الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 630/محرم الحكيم الاجتماعي

مجلة الرسالة/العدد 630/محرم الحكيم الاجتماعي

بتاريخ: 30 - 07 - 1945


بمناسبة مرور الأربعين على وفاته

للأستاذ إبراهيم عبد اللطيف نعيم

هي سنة واحدة قضاها أحمد محرم في المدرسة، أو على الأدق في مدرستين: العقادين الابتدائية، فمدرسة الجيزة بالقاهرة، بعد أن تلقى مبادئ القراءة والكتابة في مكتب قرية الدلنجات من أعمال مديرية البحيرة وحفظ القرآن الكريم في الثانية عشرة من عمره.

وبعد هذه السنة جاءه أبوه التركي المرحوم حسن أفندي عبد الله بطائفة من علماء الأزهر يدرسون له النحو والعروض وسائر علوم العربية، وعكف من ثم على التراث الأدبي العربي في مختلف عصوره دارساً وحافظاً. هذه هي دراسة الشاعر الأولى، أو هذه هي مدرسته الأولى التي هيأته للشعر يقوله. . . ومنها انتقل إلى المدرسة الأخرى، مدرسة الحياة الكبرى التي كونته حكيماً اجتماعياً إلى أن انتقل إلى العالم الباقي. . .

وللحكمة في قيثارة الشاعر وتر واحد، عن هذا الوتر تصدر الحكمة والاجتماعيات في نغمة واحدة أو في أنغام مختلفة. . . سهمان ينطلقان إلى هدف واحد، هو تعمق الحكيم وشمول نظره، وما يكون المرء اجتماعياً إلا لأنه حكيم، وما يكون حكيماً إلا لأنه اجتماعي.

وفي المدرسة الكبرى، مدرسة الحياة راح الشاعر - من جديد - يدرس ويتعلم بالكثير من راحته، وسكون نفسه واطمئنان باله، وينفذ وراء بصره إلى أعمق ما تعرض الحياة من قضايا، وما تكن زوايا البشر من خبايا. . . كانت هذه الدراسة، وهي قطعة من حياته، أو هي حياته كلها - تأملاً، وشعوراً يستحيل عند فيضانه إلى تعبير جلي قوي تتمشى الحرارة في ثناياه، وتنبض الروح بين طواياه. . .

وكان جل ما تعرض عليه الحياة، تحت شجرة إلى جانب مقهاه الأثير في دمنهور أمام المحكمة الأهلية، حسبه منها، ومن الحياة، أن تفيء عليه ظلها ساعات في الصباح، ومثلها في المساء. لم يكن يحتمل جو المقهى إلا ريثما يأخذ الصحف والبريد بنظرة خاطفة، يهتز بعدها من الضيق فيحمل كرسيه ويطلب إلى الانتقال إلى (شجرة العرش) باسماً!

وننتقل إلى ظلال (شجرة العرش) لنراجع النفس فيما سمعنا ورأينا وعلمنا، ثم لنسكت، أنا في شأني، وهو في تأمله الهادئ العميق.

وكثيراً ما كنت استحضر فكرة ما - في موضوع الساعة، لأحدثه بها، فأتعقب ما لا أرى ببصري في الأرض وفي السماء. فكان يهز رأسه ويقول: قيد ما يحضرك. فإنه يقرها ساكنة، حتى تطلبها فتجدها في مكانها (مقيدة)!

ورغم ذلك فقد كان رحمه الله على قوة في الإرادة، ونفاذ في البصر، ويقظة في الشعور، إلى درجة تريح نفسه من العمل بهذه النصيحة. فكان أبدا على ثقة من العثور على (الفكرة) أو قل من (اصطيادها) أسمن وأغنى مما كانت حين سنحت له وخلاها. . .

في ظل هذه (الشجرة) وهي كالمرصد للفلكي، والمعمل للكيميائي، جعل الشاعر (يصطاد) عناصر حكمته الاجتماعية، ويتأمل في هذا النبع الفياض، من نفسه ومن الحياة ويشعر به شعوراً قوياً جياشاً، ثم يسوق تأمله وشعوره في حكمة هي الشعر، وفي شعر هو الحكمة، فيتقدم على كثير من الشعراء - أمام الناس جميعاً، حكيماً اجتماعياً يضع إصبعه على أخطر الأدواء، ويصف بالساحر من بيانه أنجع الدواء. . .

وما أريد أن أعود بالقراء إلى يومه الأول لأعرض عليهم فنون حكمته فيه. فلذلك مكانه من الكتاب إن شاء الله. وإنما أريد أن أعرض عليهم أبياتاً من قصيدة حديثه، هي قصيدة العصر، أو هي آلامه وآماله. .

وسبب هذه القصيدة - ومعذرة إلى القراء - مناظرة على صفحات (البلاغ) الأغر في حياة صاحبها المغفور له عبد القادر حمزة باشا رحمات الله ورضوانه - بيني وبين صديقي الأستاذ محمد السوادي في (العبقري) في الثراء، والزواج، والحب) من هو العبقري، وما شأنه؟ قلت يوم ذاك إنه رجل طليق، في الثراء والزواج والحب والحياة كلها. . . أو إنه بشر فوق البشر. . .

ورمى الشاعر ببصره فماذا وجد؟ وجد الوسط الأدبي في مصر يزخر بطوائف من المخبولين والممرورين والحالمين. . . هذا يستنشق الأثير، وثان يكرع الخمر الرخيص، وثالث يتعاطى الأفيون، ورابع يدخن الحشيش، وخامس يتمرغ في أوحال الرذيلة، وسادس وسابع. باسم العبقرية، أو وراء (أشباح العبقرية) كما يسميها جورج دهامل يجري كل هؤلاء المرضى والضعفاء. ولم يقل أحد إن العبقرية صحة، وصحيح - كما يقول المدافع عن الأدب - أن هذه السموم تولد عند آلاف البؤساء شعوراً ذاتياً بالعبقرية، ولكنها لم تهب العالم البشري كتاباً واحداً ممتازاً.

العبقرية تصيح كل يوم: (رباه! رباه!. . لم تركتني وحيداً)!؟

هذا هو العبقري في رأي جورج دهامل الأديب الفرنسي، وهذا هو أسلوبه، فانظر إلى العبقري في رأي شاعرنا الحكيم المصري، وهذا هو بيانه:

يقول القوم هذا عبقري ... وذاك مثقف وأقول: واها!

عيوب العبقرية من قضاها ... وآثام الثقافة من جناها؟

وهذا النور كيف تراه عيني ... ظلاماً يسلب الدنيا سناها؟

بهذا البيان نفى حكيمنا الاجتماعي أحمد محرم، من العبقري والمثقف ما يحاول الجهل أو الخبل أن يلصقه بهما من عيوب وآثام. . .

ولم يقف عند هذا الحد، فنظر إلى الشعوب ماضياً وحاضراً ومستقبلا نظرة هذه ترجمتها في الحكمة شعراً:

أرى ملك الشعوب يقوم فيها ... على أخلاقها، وعلى نهاها

ولنمض مع الشاعر إلى ما مضى إليه. . . هي فكرة قرنها إلى فكرة، وحقيقة صارخة تصيدها فقيدها بحقائق أخرى. قال:

رأيت نساءكم غلبت عليكم ... فأمسى الخزي قد وسم الجباها

عجبتُ لذي الحليلة راودته ... عن الشرف الرفيع، فما عصاها

وللأب مال بابنته هواها ... عن السَّنن السويّ فما نهاها

إهابة جازع على أول وأهم ركن في المجتمع. . . وأي خير في الأسرة إذا كان هذا حالها، أو إذا انتهت إلى هذه الحال؛ ولماذا لا ينعى دولة الرجال فيقول مقرراً في أسف وألم لا يحس بهما غير الرجال:

وما عند الرجال قضاء أمر ... إذا قضت النساء على لحاها

وماذا بعد هذا مما يرضاه الحكيم الاجتماعي؟ لا شيء إلا أن يقول:

برئت إلى المروءة من بلاد ... تبلد شيخها، وغوى فتاها

ولكن هذا هو الداء، فما هو الدواء؟ هو أن:

أعيدوا الدين سيرته وشدَوا ... عرى الأخلاق إذ وهنت عراها وردوا بالزواجر كل غاد ... إذا وضحت له المثلى أباها

فبهذه الوسائل مع الدين، أو في الدين تعاد إلى الرجل دولته، وتحل المرأة في محلها، ويساق الأنباء إلى الجادة في أثرهما. . .

ولكن كيف ذلك وهو يقول ولا ينكر عليه أحد ما يقول:

لبئس القوم ما حفظوا كتاباً ... ولا عرفوا رسولا أو إلها

ولم يكن يقصد مصر وحدها، فالعروبة كلها قصده، وهذا العالم الإسلامي المترامي هو - قصيدته - مجال آلامه وآماله. . . لذلك يتساءل بعد هذا كله ولكل جوابه عليه:

وما تبغي العروبة من شعوب ... إذا ذكرت لشاعرها بكاها؟

هذا هو (محرم الحكيم الاجتماعي) في أبيات من الشعر، و (لشاعر العروبة) قصة أليمة، محيرة، في ديوانه (مجد الإسلام) نرجو أن نقدمها إلى الرأي العام في فرصة أخرى إن شاء الله.

(دمنهور)

إبراهيم عبد اللطيف نعيم