهب الذي ذهب إليه في نظم أشعاره مذهب فذ لم يظهر منه في الشعر العربي إلا النادر

وليس في مراحل تعلمه التي قطعها بغاية الفوز والنجاح شئ غير عادي، فهو كأمثاله الكثيرين قد حفظ القرآن في طفولته، والتحق بجامع الزيتونة بتلقى علوم العربية على الأساليب القديمة من المتن والشرح والحاشية، وعلوم الشريعة الإسلامية كالفقه والأصول والتوحيد، إلى أن كان الامتحان النهائي فتخطاه عام 1926 ونال الشهادة المسماة بالتطويع

والتحق بعد ذلك بمدرسة الحقوق التونسية فاجتاز امتحاناتها وحصل على إجازة الحقوق، ثم لم يتركه مرض الصدر يتمم دراسته، فانقطع عن التعلم من ذلك الحين والتفت إلى معالجة هذا المرض العضال الذي معه يغاديه ويراوحه حتى ذهب في يوم 8 أكتوبر بحياته الغضة

لم يدرس أبو القاسم لغة أجنبية، ولم يكن له من الزمن ما يسع طول الدرس ومطالعة المترجمات، فقد كان أطباؤه ينهونه عن كد ذهنه والاشتغال بالأعمال الفكرية، وتلك لعمري آية عبقريته النادرة، ومعجزة نبوغه الفريد

كان جباراً متمرداً على القديم، وكان في الوقت ذاته رقيق الإحساس مشبوب العاطفة، لا يستمرئ المنازعات والمشاكسات، فكان من جراء ذلك تفاعل بينه وبين بيئته، تلمح آثاره واضحة في أشعاره

فقد كانت مطالعاته الأولى في الأدب العربي بالمهجر الأمريكي، فاستأسره أسلوب زعيم تلك المدرسة المرحوم جبران، وكانت أشعاره الأولى ذات نزعة جبرانية في الأسلوب. وكان يقول الشعر منظوما ومنثورا، ولكنه كان اعمق روحاً وابعد قراراً. وكانت موضوعاته في فلسفة البؤس والشقاء، والتبرم بالحياة ومتاعبها

على أننا إذا قلنا إن أبا القاسم قد تأثر بمدرسة جبران فلا بد لنا أن نتحفظ، فقد تزود - رحمه الله - من الأدب العربي القديم طائلة، مكنته من إخضاع التعابير الفصيحة لمعانيه الجديدة بما يميزه من غيره، ومما لم يكن من ظواهر تلك المدرسة التي تذهب أحياناً وراء حرية التعبير عن حوالج النفس مذاهب يخرجها عن سنن العربية وقواعدها الأولية

ثم إن شاعرنا كان مفتوناً بالآداب الغربية، يتهافت على قراءة كبار عباقرة الغرب الذين ترجمت أشعارهم وآدابهم ويدرسها بروية حتى تأثر بها وخالجت روحه، وربما تعجب قراؤه كثيرا حينما يعلمون انه لا يقرأ إلا اللغة العربية لجهله بغيرها

ويمكنك ان تدرك سعة اطلاعه على الأدب العربي القديم وأحاطته بجميع ما ترجم إلى العربية من نفائس الأدب الغربي، إذا اطلعت على مؤلفه الذي أخرجه منذ سنوات تحت عنوان (الخيال الشعري عند العرب) فمن مطالعة هذا الكتاب الذي هو عبارة عن دراسة مستفيضة على طريقة النقد العصرية للأدب العربي في جميع عصوره، ومقارنة للأدب الغربي في كثير من أعلامه تدرك مبلغ تفوقه ونبوغه

قلنا أن أبا القاسم كان ينزع في أوائل أمره نزعة تشاؤم وتبرم بالحياة، على ان سخطه هذا لا شئ فيه من الضعف والرخاوة، فهو يعاتب الدهر وكأنه ندّ له في كبرياء وجبروت ينمان عن حب الحياة في أعماق نفسه، حتى انه لم تدم شكواه طويلاً، فتجلت روح التمرد والقوة في قصائده الأخيرة التي منها (نشيد الجبار) وقد نشرت في أحد أعداد (يوليو) ومنها قصيدة (البعث) وستظهر في ديوانه، أودعها كل ما في نفسه من حب للحياة وتطلع إلى مثلها العليا في أسلوب رائع فريد

ولا نستطيع أن ننسى أن للصدمات التي اعترضته أثراً عميقاً في صهر نبوغه واستقلال فنه، كما انه قضى مدة أربعة اشهر في وحدة شعرية بديعة بين جبال (عين دراهم) وغاباتها، وهي من اجمل بلاد تونس منظراً وسحراً، فخرج بشعر طبيعي نادر

رحم الله أبا القاسم الشابي، وعوض الأدب العربي عنه خيراً

نموذج من شعر الفقيد

اصطدم أبو القاسم الشابي بشعور بيئته الراكدة، وضايقه المتزمتون الجامدون، فضاق الشاعر ذرعاً ونفس عن قلبه الحساس بهذه القصيدة الرائعة:

النبئ المجهول

أيها الشعب ليتني كنت حطا - يا، فأهوى على الجذوع بفأسى!

ليتني كنت كالسيول إذا سا - لت تهد القبور رمساً برمس. .

ليتني كنت كالرياح. . فأطوي ... كل ما يخنق الزهور بنحسي

ليتني كنت كالشتاء. . أغشى ... كل ما اذبل الخريف بقرسي

ليت لي العواصف ياشع - بي فألقى إليك ثورة نفسي. .

ليت لي قوة الأعاصير. . لكن ... أنت حي يقضي الحياة برمس. .

أنت روح غبية تكره النو - ر وتقضى الدهور في ليل ملس

أنت لا تدرك الحقائق ان ... طافت حواليك، دون مسّ وجس

في صباح الحياة ضمخت أكوا - بي وأترعتها بخمرة نفسي. .

ثم قدمتها إليك، فأهرق - ت رحيقي ودست يا شعب كأسي!

فتألمت. . ثم اسكت آلا - مي وكفكفت من شعوري وحسي

ثم نضدت من أزاهِير قلبي ... باقة لم يمسها أي إنس

ثم قدمتها إليك، فمزق - ت ورودى ودستها إي دوس

ثم البستني من الحزن ثوباً ... وبشوك الصخور توجت رأسي

. . ها أنا ذاهب إلى الغاب يا شع - بي لأقضى الحياة وحدى بيأسي

ها أنا ذاهب إلى الغاب علىّ ... في صميم الغابات ادفن نفسي. .

ثم أنساك ما استطعت فما أ - نت بأهل لخمرتي ولكأسي

سوف أتلو على الطيور أنا - شيدي وأفضى لها بأحزان نفسي فهي تدري معنى الحياة وتدرى ... أن مجد النفوس يقظة حس

ثم أقضي هناك في ظلمة اللي - ل وألقى إلى الوجود بيأسي

ثم تحت الصنوبر الناضر الحلو ... تخط السيول حفرة رمسي

وتظل الطيور تلغو على ق - بري ويشدو النسيم فوقى بهمس

وتظل الفصول تمشى حوالي ... كما كن في غضارة أمسي

أيها الشعب أنت طفل صغير ... لاعب بالتراب والليل مغسي

أنت في الكون قوة لم تسسها ... فكرة عبقرية ذات بأس

أنت في الكون قوة كبلتها ... ظلمات العصور من أمس أمس

والشقي الشقي من كان مثلى ... في حساسيتى ورقة نفسي

هكذا قال شاعر ناول الشع - ب رحيق الحياة في خير كأس

فأشاحوا عنها ومروا غضابا ... واستخفوا به وقالوا بيأس:

(قد اضاع الحياة في ملعب الجن (م -) فيا بؤسه اصيب بمس!)

(طالما خاطب العواصف في اللي - ل وناجى الأموات في كل رمس)

(طالما حدث الشياطين في ال - وادي وغني مع الياح بجرس)

(انه ساحر تعلمه السحر الشيا - طين كل مطلع شمس)

(ابعدوا الكافر الخبيث عن الهي - كل ان الخبيث منبع رجس)

(اطردوه ولا تصيخوا إليه ... فهو روح شريرة ذات نحس)

هكذا قال شاعر فيلسوف ... عاش في شعبه الغبى بتعس

جهل الناس روحه وأغاني - ها فساموا شعوره سوم بخس

فهو في مذهب الحياة نبي ... وهو في شعبه مصاب بمسّ!

هكذا قال ثم سار إلى الغا - ب ليحيى حياة شعر وقدس

وبعيداً هناك في معبد الغا - ب الذي لا يظله اى بؤس

في ظلال الصنوبر الحلو والزي - تون يقضى الحياة حرساً بحرس

في الصباح الجميل يشدو مع الطي - ر ويمشى في نشوة المتحسي

نافخاً نايه، حواليه تهتز (م) ... ورود الربيع من كل قنس شعره مرسل تداعبه الري - ح على منكبيه مثل الدمقس

والطيور الطراب تشدو حوالي - هـ وتلغو في السرو من كل جنس

وتراه عند الأصيل لدى الجد - ول يرنو للطائر المتحسى

أو يغنى بين الصنوبر أو ير - نو إلى سدفة الظلام الممسي

فإذا اقبل الظلام وأمست ... ظلمات الوجود في الكون تغسى

كان في كوخه الجميل مقيما ... يسأل الكون في خشوع وهمس:

عن مصب الحياة، أين مداه؟؟ ... وصميم الوجود، أيان يرسي؟؟

وعبير الورود في كل واد ... ونشيد الطيور حين تمسى. . .

وهزيم الرياح في كل فج. . . ... ورسوم الحياة من أمس أمس. .

وأغاني الرعاة، أين يواري ... ها سكون الدجى، وأيان تمسى؟. .

هكذا يصرف الحياة ويفنى ... حلقات السنين حرساً بخرس

يالها من معيشة، في صميم ال - غاب تضحى بين الطيور وتمسى!

يالها من معيشة، لم تشبها ... نفوس الورى بخبث ورجس!

يالها من معيشة، هي في الكو - ن حياة غربية ذات قدس. .

تونس

حسن سبالة