مجلة الرسالة/العدد 612/يوحنا الدمشقي
→ اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كلمبس | مجلة الرسالة - العدد 612 يوحنا الدمشقي [[مؤلف:|]] |
سياسة التعليم ووحدة الأمة ← |
بتاريخ: 26 - 03 - 1945 |
للدكتور جواد على
تتمة
ومن آراء هذا القديس أن النبي الكريم كان قد تلقى تعاليمه من أحد أتباع (آريانوس) (المتوفى سنة 336 للميلاد) والذي كان قد أنكر ألوهية المسيح فحرمه مجمع نيقيا ? الذي انعقد في عام 253 للميلاد، ثم أكد هذا التحريم المجمع الثاني الذي انعقد في القسطنطينية. وكان من أشد خصومه (أثناسيوس) رئيس أساقفة الإسكندرية القائل على العكس بألوهية المسيح.
وهو قول ردد صداه المستشرقون فيما بعد. وقد فاتهم بأن البدعة (الأريوسية) أو (الآريانية) لم تكن معروفة في البلاد العربية، فلا يمكن أن يكون الرسول قد تعرف إلى أحد من أتباع هذه الشيعة. وقد فاتهم أيضاً بأن النسبة إلى (الأريوسية) كانت شائعة بين الفرق النصرانية، فكانت كل شيعة من الشيع النصرانية تنسب الشيعة المعارضة لها إلى هذا الإسكندري الذي حرمته مجامع المسيحيين. وقد سلك يوحنا في مواضع من ميامره مع (المنوفيسيتين) والمعارضين الآخرين نفس هذا السلوك، ونسبة دراسة النبي على أحد (الأريانيين) - وهو قول واهٍ لا تؤيده الشواهد التاريخية - هو من هذا القبيل.
وخلاصة ما يمكن أن يقال، هو أن يوحنا كان قد خاف على دينه من الزوال، وهو رجل دين وصاحب عقيدة، وأنه وهو في بلاط خليفة دينه يخالف دينه عرضة للمناقشة في الدين وهدف للجدال كما كان يحدث ذلك دوماً لكل ذّمي يتولى مركزاً سامياً في قصور أمراء المسلمين. وقد ساءه ما رآه من دخول أبناء دينه أفواجا أفواجا في الإسلام، فأراد أن يضع لهم منهجاً ثابتاً في الكلام وطريقاً واضحاً لإخوانه من أبناء دينه كما يفهم ذلك من ميامره ومن كتابه الذي ألفه في الرد على المسلمين.
وغريب أمر أولئك الذين يتصورون بأن المسلمين الأولين كانوا كالحجارة الصم لا يحسنون سؤالا ولا يدرون جواباً. وفي القرآن الكريم والحديث الشريف والسير والمغازي والأخبار أسئلة وأجوبة مختلفة في مسائل الكون والعالم والبعث ويوم الدين والأفعال والأعمال والخطير من الدنيا والحقير. وهم إن شكوا في كل شيء فلن يستطيعوا الشك في صحة القرآن وفي صحة روايته كما كان ينطق به الرسول. والقرآن وحده كفيل وخير شاهد على صحة ما نقوله.
ولا عبرة ببعض ما ورد في بعض الكتب مثل ما جاء في (كنز العمال) من أن القدريين سموا بهذا الاسم لأنهم (اشتقوا قولهم من النصارى) أو عبارة (اشتقوا أقوالهم من قول النصارى) إذ ورد في الأخبار (القدرية مجوس هذه الأمة).
ولو ذهبنا مذهب بعض المستشرقين ومذهب أهل الرأي والقياس لوجب علينا أن نقول بأن القدرية أخذت قولها هذا من المجوس، وهو قول يناقض المعروف؛ إذ المعروف بأن المجوس كانوا يقولون بالجبر لا بالاستطاعة والاختيار.
الحق أن ما ذكره يوحنا وما بنى عليه بعض المستشرقين هو من قبيل (الأفكار العامة) التي تخطر على كل بال، من قبيل تلك الأفكار التي ترددت على عقول البشرية منذ أول يوم هبوطها على سطح الأرض حتى اليوم. إنها من قبيل الأفكار العامة التي عالجتها أدمغة الوثنيين كما عالجتها أدمغة أصحاب الأديان بل وحتى الشعوب الابتدائية والقبائل البدوية، وما كان ظهور مثل هذه الأفكار في الإسلام بحادث غريب وقد عالج الإسلام أموراً أعقد من المواضيع التي نتحدث الآن فيها بكثير.
ولنعد الآن إلى الموضوع. ظهرت في الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وفي ردهات المسيحية فكرة غريبة هي فكرة (تحريم الصور) وقد انتشرت هذه الفكرة بسرعة كبيرة في سوريا وفي مصر وفلسطين فتحطمت الصلبان وأحرقت التصاوير، ونادى الناس حتى في الإمبراطورية البيزنطية بأن الصور والصلبان والزخرفة رجس من عمل الوثنية والشيطان. وشاعت أسطورة ذكرها ثيوفانس خلاصتها أن أحد اليهود، وكان يكره النصارى، تمكن من إقناع الخليفة يزيد الثاني بضرورة تحطيم الصلبان وتمزيق التصاوير كي يطول عمر الخليفة. فأصدر الخليفة أمره في الحال بوجوب تحطيم كل ما هو موجود من صلبان النصارى. ويذكرون أيضاً بأن إمبراطور القسطنطينية، وهو الإمبراطور (ليو) تأثر بعد ذك بأفكار أحد السريان، وكان قد وقع في أسر المسلمين، فاعتنق الإسلام وسمى نفسه (بشراً) (بسر) وغدا من أعداء الصلبان والتصاوير وكان ذلك في عام (726) للميلاد.
عندئذ أصدر الإمبراطور أمره في عام 726 للميلاد بتحريم الصلبان والتصاوير. وقد نفذ الأمر الإمبراطوري الرسمي في كافة أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، وتبرم صاحبنا يوحنا من هذا الأمر الملكي الرسمي واعترض عليه بست رسائل ألفها تفنيداً لهذا الأمر ولمن قال بهذه البدعة من أتباع الملوك.
وفي هذا التحريم أصل إسلامي ملموس وإجابة لدعوة النبي الكريم، تلك الدعوة التي حققها يوم أمر بتحطيم أصنام الكعبة وأصنام الطائف وكل صنم آخر قائم. ذلك ما قاله نفر من المستشرقين. على أن هنالك جماعة أخرى رأت غير هذا الرأي؛ رأت هذا التحريم مصدره تلك الفكرة اليهودية التي كانت قد حرمت تصوير المخلوقات الحّية وقاومت التصوير مقاومة عنيفة. وقد انتقلت هذه الفكرة إلى المسلمين وانتقلت على زعمهم من المسلمين إلى المسيحيين.
وتطرف هؤلاء فقالوا بأن الأحاديث التي رويت عن لسان الرسول، والتي حرمت التصوير، إنما ظهرت في هذا العهد الذي أعلنت الحكومة البيزنطية فيه أمرها بتحطيم الصلبان.
ورد في الحديث: من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ). واستعمل بعض المحدثين لفظة (تصاليب) بدلا من (تصاوير)، قال القسطلاني: (تصاليب أي تصاوير كصليب النصارى). وهذا ما يجعل للمشكلة صلة بالمشكلة التي أثارها (الإمبراطور ليو) في الإمبراطورية البيزنطية. ويلاحظ أيضاً بأن يوحنا لم يتحامل في رسائله التي ألفها للدفاع عن الصليب والتصوير على المسلمين كتحامله على اليهود. على عكس ثيودور أبو قرة أحد تلاميذه الذين احتذوا حذوه ونهجوا منهجه، فلقد تحامل هذا على المسلمين تحاملا شديداً وعنفهم تعنيفاً مراً لأنهم كانوا سبب هذا التحريم. لم تنفع هذه الحملة الصليبية التي أثارها هذا الموظف المسيحي في بلاط أمير المؤمنين في الشام شيئاً. قد يكون يوحنا نجح بعض الشيء في إثارة جذوة نار تلك المشاكل الكلامية التي ظهرت قبله بزمن وفي صبها في جداله مع المسلمين بقالب منطقي يوناني أثر على أسلوب الكلام عند المسلمين، ولكنه فشل في الحيلولة بين المسيحيين السوريين وبين الإسلام
وآثر يوحنا وهو في أواخر حياته الاعتزال في دير من أديرة الدنيا النائية ليوجه تفكيره نحو خالقه، فاختار دير (القديس سابا) قرب القدس ليكون محله المختار. وقد ظل في هذا الدير إلى أن جاءه أجله المحتوم بين عامي 748 و751 للميلاد على أكثر الروايات.
جواد علي