مجلة الرسالة/العدد 610/رسالة الفن
→ هذا العالم المتغير | مجلة الرسالة - العدد 610 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 12 - 03 - 1945 |
الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
- 2 -
الواقعية في الفن
في نهاية شارع الجامعة الطويل، وقريباُ من الشان دي مارس يوجد (مخزن الرخام) في ركن منعزل مهجور يشعرك بأنك في الريف. في فناء هذا المخزن الذي تكسوه الأعشاب ترقد قطع رخامية غبراء ثقيلة مبعثرة، تبدو في مواضع منها كسور حديثة العهد تنم عن بياض ناصع. تلك هي أحجار الرخام التي احتفظت بها الدولة للمثالين الذين تشرفهم بعمل تماثيل لها.
ويقوم إلى جانب من هذا الفناء عدة مراسم خصصتها الدولة لمختلف المثالين، تبدو كأنها مساكن للطلبة من طراز جديد، وهي بمثابة مدينة صغيرة للفنانين، يجللها هدوء عجيب. يشغل رودان مرسمين من تلك المراسم، يعمل في واحد منها ويضع في الآخر سبائك الجص لقطعته المعروفة (باب جهنم)، تلك القطعة التي تسبي العقول برغم أنها لم تكتمل بعد.
ولقد اعتدت أن أزوره هنا أكثر من مرة في آخر النهار، عند ما يوشك أن ينفض يده من عمله اليومي. فكنت أجلس على كرسي وأرقبه وهو يعمل، وأرتقب تلك اللحظة التي يرغمه فيها الظلام على الكف عن العمل، ولكن كان حرصه على الانتفاع بآخر شعاع من أشعة النهار يلهب أعصابه ويصيره كالمحموم.
وهأنذا أراه يسوي ويشكل تماثيله الصغيرة من الطين بسرعة خاطفة. وهو يجد في ذلك ضربا من التلهي والتسلي يجنح إليه في الفترات التي تتخللها عمله الوئيد الذي يبذله في صنع التماثيل الكبيرة. ثم انه يجد في تلك الدراسات العجلي التي تؤدى للتو واللحظة متاعا ولذة لأنها تعينه على إمساك حركة رشيقة أو إيماءة جميلة عابرة، قد لا يتاح لصدقها الآبق أن يُدرس دراسة عميقة طويلة.
أما طريقته في العمل ففريدة في بابها. فترى في مرسمه كثيراً من المثل الآدمية العارية تمشي الهوينا أو تستريح، يؤجرهم رودان لكي يرى فيهم الجسم العاري يتحرك بكل ما في الحياة من حرية، فهو يلاحظهم في غير انقطاع؛ وبذلك أمكنه أن يلم برؤية العضلات في حركاتها وسكناتها. إن الجسد العاري الذي نعتبره نحن المحدثين علانية شاذة، والذي لا يرى فيه المثاليون إلا طيفاً لا يدوم لأكثر من جلسة أصبح منظراً أصبح منظراً مألوفا لدى رودان.
وإن الدراية المستمرة بالجسم الإنساني، تلك الدراية التي أكتسبها قدماء الإغريق من ملاحظة الألعاب الرياضية كالمصارعة ورماية القرص والملاكمة وغيرها من صنوف الألعاب الرياضية، والتي أباحت لفنانيهم أن يتكلموا بحرية عن الجسد العاري اكتسبها صانع (المفكر) أو رودان بجعل الآدميين العرايا يذهبون ويجيئون أمام عينيه باستمرار. بذلك استطاع أن يستكنه المشاعر التي تعبر عنها كل هنة من هناة الجسد. ويعتبر الوجه عادة المرآة الوحيدة التي نرى فيها النفس، كما يبدو لنا أن تحرك أعضاء الوجه هو المظهر الخارجي الوحيد للروح. وفي حقيقة الأمر الواقع أنه لا توجد عضلة من عضلات الجسم لا تعبر عن التغيرات التي تطرأ على الشعور الداخلي، كلها تعبر عن فرح أو حزن، عن يأس أو أمل، عن تعقل أو جنون. إن الذراع المنبسطة أو الجسم المسترخي ليبسم في رقة وحلاوة مثلما تبسم الشفاه أو العيون، ولكي يصبح المرء قادراً على تفسير كل خلجة من خلجات اللحم وجب عليه أن يوطن نفسه على قراءة ذلك الكتاب البديع - وهذا ما فعله أساطين الفن الأقدمون، وساعدتهم عليه ظروف مدينتهم أما رودان فقد توصل إليه في عصرنا هذا بقوة إرادته الخاصة. إنه يتبع مثله بنظراته الفاحصة النهمة ويتنسم في هدوء روح الحياة التي تختلج فيهم، ويعجب بطراوة هذه الفتاة التي تنحني لتلتقط إزميلا، أو بجمال أخرى ترفع ذراعيها لتصفف شعرها الذهبي فوق رأسها، أو بخطران شاب يمشي عبر الغرفة، وعندما يأتي هذا أو ذاك بحركة أو وضع يروقه يطلب منه تواً أن يستبقي ذلك الوضع ثم يهوي إلى طينه ويعمل بسرعة فلا يلبث أن يخرج تمثالا صغيراً إلى الوجود، ثم ينتقل بنفس السرعة إلى غيره يشكله ويسويه بالطريقة ذاتها.
وفي إحدى الأمسيات، عندما أخذ الليل يرخي سدوله الكثيفة على مرسمه جرى لي حديث مع المعلم عن طريقته بدأته بقولي:
(إن ما يدهشني منك أنك لا تشتغل على وتيرة أقرانك. إني لأعرف الكثير منهم وقد رأيتهم يعملون، فهم يجعلون المثال يعتلي خشبة تسمى العرش ويأمرونه بأن يتخذ كذا وكذا من الأوضاع، وفي العادة يثنون أو يبسطون ذراعيه ورجليه حسبما يروق لهم، ويحنون رأسه أو يمدون جسمه كما لو كان بنتا من بنات الأطفال؛ ثم يشرعون بعد ذلك في العمل. أما أنت فعلى النقيض من ذلك، تنتظر حتى يأخذ مثالك وضعاً من الأوضاع التي تروقك فتقوم بانتساخه حتى لكأنك أنت الذي تأتمر بأمرهم ولينسوا هم الذين ينزلون على أمرك).
وكان رودان متشاغلا بلف نماذجه الصغيرة بلفائف مبللة فأجابني في هدوء.
(أنا لست رهين أمرهم وإنما أنصاع لأوامر الطبيعة، أما زملائي فلهم ولا ريب أسبابهم التي تدعوهم إلى الاشتغال على النحو الذي ذكرت، ولكن اعتسافهم الطبيعة على هذا النحو ومعاملتهم الإنسان معاملة الدمى تجعلهم يخاطرون بإنتاج تماثيل متكلفة لا تنبض بالحياة، أما أنا ينشد الحقيقة ويدرس الحياة كما ترى فسوف أحرص على ألا أنهج نهجهم. إني أستخرج الحركات التي إلا حظها من الحياة ولكنني لا أفرضها ولا أصطنعها، حتى إذا ألجأني الأمر وأنا أشتغل بموضوع ما أن أطلب من المثال أن يتخذ وضعاً معينا ثابتاً فأني أشير إليه بأن يأخذ ذلك الوضع متحاشيا جهدي أن أمسه لأضعه في الموضع المطلوب، لأني لا أنقل إلا ما تقدمه لي الحقيقة على الأثر. إني أطيع الطبيعة في كل شيء، ولا أحاول قط أن أسيطر عليها، وكل ما تصبو إليه النفس هو أن أكون عبدها الوفي الأمين)، فأجبته في شيء من الخبث والمداورة (ومع ذلك فأنت لا تبرز الطبيعة في أعمالك بنصها وفصها) فتوقف قليلا وهو ممسك باللفائف المبللة ثم أجابني وهو مقطب الأسارير.
- نعم إني أبرزها بنصها وفصها
- ولكنك تضطر إلى تغيير. . .
- لا أغير منها فتيلا
- ولكن البرهان على أنك تغير منها هو أن السبيكة لا تعطي من التأثير مثلما يعطيه عمل يدك من الأحوال.
ففكر لحظة ثم قال:
هذا حق! لأن السبيكة أقل صدقاً مما تطبعه يدي في الطين أو تحفره في الحجر يكاد يكون مستحيلا على أي مثال أن يحتفظ بوضع حي طيلة الوقت الذي يلزم لعمل سبيكة منه
ولكني أحتفظ بجملة الوضع بمخيلتي وأصر على أن يتطابق المثال على ما وعته مخيلتي من ذلك الوضع. وأكثر من ذلك أن السبيكة لا تظهر إلا المظهر الخارجي، ولكني أظهر بجانب ذلك الروح التي هي بلا ريب جزء من الطبيعة أيضاً. إني أرى الحقيقة كاملة ولا أقصر نفسي على رؤية المظهر الخارجي. إني أبالغ في إظهار الخطوط التي تعبر أحسن تعبير عن الحالة النفسية التي أتولى تفسيرها)
وكان يريني وهو يتكلم تمثالا من أروع تماثيله قائماً على منصة قريبة، هو تمثال لشاب راكع رافع ذراعيه المتوسلتين إلى السماء كأنما تنهش كيانه الألم، جسمه مائل إلى الوراء، وصدره ناهد وحلقه متوتر من اليأس، أما يداه فممدودتان إلى مخلوق وهمي تتوقان إلى إمساكه، ثم قال لي:
(انظر، لقد أوضحت انتفاخ العضلات التي تفصح عن الألم، فهنا وهنا وهناك قد غاليت في توتير أربطة العضلات التي تدل على تدفق الصلاة وحرارتها) وبعد ذلك أشار إلي أقوى وأبرز ما بالتمثال من أجزاء، وهنا صحت به متهكماً:
(لقد أصبت منك مغمزا يا أستاذي. تقول بنفسك إنك تفصح، وتزيد، وتبالغ. . فترى من ذلك إذن أنك غيرت من الطبيعة) فأخذ يضحك من عنادي ويقول:
(أبداً، أنا لم أغير منها شيئاً، وعلى فرض أني فعلت ذلك فأني لم أكن أتوقعه وقتذاك، فالإحساس الذي سيطر على مشاعري وقتئذ أراني الطبيعة كما نقلتها. فإذا ما أردت تنقيح ما رأيت وجعله أكثر جمالا لما أنتجت شيئا طيبا) وبعد برهة عاود حديثه قائلا:
(إني أوافقك على أن الفنان لا يرى الطبيعة كما يراها السوقي لان عواطفه تكشف له عن الحقائق المخبوءة تحت ستر المظهر الخارجي، وعلى كل حال فالقاعدة الوحيدة في الفن هي أن تنسخ من الطبيعة ما تراه. ويرى المشتغلون بجمال الفنون أن أية قاعدة مغايرة لهذه يكون مآلها إلى البور، فليس ثمت من طريقة لتحسين الطبيعة، والأمر الوحيد هو أن ترى. آه، حقيقة أنه ليس في مقدور رجل من أوساط الناس ممن ينسخون الطبيعة أن يأتي بعمل فني لأنه في الواقع ينظر ولا يرى، ولو أنه استطاع أن يتتبع كل دقائقها بإنعام لجاءت النتيجة تافهة لا خطر لها، ولكن لم تخلق مهنة الفنان لأوساط الناس الذين لا يمكن أن يكتسبوا مواهب حتى من أجل النصائح والإرشادات.
فالفنان - على نقيض ذلك - يرى بمعنى أن عينه المركبة على قلبه تقرأ عميقاً في أغوار الطبيعة، وهذا يفسر السبب الذي يجعل الفنان لا يعتمد إلا على عينيه فقط).
(للكلام صلة)
محمد بهجت