الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 612/سياسة التعليم ووحدة الأمة

مجلة الرسالة/العدد 612/سياسة التعليم ووحدة الأمة

مجلة الرسالة - العدد 612
سياسة التعليم ووحدة الأمة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 03 - 1945


للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

- 2 -

لم يقتصر أمر التعدد في معاهد المرحلة الواحدة من التعليم مع ما يصحبه ذلك التعدد من اختلاف ثقافات المدرسين على تعليم البنين، بل سرى نفس الداء إلى معاهد البنات كذلك. خصوصاً في المرحلة الثانية منها حيث وجدت مدارس الفنون الطرزية ومدارس الثقافة النسوية والمدارس الثانوية والأوليات الراقية والتربية النسوية ومدارس المعلمات الأولية وغيرها، وحيث وجدت في هذه المدارس طوائف مختلفة الثقافات من المعلمين والمعلمات اللواتي تخرجن في مدارس التدبير بأنواعها والتعليم العام الإضافي ومدرسة المعلمات والسنية ومعهد التربية والفنون إلى غير ذلك مما أدى إلى تفكك تعليم الفتاة بسبب تعدد المعاهد وعدم انسجامها وقلة توافقها وترابطها، فخلقنا جواً ملائماً كل الملاءمة لتفاوت الطبقات في معاهد البنات كما سبق أن خلقناه في معاهد البنين مع أن الوظيفة الأساسية للمرأة في الحياة تكاد تكون محدودة معروفة وهي طبعاً الزوجية والأمومة. وكان لهذا كله أثره القوي الفعال في خلق التنافر والقضاء على التعاون بين الأفراد المثقفين من أبناء الأمة الواحدة وبناتها ذلك التعاون الذي هو أساس بناء وحدتها وعماد نهضتها قي كل أعمالها ومشاريعها التي تنهض بها الجماعات والطوائف المختلفة.

ولقد بدأ الاضطراب في سياسة إعداد المعلمين والمعلمات للتعليم العام في هذا البلد منذ ألغيت المدرسة السنية للمعلمات ومدرسة المعلمين العليا التي خرجت في نحو ربع قرن من الزمان عدداً كبيراً من رجال التعليم اضطلعوا ولا زالوا يضطلعون بأكبر قسط في تثقيف الناشئين في مختلف المدارس والمعاهد. ولم تستطع مصر مع الأسف أن تحصل على ما يسد فراغ هاتين المدرستين؛ فمعهد التربية العالي بشقيه الذي قام على أنقاضهما ليعد معلمين ومعلمات للتعليم العام لا يلتحق به إلا طالب منته من الدراسة في إحدى كليتي الآداب أو العلوم بالجامعة. وأنّى لطالب منته في إحدى هاتين الكليتين راغب في ولوج معترك الحياة العامة بعد الدراسة الطويلة أن يفكر في إعداد نفسه من جديد ليكون معلماً! أنَّى له ذلك وحظ المعلمين من متع الحياة ومتع الوظيفة ضئيل لا يُقدم عليه إلا من أكرهته الظروف للالتجاء إليه! لهذا كان الانصراف عن المعهد خصوصاً من خريجي كلية العلوم الذين تتخاطفهم الشركات. ولهذا بقي هذا المعهد سنين طويلة وعدد خريجيه من قسم الرياضة والعلوم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. ولهذا وجدت في مصر أزمة شديدة في الحصول على هذا النوع من المعلمين. ثم أَّنا لم نواجه الأزمة مع الأسف بما تستحقه من عناية فوقفنا إزاءها مكتوفي الأيدي ننتظر كل عام ما يجود به المعهد من خريجين قليلين حتى اصطدمنا بالحقيقة الراهنة المؤلمة الخاصة بعدم وجود المعلمين الضروريين للمعاهد التي تنشأ ولملئ الوظائف التي تخلو، واضطررنا إلى حل تلك الأزمة بحلول سريعة غير موفقة كالاستعانة بغير الفنيين من حملة البكلوريا وغيرهم. وزادت بذلك هوة الخلافات في ثقافات القائمين على أمر إعداد النشء وتثقيفهم كما هوى مستوى التعليم نفسه هويا كبيراً. ولما أحسسنا بذلك أخذنا نعالجه بعلاجات وقتية ضئيلة الأثر كالدروس الصيفية لغير الفنيين وما إلى ذلك. ثم جاء تقرير مجانية الابتدائي وما تبعه من إقبال أبنائنا على هذا التعليم ضغثاً على أبالة، إذ اضطررنا إلى التوسع فيه دون أن نعمل أي ترتيب لإيجاد المعلمين الضروريين. وأصبح المدرس يواجه أمامه عدداً كبيراً من التلاميذ لم يسبق له مثيل في الفصل الواحد حتى أصبح عسيراً على المدرس الفني أن يسوس هذا الجم الغفير أو أن يفيدهم، فما بالك بالمدرس غير الفني أو المدرس الضعيف أو المدرس المبتدئ قليل الخبرة! إنها لحالة تستدعي الاهتمام وتستدعي العلاج. إن مسألة المعلم الكفء ذي الضمير الحي هي أول ما يجب أن تفكر فيه الدولة الرشيدة الحريصة على مستقبل أبنائها وتربيتهم وثقافتهم قبل أن تخطو خطوات واسعة في نشر تعليم مشكوك عند الكثيرين في صلاحيته من حيث نوعه ونظامه وإنتاجه. وإن التفكك والانحلال القائم في كثير من المعاهد بسبب وجود عناصر متعددة من المعلمين ذوي الثقافات المختلفة والآراء المتنافرة التي لا يمكن أن توحي بالانسجام والتعاون لكفيل بأن يبقي حالة المدرسة المصرية بعيدة كل البعد عن الأخذ بأساليب التربية الحديثة مهما دعونا إليها ومهما نبهنا إلى ضرورتها ومهما حاضرنا فيها. ذلك لأن عناصر المعلمين المتعددة المتنافرة لا يمكن أن تجد من تنافرها الوقت ولا أن تتملكها روح التوفر على البحث والعمل للصالح العام، فكل منها لاه بنفسه وبمستقبله الخاص وبالتعصب لثقافته وبالظهور على غيره. وهي أمور كلها تزيد في هوة الخلاف المؤدي إلى التفكك والانحلال؛ وسيمتد ذلك التفكك والانحلال دائماً وبطبيعة ما للمدرسة من أثر في التكوين، إلى طبقات الأمة المختلفة خصوصاً منها أولئك الذين يتولون أعمالا موحدة ومرافق ذات غايات واحدة. ولن يمكن القضاء على تلك الخلافات وتوحيد الاتجاهات إلا بتوحيد الثقافات. ولن يتم لنا ذلك إلا بإيجاد المدرسة الموحدة التي تعد المعلمين الذين يقومون بتدريس مختلف العلوم في مدارسنا. أما وقد قُضي على مدرسة المعلمين العليا من زمن بعيد فلاشك في أن المصلحة تقضي بإدماج دار العلوم ومعهد التربية بعد شروط اللحاق بهما وجعلهما معهداً واحداً لإعداد معلمي المواد المختلفة. وإنا نسوق هذا الاقتراح للرجال المسئولين خصوصاً بعد تلك البحوث القيمة التي أجراها مؤتمر أساليب التربية الحديثة والتي تبين منها (أن الأمر يتطلب معلماً يفهم روح التربية وأهدافها فهما واضحا ويؤمن بها إيماناً قوياً يدفعه إلى الجهاد في سبيل تحقيقها) كما جاء في القرار الثاني من قرارات المؤتمر. ولا شك أن هذا المعلم النموذجي لن يندفع إلى ذلك الجهاد إلا إذا تعاون معه زملاؤه وأمن كيد عناصر أخرى تؤذيه في جهاده وقد تحاربه وقد لا تقدره. والمعلم الموحد الثقافة هو المعلم الوحيد الكفيل بالاضطلاع بهذا الجهاد في سبيل تحقيق الهدف المطلوب. يقول أحد قادة التربية الغربيين (أعطني المعلم الكفء واتركه بغير برامج يخرج لك من النشء رجالا. أما البرامج التي لا يقوم على تنفيذها المعلم الكفء مهما حسنت فإنها لا تخرج إلا أطفالا كباراً أشباه الرجال وما هم برجال) فمسألة المعلم الكفء الذي يفهم مهمته ويفهم روح التربية وأهدافها والذي يتعاون مع زميله على قدم المساواة لما بينهما من تجانس في التعليم والثقافة، وتوافق في الاتجاه والإحساس بالمسئولية هي مسألة المسائل ومشكلة المشاكل في مصر. وقد أعارها المؤتمرون جل اهتمامهم لأنها لا يصح أن تتجاهلها أية هيئة تعليمية

إن أمامنا مثلا رائعاً نحسه ونلمسه بين أيدينا اليوم يوضح لنا أثر الثقافة الموحدة في بناء كيان وحدات الأمة وتدعيمها وتقويتها. ذلك المثل هو جامعة فؤاد الأول بمختلف كلياتها. فقد ضن البعض في مبدأ تكوينها أن لا فائدة ترجى من الجمع بين عدة مدارس عالية وجعلها كليات في جامعة واحدة. فان ما يدرس في كلية الهندسة اليوم مثلا هو ما كان يدرس في مدرسة المنهدسخانة قديما مضافا إليه التطور الذي أوجده الزمن في فنون الهندسة الحديثة. وكان من الممكن البقاء على مدرسة المهندسخانة القديمة مع إدخال ما استدعاه التطور الحديث فيها.

نعم كان ذلك ممكنا وتبقى كلية الهندسة مستقلة كل الاستقلال بل بعيدة كل البعد عن كلية الحقوق وعن غيرها من الكليات الأخرى. كل ذلك صحيح، ولكن أنى يكون لنا عندئذ بفكرة الوحدة الهائلة العظيمة التي تضم عدداً كبيراً من الكليات تحت لوائها في إدارة واحدة يشرف عليها جميعاً مدير واحد يضم شتاتها ويوحد صفوفها لتسير في اتجاهات متوازية إلى غرض واحد؟ أنى يكون لنا عندئذ بتلك الوحدة الجامعية التي تضم الآلاف المؤلفة من شبابنا تحت لواء واحد يعملون جميعاً في تلك الصفوف المتوازية المتقاربة المتعاونة سائرة في اتجاه واحد لا يصطدم بعضها ببعض ولا يتعارض بعضها مع بعض إلى هدف واحد تهفو إليه مصر كلها وتنزله المنزلة الأولى من نفسها وتضعه في السماك الأعلى من آمالها؟ فلا شك إذن أن فكرة الوحدة الجامعية فكرة رائعة توحي إلى الشباب بالوحدة والقوة وتقضي على كثير من تلك الخلافات السخيفة التي يؤدي إليها اختلاف الثقافات. فهي مكسب هائل وربح عظيم ربحته مصر فدفعها نجاحها في الحصول على هذا الكسب أن خلقت في العاصمة الثانية أختا للأولى تشاركها في مسئولياتها وتسير في نفس اتجاهاتها مما سيؤدي أن شاء الله إلى خلق غيرها وغيرها بفضل توفر البحث وتضافر الجهود.

نسأل الله أن يسدد خطى العاملين لرفع شأن الثقافة وتوحيد اتجاه التعليم ومقاصده للنهوض بالناشئين أبناء الجيل الحاضر نهوضاً يتناسب مع مركز مصر بين أمم الأرض عامة وبين أمم الشرق والعروبة خاصة في ظل جلالة الفاروق المفدى.

عبد الحميد فهمي مطر