مجلة الرسالة/العدد 69/بين فن التاريخ وفن الحرب
→ من مشاهداتي في أوروبا | مجلة الرسالة - العدد 69 بين فن التاريخ وفن الحرب [[مؤلف:|]] |
قصه لؤلؤة ← |
بتاريخ: 29 - 10 - 1934 |
5 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
ويختلف الرواة في الحركة التي جرت، فالأخبار التي يستند إليها الواقدي والبلاذري لا تبحث في غارة المرتدين على المدينة، ولا تذكر موقع ذي حسي، وتذكر أن أبا بكر لما علم أن القبائل اجتمعت في ذي القصة بقصد الغارة قرر أن يقاتلها في عقر دارها غير مبال بقلة عدده، وقصد من ذلك إرهاب المرتدين وإلقاء الرعب في قلوب العرب، وجعلهم يعتقدون أن المسلمين أقوياء وأن ذهاب جيش أسامة يقلل من قوتهم، فتقدم أبو بكر على رأس المقدمة الراكبة نحو ذي القصة يعقبه الكوكب (القسم الأكبر).
وبالنظر إلى رواية سيف أن الجمال بعد أن نفرت براكبيها، ودخلت المدينة بات أبو بكر ليلته يتهيأ للهجوم، فبعد أن رتب قوته خرج مبكراً من المدينة وباغت عدوه فهزمه شر هزيمة. والذي يلوح لنا أن الروايات الأولى هي الأصح. وكانت قوة المقدمة تبلغ مائة رجل، وسارت يومها وعسكرت مساء بالقرب من أجمة، فباغتها العدو من مكمنه وألجأها إلى الفرار، فاحتمى أبو بكر بالأجمة منتظراً ورود الكوكب (القسم الأكبر) ولما نادى أحد المسلمين بوروده انهزم المرتدون، فطاردهم المسلمون إلى ثنايا العوسجة ثم قفلوا راجعين إلى ذي القصة
ويذكر الواقدي أن أبا بكر لم يخرج إلى ذي القصة إلا بعد عودة جيش أسامة إلى المدينة، غير أننا لا نميل إلى رأيه، لأن مجرى الأخبار يدل على أن قوة المسلمين كانت ضعيفة لما خرجت من المدينة قاصدة العدو. ويزعم سيف أن بني ذبيان وعبس بعد هزيمتهم هذه وثبوا على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وحلف أبو بكر ليقتلن من المشركين في كل قبيلة، وليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين. وكانت وقعة ذي القصة والبقعاء أ نصر للمسلمين على المرتدين، ومنها تظهر فراسة أبي بكر وصلابة عوده.
لا بد أن القارئ انتبه إلى فساد خطة القبائل في محاولتهم غزو المدينة، إذ بدلاً من أن يجتمعوا في محل واحد للهجوم على المدينة أو أن يقاوموا جيش المسلمين معاً اجتمعت كل قبيلة في حيها، فاجتمع بنو أسد في السميراء، وفزارة في طيبة، وجديلة وغوث في طيء في جبليهما، وذبيان وعبس اجتمعت فرقة منهما بالقرب من الربذة والأخرى في ذي القصة والبقعاء.
والداعي لتفرقهم على ما يظهر أن المياه في كل محل من تلك المحلات لم تكن كافية لإرواء جماعة كبيرة، وكان الكلأ قليلاً فضلاً عن صعوبة اجتماع كلمة القبائل على غاية واحدة.
وكان قبل ذلك حلف بين بني أسد وغطفان وطيء، بيد أن قتالاً وقع بين غطفان وبني أسد من جهة وطيء من جهة أخرى فأمست القبائل متخاصمة. وكذلك كلمة طيء لم تكن مجتمعة فمال إلى المرتدين فرقتان منها فقط، وهما جديلة وغوث. أما الفرق الأخرى فبقيت على إسلامها. وكانت القبائل في قيامها على المدينة يراقب بعضها بعضاً، ولا تريد أن تكون البادئة بالعداء، ذلك ما جعل كلا منها يبقى في حيه ويراقب عمل الآخر
وقد اختبر الصديق حالة القبائل وتأكد أن كلمتها لم تجتمع، لذلك لم يشأ أن يؤخر جيش أسامة عن سفره، واكتفى برجال المدينة والموالين من القبائل القريبة منها وقد أيدت الوقائع رأيه. وبعد انتصار أبي بكر على القبائل في البقعاء قفل راجعاً إلى المدينة، ولما شاع خبر انتصار المسلمين على أهل الردة في أول قتالهم أخذت الصدقات تأتي من الأطراف بعد أن تردد أهلها في إرسالها، فوردت صدقات عدي بن حاتم من طيء وصدقات أخرى
وبعد مدة قصيرة عاد جيش أسامة من الشمال، فقرت به أعين المسلمين فلم يمهل أبو بكر المرتدين بعد أن بلغه أن بني عبس وذبيان أوقعت بمن فيها من المسلمين ومثلت بهم، وبعد وقعة ذي القصة أراد أن يفني من في الأبرق فأراح جيش أسامة بضعة أيام وخرج بالقوة التي سار بها إلى ذي القصة بعد أن أنجدها بالناس من جيش أسامة وتوجه نحو الأبرق، وفيه الفرقة الثانية من بني عبس وذبيان وبني كلاب وغيرهم
وقد ناشده كبار الصابة بألا يعرض نفسه للخطر بقيادة الجيش بنفسه إلا أنه لم يجب طلبهم.
فبعد أن عبأ جيشه باغت المرتدين في الأبرق فهزمهم شر هزيمة وانسحبت فلولهم إلى السميراء والتحقت ببني أسد، ولما رأى طليحة الخطر انسحب بجميع القوات التي التفت حوله إلى بزاخة
وأقام أبو بكر في الأبرق وكان يملكه بنو ذبيان، فأعطى مراعيهم لخيل المسلمين وحرم بطون ذبيان منها.
تولية خالد بن الوليد قيادة الجيش
تدل الأخبار على أن خالداً أشترك في قتال ذي القصة والأبرق مع المهاجرين، ولاما رجع أبو بكر إلى المدينة انسحبت قوة المسلمين إلى ذي القصة، وتولى قيادتها خالد بن الوليد
وتذكر الروايات التي تبدأ بسيف بن عمر أن أبا بكر لما وصل إلى المدينة جمع رجالا من القبائل المجاورة للمدينة وأرسلها إلى ذي القصة لتقوية جيش المسلمين. ثم عاد إلى ذي القصة لتقوية الجيش وقسمه إلى أحد عشر فرقة، وعين قائدا لكل منها فوجهها إلى مناطق المرتدين في جزيرة العرب لقتالهم والقضاء على حركة الردة
وهذه الرواية التي يرويها سيف يصعب تصديقها وذلك:
أولاً - لأن قوة المسلمين لم تكن في عدد يكفي لتقسيمها إلى أحد عشرة فرقة
ثانيا - إن إيفاد فرق البحرين وعمان ومهرة وحضرموت واليمن قبل قمع الفتنة في قلب جزيرة العرب مسئلة فيها نظر.
ويمر طريق البحرين وعمان ومهرة ببلاد بني حنيفة، وفيها مسيلمة ثائرا، وهو معتصم في بلاده الوعرة. والحقيقة أن قوة جيش المسلمين لم تجاوز بضعة آلاف على ما ذكرناه في بحث تقدير قوة الفريقين. فجيش أسامة لم يجاوز ستة آلاف، أما القوة التي جهزها لمقاتلة من اجتمع في ذي القصة فلم تتجاوز الألفين. فتقسيم هذه القوات جميعا إلى أحد عشر قسما مما يجعل كلا منها ضعيفا بحيث لا يستطيع القيام بالواجب المنوط به. بينما الأخبار تؤيد أن جيش خالد بن الوليد وحده كان يبلغ أربعة آلاف رجل، ثن إن هناك أخبارا تؤيد حبوط هجوم فرقة عكرمة بن أبي جهل، وكذلك هجوم فرقة شرحبيل بن حسنة على قوات مسيلمة وانسحابهما إلى الوراء والتحاقهما بفرقة خالد بن الوليد مما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد أن أبا بكر فكر قبل كل شئ في القضاء على حركة الردة في وسط جزيرة العرب، وجمع لذلك ما في يده من القوات المتيسرة وناط قيادتها بخالد
قوة الجيش:
إن الرواة على عهدنا بهم لم يرووا لنا مقدار قوة المسلمين التي احتشدت بقيادة خالد بن الوليد في ذي القصة. والمصدر الوحيد الذي يذكر لنا قوة خالد هو أبو حبيش، إذ يروي لنا أنها كانت تبلغ أربعة آلاف مقاتل حركته إلى بزاخة
وكان الجيش على ما سبق بيانه مؤلفا من القوة التي جمعها أبو بكر من القبائل المجاورة للمدينة على جناح السرعة الهجوم على المرتدين في ذي القصة بعد تهديدهم للمدينة، ومن القسم الذي التحق به من جيش أسامة بعد عودته إلى المدينة قبل الهجوم على الأبرق. ومن الواضح أن البعض منة تخلف عن الالتحاق ليقضى مدة من الزمن بين أهله بعد أن غاب عنهم مدة شهرين في سفرة إلى الشمال
والذي يظهر من رواية سيف أن أبا بكر لما عاد إلى المدينة أرسل هذا القسم المتخلف أيضا إلى ذي القصة. وبعد التحاقه أصبح جيش خالد أربعه آلاف أو أكثر. وكانت قوة الأنصار وحدها تبلغ زهاء خمسمائة مقاتل. أجل، إن هذا العدد ضعيف بالنظر إلى المهمة الخطيرة المنوطة به. إلا أن تجانس القوة في هذا الجيش وصلابة المعتقد فيه، وتفرق كلمة القبائل المرتدة جعلته أهلا للعمل
منطقه الحركات:
يحد المنطقة التي جرت فيها الحركات من الشرق، الدهناء، وهي الساحة الرملية الممتدة من الشمال الغربي إلى الشرق الجنوبي في شرقي القصيم. وكانت الدهناء ولا تزال المفازة التي تفصل أرض السواد (أعني العراق) عن بلاد نجد. ويحدها من الشمال جبل شمر أعني بلاد طيء المرتفعة التي تمد جبالها على ما سبق من الشمال الشرقي. إلى الجنوب الغربي، وأخطرها جبلا سلمى في الجنوب وأجا في الشمال، وفيها وديان كثيرة أجلها شأناً وادي حائل، وهو يبدأ من بزاخة طيء بشعاب متعددة، ويفصل الجبلين أحدهما عن الآخر حيث تنصب فيه عدة شعاب من الشمال والجنوب وتغمرة بالمياه في موسم الأمطار. وقد شيدت على جانبيه القرى التي ترتوي بمياه الآبار المنصرفة إليها من الجبال. ولما كان جبل سلمى وجبل رمان يشرفان على وادي الرمة من الجهة الشمالية، فالشعاب التي تمر بالأطناف الجنوبية تنحدر جميعا إلى ذلك الوادي. وهذة الأطناف هي الحدود الفاصله بين حي بني أسد وحي فزاره من بني غطفان، وقريتا فيد وطابه لبني طيء وهما على الحدود
ويحد منطقة الحركات من الغرب حرة خيبر، ومن الجنوب الهضبة المشرفة على وادي الرمة من الجنوب، وفيها بنو سليم في الشمال وبنو عامر في الجنوب. وموقعا العمق في الغرب ورابية أبان الأبيض في الشرق في أرض بني سليم
والوادي أرض منخفضة بين هضبتين مرتفعتين تنصرف إليه جميع المياه التي تنزل عليهما في موسم الأمطار. وإذا حفرنا الآبار في بطنه على عمق بضعة أقدام نعثر فيها على ماء كثير. والطريق التي تصل المدينة ببلاد القصيم تمر بهذا الوادي. بالقرب من سابية، ثم بالشقرة فالربذة بالقرب من الحناكية فالمشقق فبئر الطرفة، فإلى جنوب أكمة الخيمة حيث يدخل أرض بني أسد، ويمر بعد ذلك بين الأبانين: أبان الأسود في الشمال، وأبان الأبيض في الجنوب. والأسود في أرض بني أسد إلى أن يمر بشمال الرس وهو بئر ماء لبني أسد، فيصل إلى القريتين في بلاد قصيم، أعني العنيزة في الجنوب وبريدة في الشمال وكلتاهما في حي بني تميم
ويسكن يسكن بنو أسد في الساحة الواسعة التي شمال الوادي من جنوبي فيد وأطابة غربي السميراء والظهران والسليلة.
وفي غربي النقرتين نقرة السلاسل ونقرة الخطوط وجبل سارة. وفي أرض بني أسد يقع موقع الغمر وهو في رابية مرتفعة تشرف على وادي الغمر الذي ينبع من سفح جبل الموشم الشمالي ويف في الكهفة. وبالقرب منه تقع بزاخة بني أسد. وهي الموقع الذي نشبت فيه المعركة بين جيش خالد وجيش طلحة.
والذي جعلنا نميل إلى العتقاد بأن موقع بزاخة في هذا المحل هو ما ذكره ياقوت الحموي في معجمه نقلا عن ابن الكلبي. أما الأصمعي فيروي أن بزاخة ماء لطيء. وفي جبل طيء موقع آخر يسمى بزاخة. وعلى ما يظهر لنا من مجرى الحركات أن القتال بين المسلمين وبين المرتدين لم بقع في أرض طيء، بل وقع في أرض بني أسد بالقرب من الغمر، ولا سيما أن خالداً بعد انتصاره على طليحة وجه سراياه في جهات مختلفة مطارداً فلول المنهزمين. وهذه السرايا قاتلت المنهزمين في جبل رمان وفي الأبانين. ولا يعقل أن المعركة نشبت في بزاخة طيء والمطاردون يطاردون المنهزمين إلى رمان والأبانين، بل من المعقول أن تنشب المعركة في جوار الغمر قيشرد المنهزمون إلى أنحاء مختلفة، فينهزم بنو فزارة إلى حيهم في جنوبي الرمان وغربيه، وبنو أسد إلى الأبانين وإلى ظفر في جوار كهفة وإلى النقرة - أعني إلى حدود الحي
وفي منتهى الشرق بلاد بني تميم والقصيم على الحدود بين بني أسد وبني تميم. وهي من أغنى البقاع الواقعة في نجد، وتحدها رمال الدهناء من الشرق، وفي غربها مراعى الحزن، وفي شرقها مراعى الصمان، وكلتا البقعتين من أخصب المراعي وهما لبني تميم. وبنو يربوع في الحزن إلى وادي حائل، والصمان إلى بني حنظلة، وماء الطريفة في شمالي البريدة لهم أيضاً. والبطاح في جنوبي الحزن وفيه قرية بريدة وموقع البعوضة والقعرة، وهو مشهور بجودة الكلأ وفيه دارت الدائرة على مالك بن نويرة رئيس بني يربوع
ولا تزال إحدى ضواحي البريدة تسمى بالبطاح، والقصبة تتألف من أربع ضواح، وهي جردة وجديدة وشمال وبطاح.
وموقع النباج في حي بني تميم وهو المحل الذي وصلت إليه سجاح برجالها فقاتلها بنو تميم وكسروها، وهو واقع في الحزن على طريق الكوفة بعد الفيد
يتبع
طه الهاشمي