مجلة الرسالة/العدد 69/من مشاهداتي في أوروبا
→ الشخصية | مجلة الرسالة - العدد 69 من مشاهداتي في أوروبا [[مؤلف:|]] |
بين فن التاريخ وفن الحرب ← |
بتاريخ: 29 - 10 - 1934 |
معجزات طبيب
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
يرى الداخل إلى مصحة تسايلابس حديقة جميلة زينت بالورود ونسقت بالزهور المختلفة الألوان، فإذا من انتهى من الحديقة ودخل من الباب العام للمصحة، وجد نفسه في ردهة فسيحة ذات جناحين كبيرين أحدهما للرجال والآخر للنساء قد صفت فيهما الآرائك، ونسقت أشجار الظل وأصص الأزهار المعروفة بالحدائق الشتوية التي لا تنفك عينك تقع عليها أبداً في بلاد النمسا الجميلة. ثم لا يلبث أن يرى أفواج المرضى يتدفقون عندما يقترب موعد العلاج: وهو منظر يذعر له من يراه لأول مرة، ويكاد يذوب قلبه حسرة على أولئك المساكين وخاصة منهم المشلولين والمقعدين الذين يجرون في العربات جر الأطفال الصغار لعدم قدرتهم على المشي والحركة. يأخذ كل مريض مكانه على تلك الأرائك. وفي يد كل تذكرة دخول ثمنها ثلاثة شلنات نمساوية أي نحو أحد عشر قرشاً مصرياً تبيح له الدخول مرة واحدة. وقبل ميعاد العلاج بعشر دقائق يفتح باب يوصل إلى ردهة فسيحة ثانية توجد بها أرائك أخرى ومشاجب تعلق عليها الملابس، وتقف سيدة تتسلم تذاكر الدخول وأخرى تأخذ بيد العميان إلى أماكنهم. وهنا يخلع الجميع ملابسهم العليا ليصير النصف العلوي لجسم كل منهم عرياناً. فإذا دقت الساعة النصف بعد السابعة أو العاشرة صباحاً، أو الثانية بعد الظهر، فتح باب حجرة العلاج على مصراعيه، ووقف به ساحر جالزباخ يستقبل مرضاه، وهو رجل مسن، ولكنه بدين الجسم طويل القامة قوي الساعد مفتول العضل حاد النظر طويل اللحية أحمر الوجه دائم الابتسام، يفيض البشر من عينيه الواسعتين البراقتين، يحيي مرضاه بابتسامة ساحرة، ويداعبهم بمختلف الدعابات، ويقف بجواره نجله الدكتور فرتز الذي درس الطب في ألمانيا ثم انقطع لمساعدة والده في تلك المصحة العظيمة. أما حجرة العلاج فهي حجرة فسيحة مربعة طولها 12 متراً وارتفاعها 7 أمتار، غطيت جدرانها بطلاء بنفسجي اللون، وأقيمت بجوار تلك الجدران عدة أفران كهربائية ذات أضواء مختلفة الألوان بعضها قوي جداً وبعضها ضعيف. فإذا دخل فوج المرضى تلك الحجرة تراصوا صفوفاً أمام آلة العلاج يتقدمهم الأطفال ويتلوهم المشلولون والع ويتبعهم باقي المرضى. أما الجدد فيجلسون على أرائك خلفية بعد أن يكونوا قد دونوا البيانات الخاصة بهم وبأمراضهم عند السكرتيرة التي تعرضها على الطبيب فيما بعد. تغلق أبواب الحجرة بعد ذلك فتصبح مظلمة إلا بصيصاً من نور ضئيل. ثم يبدأ الساحر بالعلاج: تسمع صوتاً يدوي في أرجاء الحجرة كأنه الرعد القاصف يصم الآذان، ويدخل الرعب في القلوب، فترتاع له أفئدة أولئك الذين كتب عليهم أن يلجو هذه الحجرة لأول مرة، ثم ترى شرراً كهربائياً بنفسجي اللون يتطاير من كرة معدنية كالبطيخة تتصل بأحد طرفي عصا يقبض عليها الساحر من الطرف الآخر، ثم يمسك بعنق كل مريض ويمر تلك الكرة مرات سريعة بالقرب من عموده الفقري من أعلى إلى أسفل، ويضعها أحياناً على الجزء الذي يشكو منه ألماً، ولا يستغرق ذلك كله أكثر من عشرين ثانية، ثم يتركه إلى غيره وهكذا حتى ينتهي منهم جميعاً في زمن لا يزيد على نصف ساعة، فإذا خرج المريض من قبضة يده القوية ومن تحت تلك العصا السحرية مر في أحد الأفران الكهربائية مروراً لا يستغرق بضع ثوان أيضاً بإرشاد إحدى المرشدات هنالك
والحق أقول إننا لأول مرة سمعت أنا وصديقي ذلك الصوت المزعج ورأينا ذلك الشرر الكهربائي البنفسجي الذي علمنا عنه فيما بعد أنه نتيجة تيار كهربائي عالي الضغط جداً إذ يبلغ 595 ألف فولت، أقول إننا عند ذلك ذعرنا وامتلأت قلوبنا رعباً، وكاد صديقي يترك الحجرة ويعود أدراجه من شدة الخوف، ولكني تملكت قواي وشجعته ونبهته إلى أولئك الأطفال والشيوخ الذين يتلقون ذلك الدش الكهربائي بلا خوف ولا وجل، واتضح لنا بعد التجربة أن فعل تلك الآلة في الجسم أخف كثيراً من صوتها المرعب في النفس حتى أن صاحبي بعد بضعة أيام أصبح لا يرهبها بل على العكس من ذلك كان يسعى ليكون في المقدمة، فكنت أذكره بقول الشاعر العربي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
أما الكشف على المريض الجديد فلا يستغرق أكثر من دقيقة لأنه يسأله عن الداء وموضع شكواه، ثم يضع فوق ذلك الموضع أنبوبة زجاجية يمر بها تيار كهربائي ذو ألوان مختلفة، وكأني به يتعرف بذلك موضع الداء تماماً. ويدخل المرضى لتكرار ذلك العلاج بالأكتروراديوم ثلاث مرات يومياً. ثم إنه علاوة على ذلك العمل الأساسي يستعمل طرقا أخرى في العلاج، فإنه يأخذ بالمحقن من كل مريض كمية معينة من دمه في حجرة خاصة ويضعها في أنبوبة كتب عليها اسم المريض، ثم يمر فيها تيارات كهربائية لتقوية الدم، وفي اليوم التالي يعيدها بالمحقن إلى جسم المريض نفسه، وكأني به يتمثل بقول أبي نواس:
وداوني بالتي كانت هي الداء
وفي المصحة فوق ذلك حجرات أخرى لعلاج بعض الأمراض الخاصة كالربو مثلاً حيث يستنشق المريض بعض غازات معينة في أوقات تعين له. وهناك حجرة أخرى يدخلها المرضى بترتيب خاص حيث يحصر الجزء المريض من الجسم بين قرصين من المعدن تمر فيهما أشعة كهربائية قصيرة. وفي المصحة نحو ثلاثين موظفاً من رجال ونساء طبيبات وممرضات، ولهم جميعا في المصحة مسكنهم ومأكلهم ومشربهم
ولقد تقابلنا مع الدكتور فرتز وتحادثنا معه طويلاً باللغة الإنجليزية فكان مثال التواضع والأدب الجم، وعرفنا منه أنه تجرى عمليات في المصحة بوساطة التيار الكهربائي ذي الضغط العالي، وأنهم يعالجون الأمراض على اختلاف أنواعها كالشلل والعمى والربو والسكر والسل الرئوي وعرق النسا إلخ. ما عدا الحميات بأنواعها والصرع والجنون، وعلمنا منه أيضاً أنه يبحث بحثاً جديداً في استخدام الأشعة القصيرة في العلاج، وهو ينتظر فائدة كبيرة من وراء ذلك البحث. وأما والده زيليس نفسه فهو في الخامسة والستين من عمره وهو أقوى من أي شاب تراه، ويأمل أن يعيش مائة سنة أخرى بفعل الألكتروراديوم، وهو لم يتعلم في المدرسة ليكون طبيباً، وإنما كان أخصائياً في النبات، ولما غادر المدرسة هوى الكهرباء، وأخذ يدرسها ويجرب فعلها في الأمراض حتى انتهى إلى ذلك النجاح العظيم الذي صادفه باستخدام الضغط العالي الكهربائي، وأخذ الشعب النمساوي والألماني يقبل عليه وينتفع بعلمه وتجاربه حتى علا كعبه، فأخذ الأطباء في النمسا وألمانيا ومن ورائهم أطباء العالم يحملون عليه حملات شديدة وازدادت حملتهم عليه لما نبه ذكره وافتتح مصحته في سنتي 1929، 1930 فحاربوه بكل ما أوتوا من قوة واتهموه بأنه دجال وأنه عالة على الطب، وحرضوا عليه الحكومة، فقبضت عليه وقدمته للمحاكمة، فكان برغم ذلك رابط الجأش عظيم الثقة بنفسه وحصر دفاعه في الكلمات القصيرة الآتية قال: (أولئك الأطباء المدبلمون كثيراً ما يخطئون ويكون في خطئهم القتل لمرضاهم، ذلك القتل الذي لا يقام له وزن. أما أنا فيجيئني المريض بعد ييأس يأساً تاماً من شفائه على أيديهم فيبرأ من سقمه ويشفى من علته فيتركني شاكراً مسروراً، ولم يشك مريض واحد إلى أحد بأن طريقتي أوقعت به أي أذى. فهل هذه الحملة إذن إلا حملة حقد وحسد؟) فكان في ذلك الإقناع كل الإقناع للمحكمة فخرج منها منتصراً. ثم سار على نهجه فحاز ثقة الشعوب جميعاً. وفي نظرنا أن كل الخير للإنسانية جمعاء، ولهؤلاء الأطباء أن يتشجعوا وأن يضحوا بشيء من تعصبهم وغرورهم في سبيل الصالح العام، وأن يمدوا أيديهم إلى ساحر جالزباخ فيصافحوه معتذرين عما فرط منهم، وفي يقيننا أنه لن يمتنع عندئذ عن أن يبيح لهم بسره الغامض وأن يطلعهم على أعماله وتجاربه ومخترعاته، فتتكاتف الأيدي جميعاً وتتوافر على دراسة الأشعة القصيرة والألكتروراديوم. فيخطو العالم الخطوة الحاسمة نحو استخدامها بدلاً من المشرط، ونحو إحلالهما في العلاج محل الأدوية والعقاقير وفي هذا ما فيه من خير ونفع
عبد الحميد فهمي مطر