مجلة الرسالة/العدد 630/الأدب العربي في الهند
→ تطور بلاد العرب الشمالية | مجلة الرسالة - العدد 630 الأدب العربي في الهند [[مؤلف:|]] |
محرم الحكيم الاجتماعي ← |
بتاريخ: 30 - 07 - 1945 |
للأستاذ محمد يوسف البنوري
ربما يظن أن تقدم الهند في صناعة الأدب العربي والشعر ليس كتقدمهم في علوم الحديث والفلسفة، والمنطق، والرياضة، والطب، وما إلى ذلك من الفنون العقلية
حقيقة أن تقدمهم في كثير من العلوم العقلية القديمة قد أصبح منذ عهد قديم، بحيث لا يبارى ولا يجارى، وأضحت عبقريتهم في علوم الحديث مثلا في العهد الحديث منذ أوائل القرن العاشر للهجرة حين سرى الوهن في المجتمعات العلمية الدينية في البلاد العربية، غير أن ميزتهم الأدبية وبراعتهم في الشعر العربي على رغم أن البلاد أعجمية قد خفيت على كثير من رجال الأدب في البلاد العربية، ومع أن مآثر نهضتهم الراقية المزدهرة في خدمة اللغة العربية وتاريخ اللغة العربية، والأدب العربي لا تنكر ومقامهم فيها مشهود.
ومن العجيب أننا مهما حدثنا أحداً منهم بشيء عن رقيهم الحاضر في اللغة العربية والأدب العربي، سمع ذلك وهو في حيرة مطبقة يكاد يسرع إلى الرد بالنفي لو لم تحل دونه رزانة العقل
وما من شك في أن العصبية القومية إذا حلت مكاناً رحلت عنه فكرة الوحدة الإسلامية، فإذا باتت آراء قوم مقصورة على مفاخر قومهم ولم تعد مطالعة مزاياهم الخاصة؛ وعرتهم غفلة أو غفوة من أن يقفوا على مزايا إخوانهم في البلاد، انقطعت صلة الأخوة العالمية، ورابطة الوحدة، وتفككت عرى المواساة.
ففكرة العروبة التي نشأت حديثاً في الأفكار، وتتجلى بين حين وآخر على صفحات المجلات، كما أنها تنتج فوائد خاصة، تمنع كذلك من ناحية أخرى فوائد هامة بلاد العروبة أحوج إليها منها إلى تلك الفوائد الضئيلة أمامها؛ فلا يستتب نظام عام بين الأمم الإسلامية المبثوثة في أنحاء البسيطة الذي جاء به سيدنا المرسل إلى كافة الناس عجمهم وعربهم صفرهم وبيضهم عليه أزكى صلوات وتحيات مباركة. فمن الحتم اللازم أن يكون هناك نظام آخر يلوذ إلى كنفه وأحضانه سائر أقوام الأمة الإسلامية على حد سواء، حتى تمنح بلاد العروبة فوائد عظيمة وتنتظم قوى الأمة في الأنحاء قاطبة، فتصبح الأمم كأمة واحدة، وتدعم أركانها بدعائم الأخوة الموطدة كبنيان مرصوص لا يتزعزع بالقواصف الهوجاء والعواطف النكباء
ويكاد يكون عدم وقوفهم على الأدب العربي في الهند أثرا من آثار هذه الفكرة أو مثلها. كنت أردت أن أكتب كلمة في الموضوع هذا منذ نزلنا القاهرة من نصف عام، بل أكثر، ولكن حالت دونه الأمور التي لأجلها امتطينا صهوة الرحيل إلى مصر، وكتبت شيئاً في بعض المجلات والجرائد عن الحركة الدينية والنهضة السياسية في الهند، فوددت أن تكون رسالتي هذه إلى إخواننا المصريين وطلبة الأدب موضوع مقالتي في مجلة (الرسالة) الزهراء، وقد أزفت ساعة تفويض خباء الإقامة، فتكون مقالتي هذه في الرسالة رسالة وداع، والأمر كما قال النابغة:
أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما نزل برجالنا وكأن قد
لست أريد في هذه النهزة ذكر الأدباء والشعراء في الهند، أو سرد تآليفهم في الأدب وتاريخ الأدب العربي وسمو مكانتهم في التفكير الأدبي، أو البحث عن شعر نوابغ الشعراء منهم، والموازنة بين أشعار هؤلاء وهؤلاء في هذا الصدد؛ فإن ذلك يستدعي نطاقاً أوسع مما عندي، غير أني أذكر شيئاً من شعر بعض علماء المعهد الديني القديم في الهند، وأم المعاهد الدينية فيها (أريد بها دار العلوم) بديوبند بالقرب من عاصمة الهند (دهلي).
إن هذه الجامعة العربية الدينية، كما أصبحت مثلا أعلى في نهضة الدين والعلوم الشرعية، كذلك أصبحت قدوة في الحركة الأدبية وثقافة اللغة العربية، فظلت بقعة ديوبند، تلك الأريضة الطيبة، مرتعاً خصباً لطلبة الأدب، ونبغت فيها نوابغ الأدب وجهابذة اللغة ورجال الشعر. وكثير من السياحين الناطقين بالضاد والزائرين لهذا المعهد من علماء البلاد العربية، لما نزلوا هناك شاهدوا للأدب فيه وجوهاً باسمة، وطلعات وسيمة، ورأوا فيه للشعر العربي ارتياحاً، ولاقوا في ترحيبهم نغمات ترق لها قلوب من قصائد عربية أنطقتهم بكلمات طيبة تبدي شعورهم وتأثر نفوسهم بتأثرات دقيقة نحو هذه النهضة
وأخيراً، هذه البعثة الأزهرية قوبلت هناك بحفاوة واحتفال هز أعطافهم، وقام خطيبهم رئيس البعثة، فأثنى جميل الثناء على ما شاهد من نهضتهم وأبدى إحساسه العميق نحوهم على الرغم مما أبداه في تقرير البعثة لمصالح سياسية أدركناها
هذا المعهد العظيم بلغ شعره ألوف الأبيات عالم من علمائه في شتى نواحي الشعر، وهو إمام العصر الأستاذ المحدث الشيخ محمد أنور الكشميري رحمه الله. ومن الغريب أن هذه الناحية لم يتخذها كمالاً علمياً عكف عليه طول عمره، أو عرف به، لا بل مزيته هذه لا تعد مزية إلى ما خصه الله بجلائل النبل وآيات الفضل التي أصبح فيها نسيج وحده. ومع هذا له شعر بارع مطبوع عليه أبهة الشعر القديم بمتانة وفخامة مع انتقاء فصح الكلمات بانسجام رائق، مصوغ في قالب بديع، فترى له روعة وجمالا في حسن السبك، وصياغة الألفاظ، وأبعد به عن ركاكة في اللفظ، أو سماجة في التعبير، أو تفكيك في التركيب والنسق، أو اختلال في النظم والانسجام
نعم، إن شعره ترى فيه بريقاً يتألق من الشعر القديم، ولمعة من شعر المخضرمين، وربما تبدو فيه آثار من كلام المولدين مع فخامة في اللفظ وجزالة في المعنى
أجل، إنما الشعر لوعة فكر، ولمعة خيال؛ ولكل فكر منزع، ولكل خيال مذاق، وذلك أمر لا مندوحة عنه. ومن خصائص شعره أنه قلما تخلو قصيدة له عن عواطف حزينة تثير في القلوب رقة، كأن نفسه تذوب حسرات، ولا بدع، فكان عميق الشعور، دقيق القلب، ومن ثم نجد أكثر شعره وألطف شعره في الرثاء والبكاء، فكان كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم:
إذا تصفحت ديواني لتقرأني ... وجدت شعر المراثي نصف ديواني
لا يتسع النطاق لذكر سائر النواحي من شعره إلا أني أقدم هنا شيئاً من شعره في الرثاء وغيره لتنم نفحاته المسكية على حديقته الزهراء. قال رحمه الله في رثاء الإمام الأستاذ محمود حسن الديوبندي المعروف بشيخ الهند.
قفا نبك من ذكرى مزار فند معَا ... مصيفاً ومشتىً ثم مرأى ومسمعاً
قد احتفّه الألطاف عَطْفاً وعِطْفة ... وبورك فيه مربعاً ثم مربعاً
إلى أن قال:
وكان حشا أُذنيَّ دَرّاً وحكمة ... فتخرج من عينيَّ دمعاً مرصعاً
وقال:
فوافيت دهراً ثم دهراً بمنيتي ... وألفيت عمراً ثم عمراً ممتَّعاً
وقال:
فلله دَرّ الحبّ حتى أقامني ... أقول وأحكي أن في المض مطمعاً وقال:
وأذكر أيام المزار وأنثني ... على غصص في القلب حتى تصدَّعا
وقال:
يضيق نطاق في المراثي لحقِّها ... وثمَّ مجال كيفما شئت فاصنعا
وقال في مطلع قصيدة عصماء له في مديح رسولنا العربي الهاشمي عليه صلوات الله وسلامه:
برق تألق مَوْهِنا بالوادي ... فاعتاد قلبي طائف الإنجاد
أسفاً على عهد الحمى وعهاده ... تُولى على الإبراق والإرعاد
رِهَمٌ تناوح تارة ديم لها ... حتى غدا الأيام كالأعياد
هبّ النسيم على الربى فتضاحكت ... بشرى العميد عرارها والجادي
سنح الظباء فكاد يهلك مغرم ... حور العيون وعطفة الأجياد
وأكاد أشرق بالدموع إذا بدا ... هجر فتبكي الورق بالأسعاد
أسقي التلول وأستحثّ ركائبي ... وجدا على التأويب والإسآد
ومن شعره:
إمن عهد ربع طالْما كان أبكما ... أجبت بدمع حين حيا وسلما
ووجد تراه زورة بعد زورة ... على غصص الأزمان نادى وأبرما
وقفت بها صحبي وجددت عهدهم ... عسى إن عهداً ناء أن يتوسما
تهلل وجه الصبح يفتر ضاحكاً ... عن الثغر حتى كاد أن يتكلما
تباشير صبح أو تباشير مبسم ... تنفس عن روح وبشر تبسما
وما ثم إلا من حديث قديمه ... وتحديث اشجان ووجد تكلما
ورجع قواءٍ كاد مما أبثه ... وأسقيه دمع العين أن يتبسَّما
فقدت به قلبي وصبري وحيلتي ... ولم ألق إلا ريب دهر تصرَّما
ومن عبرات العين ما لا أسيغه ... ومن غلبات الوجد ما كان همهما
ومن نفثات الصدر ما قد بثثته ... ومن فجعات الدهر ما قد تهجما
فأذكر أزمان الرفاق وأنثني ... على كبدي من خشية أن تحطما تكففت دمعي أو كففت عنانه ... وصار يجاري الدهر حتى تقدما
فهل ثم داع أو مجيب رجوته ... يجاملني شيئاً دعا أو ترحما
وأظن، أن في هذا القدر الآن كفاية للبصير. وقد عزم (المجلس العلمي) بالهند أن يجمع كلام إمام العصر المرحوم ويرتب ديوانه ويطبعه نرجو الله له التوفيق.
ومن فحول شعراء هذا المعهد العظيم الشيخ حبيب الرحمن المرحوم مدير المعهد وله شعر رقيق اللفظ منسجم رائق جزيل المعنى. ومن العجيب إنه كان شديد الاشتغال بشؤون المعهد الإدارية ولكن مع هذا له شعر غزير يربو على أربعة آلاف بيت في غاية من اللطافة وحسن السبك ودقة النسيج وحلاوة اللفظ يكاد يظن إنه طول عمره كان عاكفاً على الشعر العربي، ويمتاز شعره عن شعر إمام العصر المذكور بالرقة والانسجام، وشعر إمام العصر يمتاز بالجزالة وفخامة الأسلوب، وشعره أقرب إلى شعر المولدين، كما أن شعر إمام العصر يشبه كلام المخضرمين. وأرى نفسي موفقاً في الفرق بين شعرهما إن قلت إن الشيخ المدير كان بحتري عصره، وإمام العصر فرزدق وقته. وديوان شعره مطبوع وإن لم تحل أشغالي دون مرامي عسى أن أنتهز فرصة وأقدم شيئاً من شعره لأخوان القاهرة والله الموفق.
محمد يوسف البنوري
الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالهند. وعضو (المجلس العلمي)
نزيل القاهرة