الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 69/الشخصية

مجلة الرسالة/العدد 69/الشخصية

بتاريخ: 29 - 10 - 1934

6 - الشخصية

للأستاذ محمد عطية الأبرشي

المفتش بوزارة المعارف

أنواع الشخصية

الشخصية نوعان:

عملية وفكرية، ولنتكلم عن كل منها بالتفاصيل فنقول:

(1) الشخصية العملية

كثيرا ما يسأل الإنسان: أيهما أفضل: الأمور النظرية أم العملية؟ وبعبارة أخرى أيهما أفضل: الأفكار أم الأعمال؟ وجوابنا على ذلك أننا لا نستطيع أن نفضل النظريات من العمليات، فنحن في حاجة إليهما معاً، وكل منهما متوقف على الآخر ومكمل له، لا ضده ونقيضه كما يظن البعض، والأفكار أمهات الأعمال، ومن الممكن اعتبارهما مظهرين لشيء واحد

وكما أن لكل أمر من الأمور ناحيتين: إحداهما نظرية والأخرى عملية، كذلك نقول إن للشخصية ناحتين: نظرية وعملية؛ فالرجل مثلاً قد يكون موضع الإعجاب لأفكاره وأعماله، ولو أن الأعمال في النهاية نتيجة الأفكار، ومع ذلك قد تغلب على الإنسان إحدى الناحيتين: النظرية أو العملية تبعاً لميوله وعاداته، فهذا قد يميل إلى الجهة العملية، وذلك قد يميل إلى الناحية الإدراكية فتنمي فيه بطريقة التعود هذه الناحية أو تلك.

ولاشك في أن الشخصية العملية التي تظهر بالعمل والتنفيذ أكثر أثراً وظهوراً في الحياة العملية من الشخصية الفلسفية البعيدة عن هذه الحياة، والأولى كممثل يقوم بتمثيل دوره عملياً على المسرح أمام الناس، والثانية كمن يقوم بتمثيل دوره في الخفاء أو وراء الستار بعيداً عن الأنظار، فأثر الأولى أكثر وضوحاً وظهوراً من أثر الثانية. وتتمثل الشخصية العملية في المصلحين وقادة العمل والمستكشفين الذين ترى آثارهم في أعمالهم التي قاموا بتحقيقها وتنفيذها خدمة للإنسانية. وتتمثل الثانية في الشعراء والفلاسفة والخياليين الذين يقومون بتصوير الأشياء ووصفها، فيسبحون تارة في عالم الحقيقة، وتارة في عالم الخيال؛ ولا ينكر فضلهم أحد، ولكن أثرهم في هذا العالم المادي أقل ظهوراً؛ ففي اليوم الذي اجتاز فيه (بليريوت) القنال الإنجليزي بطيارته كانت الأفكار كلها وأحاديث الفخر والإعجاب موجه إليه، لا إلى العالم الذي فكر فيها عدة سنوات حتى أخترعها.

وإننا لا نقصد بذلك أن نقلل من قيمة العلماء أو المفكرين أو قادة الفكر، ولكننا نقصد الاعتراف بأن تأثير رجال الأعمال أظهر من تأثير رجال الفكر، وإننا نتأثر بالأعمال النبيلة أكثر من تأثرنا بالأفكار مهما كانت سديدة، ولا ننكر أن الفكر والوجدان ينتهيان بالعمل

ومنذ زمن ليس بالبعيد كانت التربية تفكر في العالم أكثر من العمل، فكان الإنسان إذا اختبر سئل عن (مقدار ما يعرفه) أما اليوم فقد تبدلت الحال وانعكس الأمر؛ فأصبحت التربية تعنى كل العناية بالعمل والأعمال، وأصبحت الأسئلة: (ماذا فعل الإنسان؟ وماذا يستطيع أن يفعل؟ وما مقدار ما يفعل؟) ولم تكن الجامعات فيما مضى لتعنى بالجانب العملي من الحياة، ولم تكن لتعمل على تربية رجال ليعملوا؛ بل كانت عنايتها موجهة إلى تكوين رجال مثقفين حباً في الثقافة، معلَّمين حباً في العلم، ليكونوا كزينة لها أينما وجدوا في الأسرة أو المجمع الديني أو في المجمع الأدبي. وكان الرجل الجامعي المثقف لا ينتظر منه أن يعمل شيئاً بيده، فكان كأداة من أدوات الزينة، وكان المجتمع يزدريه ويحتقره إذا حاول أن يعمل عملاً يدوياً. أما الأعمال اليدوية وأما الصناعات فكانت خاصة بالطبقة الفقيرة التي تدعى الطبقة العاملة. وكان يظن خطأ أن هذه الطبقة خلقت لتعمل، أما الطبقة الأخرى فخلقت لتفكر.

أما اليوم فقد أصبحت الفكرة السائدة أن التفكير غير مقصور على طبقة من الطبقات، وأن العمل لا تختص به طائفة دون أخرى، وصار التعليم عاماً بين الفقراء والأغنياء على السواء في الأمم المتمدينة، لا يمتاز به هؤلاء على أولئك، وجعل وسيلة لإعداد الجميع للقيام بواجبهم العلمي والعملي والأدبي في الحياة. وأصبحت الفرصة، فرصة العمل سانحة أمام الجميع من غير ما تفريق. فالعلم الآن في هذا العالم المادي لا يصلح في نظر الماديين - وما أكثرهم - لأن يكون غاية مستقلة. بل يجب أن يكون وسيلة للعمل. ولسنا في شك مطلقاً من أن العلم قوة، لا، بل أكبر قوة في يد الإنسان. وهو قوة اليوم كما كان قوة بالأمس. وسيكون قوة إلى الأبد، ولكننا في حاجة إلى العلم الذي يؤدي إلى العمل، العلم الذي يمكن تنفيذه والانتفاع به عملياً بتحويله إلى عمل؛ فالعلم بلا عمل لا خير فيه، مثله كمثل شجرة بغير ثمر. هذا هو المقياس الذي يقاس به العلم، ويحكم به على العلوم اليوم. ولا عجب؛ فبعد أن كان العلم يطلب للعلم، حباً في العلم ذاته، أصبحنا لا نفكر إلا في الماديات، نسأل عن مقدار ما يمكن أن يستفاد به عملياً في الحياة من تعلم هذا العلم أو هذه المادة، وأصبحت العلوم التي لا تؤدي إلى أكل الخبز، أو الخبز والزبدة، ينظر إليها نظرة تشكك في الإقبال عليها. ويكثر الإقبال على العلم أو المهنة بقدر ما يمكن أن تدره من المال في أقصر وقت. هذا هو مقياس الإقبال على العلم الآن، وهذا هو الرأي السائد بين الأكثرية من المربين والمتعلمين في الأمم المتمدينة. فالعالم أصبح تجارياً، والعلم كذلك أصبح ينظر إليه بنسبة ما يستطيع صاحبه أن يكتسبه بواسطته من وظيفة أو ثروة أو مركز أو نفوذ. ويكاد هذا العصر المادي يقضي أو قضى بالفعل إلى العالم الروحي، وعلى تعلم العلم حباً في العلم، والاشتغال بالفن حباً في الفن. وإننا لا نكره المادة، ولا ننادي بكره المادة أو احتقارها، ولكن يؤلمنا أن تسيطر المادة على كل شئ، حتى على أفكارنا وتعليمنا. ولا ننكر أن النجاح هو الحياة، وهو الفوز. وحبذا الأمر لو أمكننا أن ننجح النجاح المادي مع المحافظة على الروح العلمية الخالصة، فنجمع بين عالم المادة وعالم الروح.

فالحياة اليوم نزاع بين القديم والجديد، بين عالم الروح وبين عالم المادة، وهو نزاع لا نهاية له، ولكنه ليس نزاعً عدائيً، بل هو نزاع ودي تكميلي لا غرض منه سوى النجاح في الحياة

ولكن ما النجاح الذي نبغيه؟ وما الرقي الذي نريد الوصول إليه؟ هو نجاح الشعب ورقيه، روحياً ومادياً، قوةً ونفوذاً، علماً وعملاً، مبدأ وإنسانية. ولكن هل يمكن الجمع بين الروح والمادة في آن واحد؟ ولم لا؟ إن الإنسان يستطيع أن يكون روحياً إلى حد ما، ومادياً إلى حد ما، بحيث لا تتغلب الروح على المادة، ولا تسيطر المادة على الروح؛ فيأخذ من كل منهما نصيبه، ولا يعنى بناحية ويهمل الأخرى. والنجاح هو الفوز بعد الجد والتعب، التعب الجسمي والعقلي، سواء أكان ذلك النجاح في التأليف أو في نسج القطن وغزله، أو في بيعه وشرائه، أو في صنع السيارات أو الطيارات أو في كتابة الروايات. . إلخ

ومن الضروريات الأساسية للشخصية العملية العلم بالشيء الذي يراد القيام به، والرغبة في النجاح فيه ولا فائدة في العلم والرغبة إذا لم يصحبا بقوة تنفيذية معنوية أو حسية، داخلية أو خارجية تعمل على التنفيذ.

فكما أن السيارة لا تستطيع السير إلا إذا كانت معدة للسير تمام الإعداد. وكان بها المقدار الضروري من زيت الوقود، وكان الطريق معبداً صالحاً لسير السيارات، كذلك الإنسان لا يمكنه أن يقوم بعمل عظيم إلا إذا كان هناك علم به، ورغبة شديدة فيه، قوة دافعة تدفعه إلى القيام به، هي قوة الإرادة والعزيمة الثابتة

وطالما صادف الإنسان أشخاصاً لديهم الوسائل الضرورية للنجاح في العمل من علم وخبرة وذكاء وحسن تقدير، ولكنهم فقدوا صفه واحدة من أهم الصفات الضرورية للنجاح، تلك هي قوة العزيمة والتنفيذ، فلم ينجحوا في أعمالهم، لأنهم يميلون إلى كثرة النقد والتحليل والتشكك في كل شيء حتى في أنفسهم فيمنعهم ذلك الشك من رؤية فائدة الشيء فيترددون في الإقدام، ويرجعون إلى الوراء، فتضيع منهم فرصه النجاح، والفرصه إن أتت مرة قد لا تعود مرة أخرى. فالعزيمة الصادقة تعد سراً عظيماً من أسرار الشخصية العملية والنجاح في العمل.

محمد عطية الأبرشي