مجلة الرسالة/العدد 612/محمد بن عبد الملك الزيات
→ سياسة التعليم ووحدة الأمة | مجلة الرسالة - العدد 612 محمد بن عبد الملك الزيات [[مؤلف:|]] |
الشيخ عبد العزيز البشري ← |
بتاريخ: 26 - 03 - 1945 |
للأستاذ عبد اللطيف ثابت
جلس عبد الملك بن أبان بن أبي حمزة إلى ولده محمد يحدثه عن تجارة الزيت، ويروي له من تجاربه ويصف له مشاهده الممتعة في رحلاته التي كانت تنتهي بذكائه وصبره وجرأته إلى التوفيق، إذ كان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فيثرى من وراء ذلك ثراء عظيما، ويعد لما جمعه من المال في تجارة الزيت من مياسير الكرخ، وينصحه في لهجة العاطف الحاني أن يحذو حذوه، ويسلك مسلكه، فيتعلق بالتجارة ويتشاغل بها؛ ولكن الفتى وقد سمت به همته، وطمح إلى ما لا يطمح إليه السوقي الذي تشغله التجارة وملازمتها عن قصد المعالي - يأبى أن يصغي إلى حديث أبيه إلا بمقدار أن يسمعه، فيجيب عنه بإباء يؤكده أنه لا يشتغل إلا بالأدب وإلا بما هو من وسائل الأدب، لأنه يحس من نفسه بدوافع تدفعه إلى ما لا يرمقه إلا كل ذي همة وثابة، ونفس تطمح إلى العلا.
وهاهم أولاء لداته يشهدون له بكفايته في العلم والأدب، ويثنون على ذكائه وقوة إدراكه وسرعة بديهته، ومقدرته على حل ما يشكل عليهم من مسائل العلوم لا في النحو واللغة فحسب، بل فيهما وفي غيرهما من سائر العلوم. وهذا أبو عثمان المازني وقد عرفه لما قدم بغداد في أيام المعتصم يقول لأصحابه وجلسائه، إذا خاضوا بين يديه في علم النحو فاختلفوا فيما يقع فيه الشك - ابعثوا إلى هذا الفتى الكاتب، يعني محمد بن عبد الملك الزيات، فاسألوه واعرفوا جوابه فيفعلون، ويصدر جوابه بالذي يرتضيه أبو عثمان ويوقفهم عليه. فهذه الثقة من أترابه وغيرهم من أبناء عصره، تدفعه في قوة أن يخالف أباه عبد الملك ويراغمه، فيلزم الأدب ويطلبه ويخاطب الكتاب، ويلازم الدواوين، ويجيب أباه في قوة الواثق المطمئن - وقد قال له ذات يوم: والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك، وليضرنك، لأنك تدع عاجل المنفعة، وما أنت فيه مكفي، ولك ولأبيك فيه مال وجاه، وتطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه. فيجيبه: والله لتعلمن أينا ينتفع بما هو فيه أأنا أم أنت؟ ثم يشخص بعد قليل إلى الحسن بن سهل وزير المأمون، فيمدحه بقصيدة أولها:
كأنها تثّني خطوها ... أخنس موشي الشوى يرعى القلل
فيعطيه الحسن عشرة آلاف درهم، فيعود إلى أبيه فائزاً منتصراً، فيبتسم أبوه في رضا، لأنه تاجر يسره أن يرى الدراهم والدنانير ثم يقول له لا ألومك على ما أنت فيه. ولكن محمد بن عبد الملك لا يقنعه أن يصله الحسن بعشرة آلاف درهم، إذ ليس ذلك قصارى غايته مما تطمح إليه نفسه، بل يطلب أن يمثل بين يدي الوزير فيؤذن له فينشده:
لم أمتدحك رجاء المال أطلبه ... لكن لتلبسني التحجيل والغررا
وليس ذلك إلا أنني رجل ... لا أطلب الورد حتى أعرف الصَدرا
فيقدره الحسن قدره، ويعترف له لأنه شاعر مجيد لا يقاس به أحد من الكتاب إلا إبراهيم بن العباس الصولي. على أن الصولي مقل وصاحب قصار ومقطعات، ومحمد بن عبد الملك شاعر يطيل فيجيد ويأتي بالقصار فيجيد.
ويأبى إلا أن يصل إلى الغابة في أن يأخذ الحجة على أبيه بصدق نظره وصحة رأيه فيما هو يرمي إليه من الاشتغال بالأدب، فينتهز فرصة واتته بادر إلى افتارضها، فرد بها حقاً لأبيه كاد يضيع: ذلك أن إبراهيم بن المهدي وثب على الخليفة المأمون، ولما لم يكن لديه من المال ما يعينه على أمره، اقترض من مياسير التجار ما هو في حاجة إليه من المال، وأخذ من عبد الملك بن أبان فيمن أخذ عشرة آلاف درهم، وقال له: أنا أردها إذا جاءني مال، ولم يتم أمر إبراهيم، فاستخفى حيناً ثم ظهر، ورضى عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم فقال: إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من الفيء لو تم لي الأمر، والأمر الآن إلى غيري
وعلم محمد بن عبد الملك بقصة القرض، فعمل قصيدة يخاطب فيها المأمون بما يوقظ موجدته على إبراهيم بن المهدي، وأطلع أبن المهدي عليها، وقال له: لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأبعثن بهذه القصيدة إلى المأمون، فخاف ابن المهدي أن يقرأها المأمون فيتدبر ما قاله فيوقع به، فقال له: خذ مني بعض المال ونجم على بعضه، ففعل بعد أن حلفه إبراهيم بأوكد الأيمان ألا يظهر القصيدة في حياة المأمون؛ فوفى له بذلك، ووفى إبراهيم برد المال كله. ويسر أبوه بهذا كله ويعجب، ومن هذه القصيدة ما يأتي:
فو الله ما من توبة نزعت به ... إليك ولا ميل إليك ولا ود
ولكن إخلاص الضمير مقرب ... إلى الله زلفى لا تخيب ولا تكدي
أتاك بها طوعاً إليك بأنفه ... على رغمه واستأثر الله بالحمد فلا تتركن للناس موضع شبهة ... فإنك مجزي بحسب الذي تسدي
فقد غلطوا للناس في نصب مثله ... ومن ليس للمنصور بابن ولا المهدي
فكيف بمن قد بايع الناس والتقت ... ببيعته الركبان غوراً إلى نجد
ومن سك تسليم الخلافة سمعه ... ينادى به بين السماطين من بعد
وأي امرئ سمي بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد
ومنها:
فان قلت قد رام الخلافة غيره ... فلم يؤت فيما كان حاول من جد
فلم أجزه إذ خيب الله سعيه ... على خطأ إذ كان منه على عمد
ولم أرض بعد العفو حتى رفعته ... وللعم أولى بالتغمد والرفد
فليس سواء خارجي رمى به ... إليك سفاه الرأي والرأي قد يردي
ومن هو في بيت الخلافة تلتقي ... به وبك الآباء في ذروة المجد
فمولاك مولاه وجندك جنده ... وهل يجمع القين الحسامين في غمد
ويظهر لما اشتهر به من العلم والفضل والبراعة في الأدب أثره، فينتظم في سلك الكتاب بديوان الوزارة، ويظل يعمل لا يزيد على غيره من الكتاب شيئاً، ولا يمتاز عنهم بشيء إلا بما وهبه الله من علم وأدب.
ويتولى الوزارة للمعتصم أحمد بن عمار بن شاذي البصري، ويرد على الخليفة من بعض عماله كتاب يقرؤه الوزير عليه، وكان في الكتاب ذكر الكلأ، فيسأله المعتصم: ما الكلأ؟ فيقول: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، فيقول له المعتصم: خليفة أمي، ووزير عامي! وكان المعتصم ضعيف الكتابة، ثم يأمر أن يبصروا من بالباب من الكتاب، وتشاء الأقدار التي تيسر كل إنسان لما خلق له، أن يكون بالباب محمد بن عبد الملك الزيات، ويدخلونه إلى الخليفة فيسأله: ما الكلأ؟ فيجيب: الكلأ العشب على الإطلاق، فان كان رطباً فهو الخلا، فإذا يبس فهو الحشيش، ثم يشرع في تقسيم أنواع النبات فيعلم المعتصم فضله فيستوزره ويحكمه ويبسط يده.
ويبلغ الفتى بالوزارة الذروة مما كان يطمح إليه، فيعلو شأنه وتنفذ كلمته، ويدل بما عرف عنه من العلم والفضل فيشترط إذ بتولي الوزارة ألا يلبس القباء وأن يلبس الدراعة ويتقلد عليها السيف بحمائل فيجاب إلى ذلك فيمتاز بهذا أيضاً عما سبقه من الوزراء.
ويبدو في وزارته شديد البأس، عظيم المنة، قوي الإرادة قاسي القلب، لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا بل هو يرى الرحمة خوراً في الطبيعة وضعفا في المنة ويقول عن نفسه ما رحمت شيئا قط. ولا يقف في حقده دون نكبة من يحقد عليه، غير مبال بصروف الزمان وتقلب الدهر. اتخذ في أيام وزارته تنورا من حديد في داخله مسامير محدودة قائمة كرؤوس المال يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال فكيف انقلب أحدهم أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه فيجد لذلك أشد الألم، حتى إذا جأر إليه المعاقب يطلب الرحمة أجابه بكلمته السابقة إن الرحمة خور في الطبيعة:
ومن يتصف بمثل صفاته هذه ويكون في مثل شأنه هذا يكثر حساده ويشتد عليه أعداؤه.
ومن هم حساده وأعداؤه؟ إنهم عظماء الرجال في عهده: كالقاضي أحمد بن أبي داؤد، ويحيى بن خاقان، وإبراهيم ابن العباس بن محمد بن صول، وعلي بن جبلة، وأبي دلف القاسم ابن عيسى:
كتب إليه علي بن جبلة يقول، وكان قد قصد أبا دلف في بعض أمره:
يا بائع الزيت عرج غير مرموق ... لتشغلن عن الأرطال والسوق
من رام شتمك لم ينزع إلى كذب ... في منتماك وأبداه بتحقيق
إن أنت عددت أصلا لا تسب به ... يوما فأمك متى ذات تطليق
ولن تطيق بحول أن تزيل شجا ... أثبته منك في مستنزل الريق
الله أنشأك من نوك ومن كذب ... لا تعطفن إلى لؤم لمخلوق
ماذا يقول امرؤ غناك مدحته ... إلا ابن زانية أو فرخ زنديق
فأجابه محمد بن عبد الملك
اشمخ بأنفك يا ذا السيئ الأدب ... ما شئت واضرب حذاك الأرض بالذنب
ما أنت إلا امرؤ أعطى بلاغته ... فضل العذار ولم يربع على أدب
فاجمح لعلك يوما أن تعض على ... لجم دلاصية تثنيك عن كثب
إني اعتذرت فما أحسنت تسمع من ... عذري ومن قبل ما أحسنت في الطلب
صبراً أبا دلف في كل قافية ... كالقدر وقفا على الجارات بالعقب يا رب إن ما أنشأت من عرب ... شروى أبي دلف فاسخط على العرب
أن التعصب أبدى منك داهية ... كانت تحجب دون الوهم بالحجب
ثم اتصلت المهاجاة بينهما زمنا بسبب تعصب علي بن جبلة لأبي دلف وليس غريبا ولا فضولا أن يتعرض علي بن جبلة لهجو محمد بن عبد الملك لا يحمله على ذلك إلا انتصاره لأبي دلف وإخلاصه له وتفانيه في حبه، فقد تعرض أبن أبي جبلة لغضب المأمون وناله ما ناله منه بسبب أبي دلف إذ قال فيه:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره
وإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
وقال:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدي طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال
فأحفظه عليه، فليس يعقل أن يخشى سلطان محمد بن عبد الملك وهو لم يخش سلطان الخليفة وإن كان محمد بن عبد الملك قد بلغ من السلطان مبلغا جعل الناس يتملقونه، فيرضون عمن يرضى ويغضبون على من يغضب.
وهذا إبرهيم بن العباس الشاعر تنقلب صداقته لمحمد بن عبد الملك عداوة شديدة، وشحناء عظيمة ولا سبب لذلك فيما يغلب على الظن إلا أن ابن عبد الملك حسد إبراهيم حظه من الوجهة الأدبية فهو كاتب حاذق بليغ، فصيح منشئ، وهو إلى هذا شاعر مجيد يقول عنه أحد شعراء عصره لو تكسب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء. وحسد كذلك نباهة شأنه، وعلو قدره، حتى لقد تنقل في الأعمال الجليلة والدواوين إلى أن تولى ديوان الضياع والنفقات بسر من رأى - وكأنما كان يخشى منه ابن الزيات على نباهته أن يحملها، وسلطانه أن يذهب به، فهو يحمل عليه وينال من دينه وشرفه، ويرسل إليه أبا الجهم أحمد بن سيف ويكلفه أن يبحث بدقة في شئونه عسى أن يكشف عن أخطائه ويظهر من أغلاطه ما يأخذه به في غير حذر من لوم، فيكتب إليه إبراهيم.
وإني لأرجو بعد هذا محمداً ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير
ولكن محمداً يقيم على أمره وأبا الجهم يلج في تحامله. فيكتب إبراهيم أيضاً إلى ابن الزيات شاكيا أبا الجهم نائلا منه، واصفاً إياه بالكفر، إذ هو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:
تركت عبيد بني طاهر ... وقد ملأ والأرض عرضا وطولا
وأقبلت تسعى إلى واحدي ... ضرارا كأن قد قتلت الرسولا
فسوف أدين بترك الصلاة ... وأصطبح الخمر صرفا شمولا
فينسب محمد لشدة عصبيته على إبراهيم هذا الشعر له ويرميه بالكفر دون أبي الجهم، ويأبى أن يصغي لتوسلاته إليه شعراً أو نثراً ولا ينقذه منه إلا الخليفة الواثق فهو الذي يرفع عنه، ويأمره أن يقبل منه ما رفعه من المال برغم ما ثبت عليه من عجز في إدارته في ديوان الضياع بما كشفه أحمد بن المدبر، حين جمع المتوكل بينه وبين إبراهيم فأخذ يروي من عجزه أمثلة لا تفتقر - وقد اعترف إبراهيم نفسه بعجزه وقال: إني لم أدفع أحمد بحجة ولا كذب عليّ في شيء مما ذكر. وينظر فإذا الناس يتحامون إبراهيم أن يلقوه، وقد انحرف عنه محمد به عبد الملك، حتى الحارث بن بشتخير الزريم المغني، وكان صديقاً مصافياً لإبراهيم يهجره فيمن هجره من الإخوان. فيكتب إليه إبراهيم:
تغير فيمن تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... غنينا وما بيني وبينك ثالث
ويحس إبراهيم أن ابن الزيات رُدَّ عنه، فيبسط لسانه فيه ويهجوه كثيراً، ويقول له:
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة ... وقصر قليلا عن مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت عزا ورفعة ... فإن رجائي في غد كرجائكا
ثم يبلغه أنه مات فيقول:
لما أتاني خبر الزيات ... وأنه قد صار في الأموات
أيقنت أن موته حياتي
ويعاديه أحمد بن دؤاد فيهجوه ابن الزيات كثيراً ويجمع أحمد الشعراء ويحرضهم على هجاء ابن الزيات، ثم يقول فيه وقد بلغه أن أحد الشعراء هجاه بقصيدة عدتها سبعون بيتاً
أحسن من سبعين بيتاً هجا ... جمعك معناهن في بيت
ما أحوج الملك إلى مطره ... تغسل عنه وضر الزيت يعير ابن الزيات بتجارة الزيت، فلما بلغ البيتان ابن الزيات كتب إلى القاضي أحمد يعيره ببيع القار وكان أبوه يبيعه
يا ذا الذي يطمع في هجونا ... عرضت بي نفسك للموت
الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت
قيرتم الملك فلم ننقه ... حتى غسلنا القار بالزيت
ونشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدة يقول في مطلعها (لهان علينا أن نقول وتفعلا) فيثيبه عليها ثم يوقع له
رأيتك سهل البيع سمحا وإنما ... يغالي إذا ما ضن بالشيء بائعه
فأما الذي هانت بضائع بيعه ... فيوشك أن تبقى عليه بضائعه
هو الماء إن أجممنه طاب ورده ... ويفسد منه أن تباح شرائعه
فيجيبه أبو تمام منكرا عليه هذا التوقيع
أبا جعفر إن كنت أصبحتُ شاعراً ... أسامح في بيعي له من أبايعه
فقد كنت قبلي شاعراً تاجراً به ... تساهل من عادت عليك منافعه
فصرت وزيراً والوزارة مكرع ... يغص به بعد الذاذة كارعه
وكم من وزير قد رأينا مسلطا ... فعاد وقد سدت عليه مطالعه
والله قوس لا تطيش سهامها ... ولله سيف لا تفل مقاطعه
وقد حمل أبا تمام بقسوة ملاحظته أن يرد عليه رداً ثقيلا فيه هجاء وفيه تذكر بما قد يؤول إليه أمره مما يتمناه له حساده وأعداؤه وقد صار أبو تمام بهذا أحدهم.
(للحديث بقية)
عبد اللطيف ثابت