مجلة الرسالة/العدد 644/القَصَصُ
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 644 القَصَصُ [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 05 - 11 - 1945 |
أهذه قصة!؟. . .
سبيلك الجديد
للأديب عزيز الحاج
وأخيراً. . مزقتها ثائراً ثم محوتها محواً بعود ثقاب. . .
(مسكين أنت! لا تعرف من الحب غير اسمه الساحر الخلاب، تتوهم أنك فائز بأطايب الحب جميعاً وأنت محروم منها، محروم. وكيف ترضى أن تكتفي من حبيبتك ببسمتها الوضاءة، ونظرتها الحنون دون أن تهفو إلى ما وراء ذلك من المتع العذاب!؟
(لا، يا صاحبنا، لا! أضرم ثغرها بالقبلات الملتهبات، وضمها إليك ضماً يهدهد حواسك العطاش، وانظر إليها نظراتك إلى أنثى ناضجة، فاتنة، لا نظراتك إلى ملاك من نور).
ويصغي صاحبنا إلى أحاديثهم منكراً لها، مجدفا بها، حانقاً عليها؛ ولكنه يضمر إنكاره، ويخفف تجديفه، ويكبت حنقه، فيظنون أنه مقتنع، راض، ويتوهمون أنه سيلبي قريباً نداءاتهم المغريات. .
ويرحل الحبيب، ويتصدع منه الفؤاد، ولكن الرجاء يروح عنه. فهو يعرف أن الفراق لن يدوم، وأن القطار الذي مضى بالتي يهوى سيرجع بها بعد أربعة شهور. فالنأي المروع، أذن، لا يبطن اليأس الدامس، القتال، وإن كان - مع ذلك - يوجعه، ويبريه، ويذيقه اللوعة المرة، والهم الزعاف. .
ويجد أولئك (الأصدقاء) - قد ظل وحيداً - مجالا أفسح ليرددوا نغمات (الوعظ) و (الإرشاد) ماضين في ذلك دون أن يضجروا، أو يملوا، أو يضيقوا صدوراً بثباته العجيب وإخلاصه المكين.
(اهتد، اهتد يا صاح. فماذا تجني من هذا الوفاء الصوفي غير الأشواك والسموم!؟)
على أنه هو الآخر مصر على الوفاء، منطلق في الاسترسال مع هواتف الحب، واستحضار صورة الحبيب. . .
ولكنه إنسان! وإنسان يتعذب ويئن وينوح. فهو غير غني عن السلوى والعزاء، إن قلبه المصدوع سيودي به حتما إن لم يلتمس ألواناً من اللهو تذهله عن هواه ولو لحين. إن الوحشة السوداء تغلف لياليه والأيام، وإن اللقاء الموعود لن يتم إلا بعد أسابيع طوال مضنيات، فما أحوجه إلى العزاء - أي عزاء!
إنه لا يدرك كل ذلك، وقد ينكره إن يجابه به، ولكنه هو هو ما تهتف به نوازعه الخفية المهمة، وهو هو ما أخذ يهيمن شيئاً فشيئا على خوالجه الباطنة العميقة، وهو هو الذي مهد سبيل (المأساة). . .
أجل لقد ظلت، ظلت أسبوعاً كاملا، ما كنت أصغي في لغير نداء الجسد الحقير.
أبعدت الروح، فقلت للشهوات الراقدات: (هبي! هبي!)؛ وخاطبت المتع الترابية مردداً: (ضميني إليك، عانقيني. . هكذا!)؛ ونصحت الجسد الظمآن قائلا: (اغرف من الينبوع ما طاوعتك قواك، واحتس من الأباريق جهد المستطاع فمن يدري! لعل صاحبك يشمئز يوماً ما من هذه الحال، فيرتد عن ضلالة المبين ويهتدي إلى الحظيرة من جديد)
سعال عنيف، يتصاعد من صدر منهار، وعلى الفراش ثمة إنسان شاحب، هزيل، أضناه السقام، وشفه التبكيت، فيا للمريض!
إنه ليزيد نفسه تعذيبا بقراءة اليوميات (العذرية)، والتي كان يخطها بدمعه الثر، ودمه الغزير قبل فترة (الظلال) إن قرأتها تجسم له خطيئته، وتكبر زلته، وتوحي إليه أنه دنئ دنئ، فهو يتساءل متعجبا آسفا ثائراً: (أأنا الذي فعلت ما فعلت؟! أأنا - أنا الذي ما كنت أصبو ألا إلى السمو والتحليق - أمرغ نفسي في التراب المشوب والطين المهين؟!
(ويل لي! ويل لي من نفسي! وويل لي من الحبيب الذي خنت! وويل لي من الله!)
أيها الجسد الظمآن: ألم أقل إن صاحبك قد يبصر بعد عماه؟
. . . وهكذا مزقتك ثائراً، أيتها الصفحات، ثم محوتك محواً بعود ثقاب، أوديت بك في لحظة من لحظات ثورتي على نفسي وعلى أصدقائي الذين أضلوني؛ وفعلت دون تردد أو نكوص، أحرقتك لكي تصفيك النار، وتعيد إليك نقاءك المفقود، فأنت أيضاً قد دنست، وهم، هم أيضاً الآلي دنسوك، لقد لطخوك كما لطخوا صاحبك المأفون، الذي كان إليهم بين أيام وأيام، فيقرئونك ساخرين، صاحبك الذي أوحت إليه الغرارة والوهم
أن المعفر في التراب قدير على فهم عاشق السماء برغمي فارقتك، وبرغمي قضيت عليك، ولكن هيهات، هيهات أن أنساك!
هذا أيها العاشق سبيلك الجديد: الصمت المطبق والسكوت التام.
احبس عواطفك في حناياك، وأسدل بينها وبين الناس الحجب والأستار، وع - واذكر ذلك أبداً - أن الجسد لا يريد أن يفهم الروح، ولن يستطيع إن أراد
وأنتما، يا قلمه، ولسانه: صمتاً شاملا أبدياً كصمت القبر الرهيب في الليل البهيم، فقد جنى (المسكين) من ثرثرتكما أفانين النكد وضروب العذاب. . . ارحماه!. . .
عزيز الحاج
نزيل القاهرة