مجلة الرسالة/العدد 62/بين الشك والإيمان
→ رسول الوحدة العربية! | مجلة الرسالة - العدد 62 بين الشك والإيمان [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 10 - 09 - 1934 |
الشاعر الإنجليزي بيرون
(1788 - 1824)
للأستاذ خليل هنداوي
روح هائمة ونفس معذبة طغى عليها الشك في جميع أدوارها، فارتعشت واضطربت وجدفت، وما تجديفها إلا صدى تلك الحرقة الملتهبة في قلب الشاعر الذي يريد أن يزيح ذلك الغطاء عن الحقيقة المحتجبة.
قضى الشاعر طفولته الأولى حراً لا تقرعه عصا الأبوة، لأنه نشأ تحت رعاية أم كثيرة الإشفاق عليه، دخل المدرسة وشيطان الشعر والفن أخذ يوسوس له ويقويه وهو لما يلبس أردية الشباب، فأنفق أيامه يزجي الفراغ متسلياً بالنظم لاهياً بالطرب. وفي هذا العمر الزاهي تسرب إليهالشك ودعاه زهوه إلى الجحود، فجحد باليوم الآخر وحطم قيود التقاليد. ولكن سرعان ما أعياه التفكر في حقائق الوجود وكم أعيت من قبله؛ فتعب من نفسه وهو الرقيق النفس، وتعب من الناس وهو ذو الروح الشاعر.
هجر وطنه وفي خلال هذه الهجرة بدأ ينظم مقطوعته الخالدة (طواف شيلد هارولد)
ومن هو هارولد؟ (هارولد عرفه الناس شر من جاور الناس، يعيش مستقلاً عنهم مزهواً بيأسه، يعرف كيف يتلمس الحياة في زوايا نفسه. كذلك الكلداني الذي أرسل عينيه في النجوم، وما زال يحدق فيها حتى أسكن نجومها المضيئة كائنات مثلها مضيئة، فإذا استطاع أن يرقى بنفسه في هذا الأوج كان سعيداً، ولكن الطين الذي جبل منه يثقل عليه، وتراه - وهو الراغب في النور الساطع - يبتغي أن يهدم السد الذي يحول بيننا وبين السماء، تلك السماء التي تتفتح لنا في أعاليها عوالم مضيئة. وأنه لهائم في منازل بني الإنسان يغلب عليه القلق ويزعجه التعب؛ مظلم النفس كثير الهم كاسف اللون كالصقر المهيض الجناح لا يجد له وطناً إلا الفضاء الفسيح، فيأخذه هيمان يسلبه عقله، فهو يريد إنقاذه منه، فيهيج ويدأب كالطائر الذي يقرع قضبان قفصه فيصبغ كساءه بدمائه، ونفسه السجينة المضطرمة أخذت ترتشف هذه الدماء، دماء قلبه. . .)
فأي فتى يتوارى وراء هذه الأبيات؟ هل هو غير الشاعر؟ وكل من قدر له أن يتذوق ما وراءها من يأس ومرارة يحس أن الشاعر لا يستطيع أن يخرج عن نفسه، لأنه يستمد كل عوامل نظمه من نفسه، فلندعه يخلق الأشخاص ويولد الأبطال. فلن ترى وراء هؤلاء كلهم ناطقاً غير الشاعر، ولا قانطاً غير الشاعر، فهو ذلك الفتى النبيل الذي غامر في ملذاته حتى عاده السأم، والسأم داء يقتل في المسرات كما يقتل في الأشجان، فتراه يهجر عالم الإنسان كالمسحور (هائماً وراء أحلام مظلمة، يخنقه السرور ويهفو إلى الشقاء والحزن لأنه يجد فيهما مروحاً عن نفسه، مغادراً وطنه، حاملاً معه إلى المواطن التي وطئها - وهي الأنس ومرابع النزهة - فكرته التي تسعى وراءه كأنها شيطان لاحق به).
عرج على الأندلس ونزل في (أثينا) مدينة الفلسفة، وهنالك استفزته هذه المشاهد التي تحمل طياتها التراث الفكري الذي استلمه الحاضر من الغابر. وهذه المشاهد هي التي أوحت إلى (رينان) صلاته الخالدة، وفجرت في قلب (شاتوبريان)
ينابيع العاطفة والتصور. هنالك وقف (بيرون) إزاء هذه الآلهة المتناثرة على الحضيض، فسخر من الإله الموجود والإله المفقود.
يا أبن يوم واحد! انهض وأدن مني. . . .
أنظر إلى هذا المكان. . . هو وطن شعب، ومأوى آلهة تبعثرت هياكلهم.
الآلهة نفسها تتلاشى، ولكل شريعة أجلها. . .!
بالأمس ساد (جوبيتر) واليوم يسود (محمد) والعصور الآتية ستتخذ لها من مذاهب القوم مذهباً حتى يجيء عصر يجد فيه الإنسان أن ما يضرمه من بخور ويهدره من أضاحي يذهب عبثاً!
أيها الولد الحقير! يا قذفة الشك والموت! يا من يتوكأ رجاؤه على أقدام من قصب. . . .!)
وقف الشاعر إزاء (البريتون) وتحت قبته المنقوبة فرحب بالعدم وجعل عصره خير عصر لنا وغده خير غد لنا. فقال: (هاهنا قبة العقل، هاهنا مأوى النفس. كل ما كتبه القديسون والسفسطائيون والعقلاء، أقادر على أن يعمر هذا الجوب المنعزل؟ ألا إن الراحة تنتظرنا على شواطئ (الأشيرون). هنالك لا يكره الذي شبع من الحياة على أن يستوي على هذه المأدبة المملة، ولكن السكون يعد ذلك المرقد الذي يحمل للجالس عليه السبات الأبدي).
ولكن بيرون لم يكن بذلك الجاحد الذي استراح ضميره وأراح، فالحيرة لا تزال تغشاه، والتردد لا يزال يطغى عليه كأنما اتسع قلبه لنوازع يأكل بعضها بعضاً، ويدمر بعضها بعضاً، شأن الذي يركبه الشك، ويتوارى عنه اليقين. وإنما يتميز بيرون من غيره من شعراء الشك بثورة دامية في نفسه يقدم وقودها من قلبه ليحرق بها قلبه، وهو قلب قتله الظمأ إلى اللانهاية، هذا الظمأ الذي عجزت عن إطفائه سواقي الأرض.
قال (لاميني) لزملائه يوماً: أتعرفون ماذا جعل الإنسان أشقى الكائنات؟ هذا لأن له قدماً وضعها في العالم المتناهي، وأخرى في العالم اللامتناهي، وهذه هي حالة بيرون.
ولكن وجه الغرابة في ثورة بيرون أنها اضطرمت في صدره ولما يبلغ الثامنة عشرة، وحق لمثل هذه الثورات أن تثور على مهل لأنها تأخذ غذائها من العاطفة لا من العقل. وقد طغى اليأس عليه وهو مازال في ميعة الشباب ولكن قلبه يخفق ويخفق معلناً (أن الشباب ولى، وأن الحياة بليت، وأن الرجاء نفسه قد أسدل على وجهه حجاباً.)
جاز بيرون بأحد القبور فقال: (يا أحلام طفولتي! كم حسرة تتصاعد مني عليك. أنا لا أستطيع أن أنساك، لأنني أجد ما حولي ظلمات متراكماً بعضها على بعض، لا شيء أعز على قلبي منك يا شعاع الماضي.)
وكتب وهو في فينوس (إنني سأنفق شبابي حتى ينفد، وبعدئذ أقول: عمي مساء أيتها الحياة، فقد عشت وكنت مسروراً.)
ولكن يا له من سرور! وهو القائل (أتيقظ في كل صباح وبي يأس وسآمة من كل شيء حتى من الذي يبطن سهدي بالسرور.)
مم يشكو الشاعر؟ وما هي الأسباب التي أورثت قلبه هذه السآمة وهو ممن لم تعوزهم أسباب الهناء، ولا ممن نزلت بهم حوادث الدهر، وهذه المواطن التي جابها في سياحته تشفي البائسين وتداوي أصحاب الهموم، ميدان الهوى أمامه رحب الفناء، ومجال الحرية والمجد والبراعة واسع الفسحة، فأية سعادة يطلبها، ويلح في تناولها، ويشقي نفسه في تتبعها، وأين يجب أن يتحرى عنها إذا لم يجدها هنالك؟
قد علل بعض النقاد أسباب هذه المظاهر بإفعام نفسه بالسرور الذي يخلق السأم، ولا عجب إذا قتل السرور الكثير صاحبه كما يقتل الحزن صاحبه، ولنسمع الشاعر نفسه يعلل هذه السآمة قائلاً:
(وا أسفاه! عواطفنا الفتية تذوب ضائعة، حيث لا تنتج إلا قفراً فارغاً، ولا ينبت منها إلا أشواك مؤذية. . . ونبات بقدر ما يروق للعين منظره، يؤذي القلب ويؤلمه. وأشجار يقطر منها السم القاتل، هذه الأشجار التي تولد تحت أقدام الأهواء.
أيها الحب! لست أنت من سكان هذا الوجود! أيها الساروفيم الذي لا يرى، نحن نؤمن بك. أنت شريعة أصحاب القلوب المنكسرة فيها، هم الشهداء، ولكن العين لا تراك، ولن تراك بحقيقتك.
الحب هو هذيان، وهو جنون الشباب، لكن علاجه أمر من عذابه، وعند ما نرى تلك الجواذب تتلاشى الواحدة بعد الثانية من أصنامنا الغرامية، وعندما نرى تلك الروعة التي كانت تتمثلها مخيلتنا في حالة التسامي قد زالت، فسرعان ما يذهب هذا الانجذاب عنا، وبعد أن زرعنا الريح لم نحصد إلا العاصفة.
يأتينا الذبول ونحن في فجر العمر. . . نشقى ونسأم ونسعى إلى الغاية، والغاية تمعن في الفرار. . . وظمئونا لا ينقع غلته شيء. . . وفي اللحظة الأخيرة، ونحن على حافة القبر يعودنا خيال جميل هو خيال السعادة التي تحرينا عنها في مطالع الحياة، ولكنه زاد متخلفاً، وجاد بالوصل حين لا ينفع الوصل، فنذوق الشقاء مرتين. . .
الحب والطمع والبخل، كل هؤلاء سيء، ما هي إلا شهب واحدة تجيء باسم واحد. والموت وحده هو الدخان القاتم الذي يطفئ نارها.)
ما أدنى هذه العواطف من القلب، لأنها ما خرجت من قلب إلا لتدخل في قلب. . . ولكن بيرون المظلم قلبه ما وجد على الأرض إلا الظلام؛ وما أبصر إلا خيال السعادة مولياً أمامه، فقيد الحقيقة - التي هي حقيقة الدهر - بهذا الخيال. وهو الشاعر قبل أن يكون فيلسوفاً. ولكن هل كل جمال مآله الزوال؟ أكل حب يستقي من نبعة واحدة، فهنالك أنواع كثيرة لجمال يزول وجمال يبقى، وحب يتلاشى وحب يحيا، فبأي نوع قيد الشاعر سعادته؟
هاهو حائر كيف يقضي أعوامه هنا؟ وكيف يستقبل ذلك العالم الهامد؟ يأتيه الضجر فيبدع أشخاصاً وأبطالاً تغلي فيهم نزعة الضجر لأنهم يستمدون عواطفهم من عاطفته.
فهذا (ما نفرود) يملك عليه السأم، سأله الجني: ماذا تتمنى؟ فأجابه: النسيان، نسيان نفسي.
وهذا هارولد كان يدعى: (الفتى السائم من الوجود) وهذا (جيور) كان لا يجد أقفر من صحراء القلب الفارغ.
وأخيراً آل به هذا الشك إلى جحود كل شيء، فخلا قلبه من الحب وفرغ من الأمل. واستحالت كل هذه الصفات النبيلة إلى كره للبشر، وهل في استطاعة من كرههم وأوسعهم ذماً أن يبدلوا ظلمة قلبه نوراً إذا لم يكن النور ابن قلبه؟
لنصغ إليه وهو يحدثنا عن الناس (هل أعود إليهم كرة ثانية أتحرى عما يرجوه قلب هادئ في هذه المواطن التي يغلب فيها إنهاك أصحابها في المنكرات، وحيث الضحكات ترتفع عبثاً لتخفي حقيقة القلب. هذه الابتسامة هي تؤلف أخدوداً لدمعة طافرة ستنسكب).
لم يستطع أن يحمل نفسه فطار بها في الآفاق يسليها بالوحدة فطابت له حياة منعزلة تقصيه عن الناس في مواطن آهلة بالجيال التي يدعوها أصدقاءه، منتحياً عن قوانين وحكومات أقسم ليكرهنها حتى يقضي نحبه.
وكان هذا الألم قد أكسبه قوة ومناعة (أما الجمل فإنه يحني ظهره تحت الحمل يمشي ساكتاً، والذئب يموت ساكتاً، ونحن الأولى تسمو جبلتنا على جبلتهم، لنتعلم أن نتألم مثلهم)
ويقول بلسان أحد أبطال روايته (إنني شبيه بهذه الريح المشتعلة التي لا تسكن إلا الصحراء، ولا تهب لوافحها إلا على الرمال. . الأسد وحده أتخذه لنفسي مثلاً) وبمثل هذا الكبرياء حلى بيرون أبطال رواياته، وجعلهم ناقمين ثائرين غير راضين عن الوجود، فأتعب نفسه كثيراً وأتعبهم كثيراً. فإذا كان القعود عن الشيء يعد عجزاً فإن التحليق فوق حدود الإمكان ما هو إلا ضرب من ضروب العجز، وأن يرفض الإنسان الوجود رفضاً باتاً بحجة نقصه، وأن يهرب منه ومن أصحابه بداعي هذه الحجة هما من نقائص النفس التي تستر عجزها وترددها وراء هذا التهور الفارغ.
هذا هو الوجود؛ إن وجدت فيه الجميل فاملكه، وإن وجدت القبيح فحسنه وأصلحه، وإياك أن تعف عن الأول بسبب الثاني، لأن قوانين الحياة قاسية تسحق من يحاول أن يسحقها. هكذا أرادت أن تكون، وهكذا تريد أن تمشي.
وفي النهاية لا تجدي هذه الكبرياء شاعرنا شيئاً، فهو تعس يود أن يعترف بتعسه لنه لا يستطيع أن يمشي كالجمل ساكتاً أو يموت كالذئب صامتاً. فيقول:
(ما أشد تعسي؛ أيامي أمست تجري على وتيرة واحدة، وليالي اقضيها بالسهاد، لا أخالط المجتمع البشري إلا قليلاً، إذا جاءني أحد منه لذت بالفرار. . إنها لحال مؤلمة لا ينقذني منها إلا الجنون)
كل هذه الأهواء الصاخبة، والأنات المتصاعدة يرسلها الشاعر وراء محبوبته، الحقيقة. . ولكن أين يجدها؟
(بيروت)
خليل هنداوي