مجلة الرسالة/العدد 644/الكتب
→ البَريُد الأدبيَ | مجلة الرسالة - العدد 644 الكتب [[مؤلف:|]] |
القَصَصُ ← |
بتاريخ: 05 - 11 - 1945 |
هتاف الجماهير
للأستاذ عبد الحفيظ نصار
(هتاف الجماهير) للأستاذ أمين يوسف غراب، ومجموعته تشتمل على خمسة عشر قصة لن يتسع لي المجال للتعرض لها كلها، وأعتقد أن مجموعته في الطليعة عندما يصح أن نختار قصصاً نضعها بكل فخر جنباً إلى جنب مع القصص الأجنبية القوية، كما أنها تتسم جميعاً بأسلوب بارع الوصف، كما أن الكاتب متأنق في اختياره لألفاظه أناقة محببة غير متكلفة، ويأخذك من تعبيراته عطر قوي نفاذ. . . لعله عطر المرأة التي تأخذ دوراً هاماً في أكثر قصصه.
وإليك قصة (طريق الدنس) وهي قصة امرأة ناضرة ناضجة شغل عنها زوجها بسهراته خارجا - فماذا قالت لنفسها وماذا قالت المرآة لها في خلوتها. . . فكرة بسيطة في حوادثها. . ولكني أؤكد أنها في تحليلها لعواطف المرأة لا تقل عما يكتبه مارسيل بريفو، وفي قوة وصفها تقف بكل فخار بجوار قصص موباسان. ليس في القصة حوادث أو حركة كبيرة بل تعتمد على (الحركة النفسية) التي هي موضوع القصة. وذلك شأن القصص الروسية الخالدة التي نعتبرها مثالا في القصص العالمية.
كذلك قصة (الأستاذه) وهي محامية كتبت عواطفها الحارة كامرأة، وتجاهلت نضج ثمارها كشجرة يانعة، فأخفت تلك العواطف وتلك الثمار، تحت رداء المحاماة القاتم، وتكلفت الجد الذي هو بعيد كل البعد عن طبيعتها المشرقة ومضت في الحياة عاملة كرجل. . . ولكن إلى متى يمكنها أن تمضي متجاهلة النداء؟
وأما قصة (البلبل والحمامات السبع) فتصور حياة سبع مدرِّسات في مدرسة إقليمية شاءت مديرتها أن تجعل منها ديرا منعزلا عن الحياة والأحياء - وعلى الأخص ذلك الجنس الآخر مصدر الشر وهو الرجال - فيعشن في سلام معيشة الراهبات.
وليست العبرة عند الكاتب في حوادث القصة. ولكنه يعالج فكرة قد تظهر بساطتها عند تلخيصها. ولكنك ترى عمقها في تحليله وروعتها في عرضه. كما أنه يرتفع في وصفه في هذه القصة إلى درجة عالية من البيان، وقد وصف لنا الرئيسة محللا نفسيتها بأنها امرأة حلت الأيام مشاكلها مع الزمن على حسابها، خلقة مشوهة دميمة وصوت أجش بغيض وعينان ضيقتان أكل الحقد أهدابهما ولم يبق منهما سوى نظرات نارية حادة لا تكاد تعكس مرئيات الأشياء على عينيها أبدأ وإنما تعكس صفحة وجهها المشوه على خاطرها فتراه دائما وتراه مقترنا بسلسلة تلك المصائب التي جرها عليها هذا القبح طيلة الأربعين سنة التي قضتها في دنياها الشقية. .) فهي لا تكاد تطيق رؤية الفتيات السبع يخطرن أمامها في مرح وسعادة ملء إهابهن الحب والأمل، ومن ذلك يفسر لك قسوتها عليهن وتزمتها في معاملتهن وأخذهن بالتقشف الشديد المر حتى نسين الشباب والابتسام
وأما (البلبل. . .) فهو ذلك العامل الذي تضطر المدرسة الضرورة لاستدعائه من المدينة لبعض الإصلاحات لبضع ساعات ثم تحتال الحمامات على إطالتها إلى ليلة. . وقد تيقظ الفتيات كما تفتح الزهرات لأنداء الربيع، حتى تلك الزهرة الذابلة. . الناظرة. وإني لأحس بأنني اظلم القصة عندما أحاول أن أعطي منها صورة فلا أستطرد في ذكر ما كان. ولكن أحب أن أقول إنها ذكرتني بقصة (ستة وعشرون رجلا وامرأة. . .) لمسكيم جوركي. والبلبل هنا امرأة، وعند قصاصنا فتى، ولكنها لا تشبهها في شيء من الحوادث أو طريق المعالجة ولكن في بعض الخطوط الرئيسية في الفكر النفسية وهي شيء يتشابه فيه البشر في كل مكان
ولكن يختلف الكتاب في تصويره. واله إلى هذا بعض قصص اجتماعية يصف فيها الريف بصميم تقاليده وعميق إحساس أفراده إلى بساطة وسذاجة هما طبائع أهله، قد دل على معرفة ودراسة لأحوال الريف قلما تجدها صادقة في غير تكلف كما تجدها في قصص الأستاذ أمين. ومن هذه القصص (الفطائر الثلاث) ومن أمتع قصصه (مفاتيح الأقفال) وإنه لعنوان رمزي لما استغلق من المرأة، وما المفاتيح إلا الإنسان الذي جعلها تلبي نداءه في أحضان الشيطان. وإنها لمأساة قد يخيل إليك أن الكاتب يصورها بألوان زاهية فاضحة. ولكنه فنان يعرف كيف يتصرف في هدوء حتى بالألوان الحمراء. . .
وقصة (هتاف الجماهير) ليست هي القصة الأولى في المجموعة كما اعتاد بعض الكتاب في تسميتهم المجموعة بأعظم قصة فيها؛ بل هناك قصص أخرى تعلوها. وهي مع هذا ذات نزعة رومانسية عنيفة وتجمع إلى هذا جانب التهكم اللاذع وعلى الأخص في الخاتمة، والخاتمة عند أمين كأبسط وأروع ما يمكن أن تكون التفاتة بسيطة ذات دلالة عميقة تكفي عنده لأن تكون عقدة القصة. وقصة (طريق الدنس) التي عرضنا لها تعتبر مثالا عاليا لذلك. وتوجد عنده عدة قصص يصور فيها شخصية (البروجوازي) كما تسميه الاشتراكيون، أذكر له قصة اتفق لي أن قرأتها له في إحدى المجلات ولا أدري لماذا لم يضمها إلى هذه المجموعة وهي (الحلوى المسمومة) فقد صور فيها مدى استغلال البروجوازية لعماله. وقد تعدى ذلك لأعراضهم، وله في تصوير هذه الشخصية في هذه المجموعة قصة (صفقة رابحة) و (السيد) وأنه ليعطينا صورة لا تقل عظمة عن تمثيلية (السيد) لموليير وإن كان هذا نموذج للسيد المصري وفرق كبير بين السيدين. أقلهما البيئة وعواملها مع المزاج والثقافة. كما يوجد فرق كبير بين الكاتبين في طريق المعالجة.
ويصدر الأستاذ أمين مجموعة بقصة (أفراح السماء)، وهي قصة إنسانية عالية تصف الطفولة وتشردها. قصة طفلة تتضور جوعا باحثة عن لقمة، تهديها حاستها أو معدتها إلى بائع طعمية تقف أمام دكانه تستنشق رائحتها المحببة، ولا تسل عن خواطرها حينئذ، ولا عن تصوير الكاتب لها، ولكنها أخيراً تتشجع وتطلب منه واحدة؛ فإذا بصاحب المحل الرجل الضخم يجيبها بصفعة هائلة فلم تولول ولم تتألم طويلا فقد تعودت مثل ذلك وكان أن جففت دموعها، وأصلحت أسمالها، وابتعدت عنه قليلا حيث واراها الظلام، وحيث أسندت رأسها المثقل جالسة على الرصيف بعد أن اطمأنت على مكان كوز أعقاب السجاير بين ركبتيها. وابتدأت قصة حلم رائع إذ تقدم منها شاب وسيم شكت إليه جوعها فحملها إلى القصور التي يعلو وصفها على قصور ألف ليلة وليلة، وكان أن رأت هناك استقبالا واحتفاء ومأكلا ونعيما وسعادة بجوار ذلك الشاب الوسيم ما كانت لتحلم به أو لتفكر فيه يوما فتتمتم شاكرة له: إنك لملك كريم. وبعد فراغها من حلمها اللذيذ يكون قد جاء الصباح وعاد صاحب محل الطعمية جلادها بالأمس إلى محله؛ فيجد هذه قريبة منه فتأخذه بها شفقة بعد أن تذكر ما كان منه بالأمس؛ فيحركها موقظا لها فإذا بها جثة هامدة!! ترفرف روحها في السماء. وهذه القصة تذكرني بقصة (بائعة الثقاب) لهانس أندرسون الكاتب النمساوي، وهي أيضاً حلم طفلة تضورت طوال يومها جوعا في البرد وفي ليلة عيد الميلاد ومع ذلك لم تبع شيئا من أعواد الثقاب التي تحملها فخافت أن تعود إلى أبويها؛ فجلست بجوار جدار وجعلت تستنشق رائحة الإوزة التي تشوى خلف جدار ذلك المنزل وتركت خيالها يدور حول ما فيه من طعام، وأحست بوطأة البرد فجعلت تدفئ أطرافها بإشعال أعواد الثقاب، وعلى ضوئه ابتدأت قصة حلمها فقد رأت جدتها الميتة التي كانت تحنو عليها وتحبها كل الحب وصارت تستنجد الجدة أن تأخذها عندها وأخيراً تستجيب لتوسلاتها. وفي الصباح ترى طفلة ميتة مرتكنة على جدار منزل، وما برح شفتيها ابتسامة الرضى؛ فقد كانت تنعم هناك قرب جدتها، ومع تقارب الفكرة في القصتين فلكل منهما طريقته وأسلوبه ولعل قصة أمين لا تقل روعة عن قصة هانس أندرسون
ولعل كاتبنا أبعد الكتاب تأثرا بالصور التي يأخذها للحياة عن طريق الثقافة بل يلجأ إلى الحياة نفسها ويتغمر بمشاعره بين شخصياتها إذ للكاتب معالجته الكثيرة في الحياة وصوره التي لا تنفد من فصولها ونماذجها الإنسانية التي تحس بحرارة حياتها ولفحات أنفاسها. بل تحس بأجوائه الشعرية العاطرة كأنك تعيش فيها.
بقي أن أقول إن مجموعته جديرة بأن يحتفل بها قراء العربية وأن كاتبها جدير بأن يحتفل به نقاد الأدب والقصة إذ في إنتاجه دليل على حيوية في القصاص المصري، وأمل كبير في أن تزاحم قصصنا الإنتاج القصصي العالمي. وما احسبني مغاليا فيما أقول.
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار