مجلة الرسالة/العدد 62/العلوم
→ بين الشك والإيمان | مجلة الرسالة - العدد 62 العلوم [[مؤلف:|]] |
الضيف. . . ← |
بتاريخ: 10 - 09 - 1934 |
1 - التلفزة في عهدها الأول
للأستاذ محمود مختار
بكلية العلوم
مقدمة:
ليس لعالم اللاسلكي حد ينتهي عنده. فهو يأتينا كل يوم بمعجزات لم تخطر على قلب بشر. فما كاد وليده بالأمس يكبر ويترعرع ويلعب دوراً جدياً في الحياة يملأ الدنيا بهجة وسروراً بما ينشر من موسيقى شجية وأحاديث عذبة ومسامرات طريفة، أقول ما كاد هذا الوليد يكبر حتى قال الإنسان الطماع (لو أن لي أن أرى ذلك الذي يشجيني بتلك الموسيقى، ويبعث إلي بأحاديثه. لو أن لي أن يكشف عن بصري كما كشف عن سمعي. إذاً لكنت إنساناً آخر). وسرعان ما وصلت هذه الأحلام إلى العقل البشري الجبار حتى يقوم لفوره يقول (ليس في الوجود معنى لكلمة مستحيل) فلم تكن كلمته محض هراء وهو الذي لا يلقي الكلام جزافاً.
ففي سنة 1926طلع علينا العالم الإنجليزي الكبير جون بيرد بجهازه الأول في عالم التلفزة وعرضه بالمعهد الملكي في لندن ونقل به صوراً لأجسام بسيطة كانت موضوعة بغرفة مجاورة. وبالرغم مما كانت عليه الصورة المتلفزة من صغر واهتزاز وعدم وضوح، كانت فكرة جبارة جريئة شغلت العالم بعدها وملأت الرؤوس فقام الكثير يعمل على تحسينها وإنمائها فلم يمض عليها بضعة أشهر حتى قامت مصلحة التلفونات والتلغرافات الأمريكية بعرض هائل لتلفزة بعض الجسام ما بين واشنجتون ونيويورك، وقد كان من بين من اشترك في هذا العرض ما لا يقل عن ألف مهندس كهربائي.
تخطى الوليد دور المهد بعد سنوات ثلاث تحت رعاية مخترعه الأول الذي تمكن من إذاعته مع أخيه الأكبر بنجاح تام من محطة للإذاعة اللاسلكية في لندن على موجتين مختلفتين كما استقبلهما بجهازين منفصلين أيضاً.
ولأترك الآن النقطة التاريخية في الموضوع لأنتقل إلى شرح جهازي بيرد للإرسال والاستقبال كل على حدة. ويلاحظ أن التلفزة يقصد بها إرسال الصور الثابتة أو الأجس المتحركة على حد سواء كما يمكن أن تنقل بواسطة أسلاك أو بدونها.
وتأخذ عملية الإرسال ثلاث خطوات. نبدأ أولاها بتقسيم الجسم المتلفز إلى مساحات صغيرة، وثانيتها بتحويل الأضواء المنعكسة من هذه المساحات إلى دفعات كهربائية، وثالثتها بتكبير هذه الدفعات وإذاعتها على التعاقب بواسطة أسلاك أو بالأثير إلى جهاز الاستلام.
وللاستلام خطوات ثلاث أيضاً هي بنفسها خطوات الإرسال مأخوذة في الاتجاه العكسي. فتبدأ باستقبال هذه الدفعات الكهربائية من الأثير وتكبيرها ثم تحويلها إلى دفعات ضوئية، ثم أخيراً جمعها وإعادة تركيبها لتخرج صورة الجسم المتلفز.
ولأبدأ ببحث كل من هذه الخطوات على حدة متدرجاً من أبسط الأجهزة إلى ما تطور منها.
جهاز الإرسال
فلتحليل الجسم المتلفز - ولنفرضه الصورة أ1 أ2 ي2 ي1
شكل (1) - يستعمل القرص المثقب ويكون عادة من معدن
خيف كالألمونيوم ويبلغ قطر دائرته حوالي 40 سنتيمتراً
ويحوي قرب حافته المستديرة ثلاثين ثقباً صغيراً مربعاً تقع
على منحن على شكل لفة مفردة من حلزون صغير الزاوية
كما هو مبين بالشكل، ويوضع الجسم المراد تلفزته خلف هذا
القرص كمايوضع أمامه ضوء قوي من قوس كهربائي.
ويكون موضعي الجسم والضوء بحيث أن الخط الواصل
بينهما يكون متعامداً على مستوى القرص وماراً بأحد ثقوبه.
ويدار هذا القرص بسرعة منتظمة قدرها 12 12 دورة في الثانية بواسطة محرك كهربائي مركب على محوره.
ولنفرض الآن أن القرص في موضع بحيث أن شعاع أضوء المر من المربع (1) يقع على النقطة (11) على الجسم فيضيئها، وتعكسه هذه بقوة تتناسب مع قدرتها على العكس، فإن كانت قاتمة كانت نسبة الانعكاس صغيرة، أو ناصعة كانت نسبتها كبيرة. فإذا تحرك القرص في اتجاه بحيث يحمل معه المربع (أ) إلى أعلى تحرك تبعاً له شعاع الضوء الساقط على الجسم إلى أعلى فيضيء على التعاقب نقطاً من الجسم تقع على خط رأسي حتى إذا ما انتهى عند حافة الجسم العليا عند (أ 2) بدأ شعاع آخر يخرج من المربع ب ويقع على الجسم من أسفل عند (ب1) الملاصقة للنقطة (أ1) وهذا هو الغرض من وضع ثقوب القرص على لفة من حلزون حتى يكون كل ثقب مزاحاً عن سابقه بقليل بحيث يرمي شعاع الضوء الخارج منه على نقط ملاصقة لنقط الثقب الذي قبله.
فإذا ما أتم القرص دورة كاملة شاهدنا ظهور الضوء أولاً عند (أ1) ثم سيره إلى (أ2) ثم اختفاءه وظهوره ثانياً عند (ب1) وسيره إلى (ب2) ثم اختفاءه وظهوره عند (جـ1) وسيره إلى (جـ2) وهكذا حتى (ي2) وبذلك تكون كل نقط الجسم قد أضيئت على التعاقب، ويمكن أن نشبه حركة النقطة المضيئة على الجسم بحركة العين عندما تقرأ كتاباً كتبت أسطره في اتجاه من أسفل إلى أعلى.
وعند ما يأخذ القرص سرعته العادية (12 12 دورة في
الثانية) لا يمكن للعين أن تتبع حركة هذه النقطة المضيئة على
الجسم بالتفصيل، ولا حتى هذه الخطوط الرأسية المتلاصقة
المتتابعة. بل سيخيل إليها أن الجسم كله مضاء إضاءة واحدة
منتظمة من مصدر واحد مستمر.
ويوضع عادة بين الجسم والقرص عدسة لامة تعمل على جمع الأشعة الخارجة من الثقب على نقطة واحدة من نقط الجسم كما يغطي مصدر الضوء حتى لا يتسرب منه ضوء إلى الجسم بطريق غير طريق الثقب.
وقد وجد أن هذه الطريقة تستلزم مصدراً ضوئياً قوياً إذ أن الجزء الساقط منه على الجسم صغير، وهذا يسبب قلة استضاءة الجسم. هذا فضلاً عن أن هذه الطريقة تستلزم أيضاً وضع الجسم المتلفز في ظلام حالك لا يتسرب إليه أي ضوء خارجي وذلك مما يمنع تلفزة أجسام موضوعة في ضوء النهار. فنقحت هذه الطريقة بإضاءة الجسم ذاته من مصدر الضوء ثم وضع عدسة أمامه لتكون له صورة تقع على حافة القرص المثقب. بحيث لا يمكن أن تغطي أكثر من ثقب واحد في أي موضع من مواضع القرص كما هو مبين بشكل (2) ففي أي موضع من مواضع القرص ينفذ من ثقب واحد منه شعاع ضوئي تتناسب شدته وشدة استضاءة نقطة الصور الباعثة له. وبحركة دوران القرص يسير كل ثقب على الصور على التعاقب في اتجاه رأسي من أسفل إلى أعلى حتى إذا ما خرج من حافة الصورة العليا بدأ الثقب الثاني له يظهر في أسفل الصورة ليمسح من الصورة خطاً رأسياً آخر يلاصق الأول وهكذا حتى إذا ما أتم القرص دورة كاملة أرسلت من ثقوبه على التعاقب أشعة تمثل في شدتها وضعفها شدة استضاءة نقط الصورة كلها.
وفي السنوات الأخيرة استبدل هذا القرص المثقب بعجلة على شكل الطبلة تتثبت على حافتها الخارجية مرايا مستوية صغيرة بعدد ثقوب القرص تميل كل منها بزاوية صغيرة جداً على سالفتها شكل (3) فتعكس الضوء الساقط عليها من المصدر على نقطة واحدة من نقط الجسم بمساعدة عدسة لامة وبدوران العجلة تمسح أشعة الضوء المنعكسة من المرايا المتعاقبة الجسم المتلفز بطريقة تشبه تمام الشبه الطريقة الأولى للقرص
كذلك استعمل لنفس القرص حلزون المرايا وهو شكل ثان لطبلة المرايا. وميزة أجهزة المرايا هذه أنها لا تشغل فراغاً كبيراً.
وبأي طريقة من الطرق السالفة لتحليل الجسم المتلفز إلى نقط
صغيرة نجد أن كل عملية التحليل لا تستغرق سوى 1 من 12
12 جزءاً من الثانية كما أسلفت. ومعنى هذا أنه يرسل للجسم
12 12 صورة في الثانية الواحدة. فأن كان متحركاً اختلفت كل صورة عن سابقتها اختلافاً طفيفاً بحيث أنه عند عرضها
في جهاز الاستقبال بنفس السرعة 12 12 صورة في الثانية
تظهر للرائي حركة الجسم كما هي الحال في ظهور حركته
بواسطة آلة السينما مثلاً.
هذه الأشعة المنعكسة من الجسم المتلفز في حالة القرص الأولى أو المارة من ثقوب القرص في حالة طريقة القرص الثانية أو المنعكسة من المرايا في جهاز طبلة المرايا أو حلزون المرايا. كل هذه الأشعة تتحد في خاصية واحدة كما أسلفت، وهي أن كلاً منها تمثل في تغيراتها من حيث الشدة والضعف اختلاف نقط الجسم المتعاقبة من حيث الضوء والظلام. وعند هذه تنتهي الخطوة الأولى من خطوات الإرسال.
هذه الأشعة الضوئية المتعاقبة التي حصلنا عليها. نريد الآن أن نحولها إلى دفعات كهربائية تختلف شدة وضعفاً تبعاً لاختلاف شدة هذه الأشعة. وهذه هي الخطوة الثانية من خطوات الإرسال.
العين الكهربائية أو ما نسميها علمياً بالخلية الكهرضوئية هي المحور الأساسي والجزء المهم في جهاز عرض السينما الناطقة. ولها أنواع كثيرة منها ما هو مبين بشكل (4). وهي عبارة عن انتفاخ زجاجي مفرغ من الهواء أو به غاز مخلخل وتحوي قطبين بداخلها، أحدهما يبطن الزجاج من الداخل ويسمى الكاثود ويكون عادة من معدن البوتاسيوم، أو الصوديوم، أو الربيديوم أو السيزيوم. والقطب الآخر وهو الأنود، ويكون عادة على شكل سلك رفيع في وسط الانتفاخ. ويوصل الأنود هذا بالطرف الموجب من جهد كهربائي عال يتراوح بين100 و150 فولتاً، ويوصل الكاثود بطرفه السالب. ولهذا الكاثود خاصية غريبة، وهي أنه إذا ما سقط عليه ضوء انبعثت منه ألكترونات واتجهت نحو الأنود، وتسبب تياراً في دائرته تتناسب قوته مع شدة الضوء الواقع على الكاثود.
فإذا ما سلطنا الأشعة الضوئية المتعاقبة التي حصلنا عليها سابقاً من تحليل الجسم على كاثود هذه الخلية سببت تيارات كهربائية في دائرة الخلية تتغير تبعاً لاختلاف نقط الجسم المتلفز بالنسبة للضوء والظلام، وتكون هذه التيارات عادة ضعيفة جداً، أي إنها لا تتعدى بضعة ميكروأمبيرات (الميكرو أمبير يساوي واحداً من مليون من الأمبير). لذلك كان من الواجب تكبيرها قبل إرسالها، وهذه هي ثالثة خطوات الإرسال.
أما كيفية تكبيرها وإرسالها فهذا موضوع آخر يختلف تمام الاختلاف في بحثه عن موضوع اليوم. وهو موضوع قائم بذاته يتطلب دراسة وافية لعلم الصمامات. فكل ما يهمنا الآن هو أن نعلم أن هذه التيارات الكهربائية المتغيرة المارة في دائرة الخلية الكهرضوئية تؤخذ إلى هذا الجهاز المكبر ومنه إلى جهاز الإذاعة حيث تذاع في الأثير بنفس الطريقة التي تذاع بها الأمواج اللاسلكية. ومن ثم إلى جهاز الاستقبال وموعدي به الرسالة القادمة.
محمود المختار