الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 608/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 608/رسالة الفن

بتاريخ: 26 - 02 - 1945


الفن

الكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

تمهيد المترجم

في شهر مارس من عام 1925 أسعدني الحظ بالوقوف بباريس مدينة الفن والجمال والنور لأيام قلائل جعلت همي خلالها ارتياد المتاحف والدور والمعارض الني تزخر بأشتات الفنون، التالد منها والطريف. وكنت أنتهب بعيني وقلبي تلك الروائع الفريدة، وأحاول جهدي استيعابها واستذكار ما دق من محاسنها ومفاتنها ولكن هيهات!

وكان من بين ما راعني وملك على لبي ومشاعري أعمال المثال العظيم رودان، ثم غادرت مهد الفن والجمال آسفاً، ولم أنقع صدى نفسي الهيمانة من نمير ذلك المنهل الصافي العذب. غادرته وبالحلق غصة، وبالقلب لوعة، إلى بلاد الثروة والمال والجاه - إلى أمريكا العظيمة. واستقر بي المقام بولاية كاليفورنيا، قبالة مدينة سان فرنسسكو - عروس المحيط الهادي، حيث انصرفت إلى الدرس والتحصيل - تحصيل العلم والفن. غير أن شواغل الدرس لم تكن لتصرفني عن التحليق بروحي من آن لآخر في سماء باريس وفي ردهات متاحف باريس لعلي ألم ببعض ما افتتنت به من روائع القدامى والمحدثين، وبما أحببت من أعمال رودان. ولم ألبث طويلا حتى رأيت المال الأمريكي يستقدم نسخاً عديدة من أعمال هذا العبقري العظيم ويحشدها بأحد متاحف مدينة سان فرنسسكو، فكنت أخف لزيارتها من حين لآخر دارسا لها، مستمتعا بها.

وفي ليلة الميلاد من عام 1928، أهدى إلى كتاب عنوانه: (الفن) وضعه الكاتب الشهير بول جيزيل في أسلوب محاورة جرت بينه وبين رودان، يعرض الكاتب مسألة فنية فسيندفع الفنان في شرحها وتحليلها وإبداء رأيه فيها. وقد حاول الكاتب والفنان معا أن يجلوا كثيراً من نواحي الفن وأن يقربا فهمه إلى أذهان الكثيرين ممن لا يستطيعون فهمه على حقيقته، وأن يثقفا به عقول الكثيرين ممن يعنون بقراءة الكتاب ويقدمون لهم غذاء روحيا شهيا لا تنقد لذته. وعندي أنهما بلغا في ذلك تمام القصد بفضل طلاوة الموضوع الذي يعالجونه من ناحية، وبفضل الوضوح والنضوج اللذين امتاز بهما الفنان، والبساطة والرشاقة اللتين خص بهما الكاتب من ناحية أخرى، وإن كتابا يشترك في إخراجه فنان عبقري رقيق، وكاتب بارع رشيق، لخليق بأن يلقي من الإنسانية المتمدينة أكبر اهتمام، وأن يخلد بما فيه على مر الأيام.

وكان من الطبيعي أن يخطر ببالي نقل هذا الكتاب الممتع إلى فراء العربية فأقدم إليهم بذلك نوعا طريفا من التأليف، وثقافة فنية يحتاجها الفنان وغير الفنان على السواء. قمت بهذا العمل الشاق من زمن طويل، ثم طرحته جانبا متردداً مرتقباً لظروف غير الظروف إلى أن وقعت عليه عين أستاذي وصديقي الزيات فأرادني على نشر بعض فصوله فنزلت على إرادته.

تقدمة المؤلف

تقع على نهر السين، قريبا من بلدة ميدون التي لا تبعد كثيراً عن باريس، قرية ذات اسم جميل هو (فال فليري). تكلل هامة التل الصغير المشرف عليها بضعة أبنية تسترعي الأنظار بجمالها وغرابتها. وربما جال في خاطر من رآها أنها ملك لفنان. وحقيقة الأمر أنها ملك (أوجست رودان) الذي اتخذها مقراً له. وإذا ما قاربها المرء وجدها مؤلفة من ثلاثة أبنية رئيسية منعزلة، أما الأول فمنزل صغير ذو سقف عال مائل، مبنى بالآجر والأحجار على طراز لويس الثالث عشر، وقد اتخذه مسكنا له. وأما الثاني فبناء مستدير يقوم إلى جانب المنزل، له رحبة فسيحة يدخل إليه بسقيفة ذات عمد هي نفس السقيفة التي أظلت معروضاته التي عرضها عام 1900 في معرض خاص أقيم بزاوية من (شارع بونت دي لالما) ' بباريس. وكان من دواعي سروره أن تقام هذه السقيفة مرة أخرى في صدر هذا البناء الذي اتخذه مرسما وقريبا من هذا وعلى حافة التل المنحدر يقع قصر أو بالحري واجهة قصر من قصور القرن الثامن عشر بها مدخل ظريف يعلوه إفريز مثلث الشكل يظهر بمثابة إطار لباب من الحديد اللين الزهر. وسيأتي ذكر هذا القصر فيما بعد.

تقع تلك المجموعة المتباينة الصفات. وسط بستان وادع بناحية هي ولا ريب من أجمل وأسحر النواحي التي بأرباض باريس، جادت عليها الطبيعة بكثير من جمالها، وزاد من جمالها ذلك المثال الذي نزل بها وسكنها، فنمقها بكل ما يمكن أن يوحي به ذوقه السليم.

وبينما كنت أسير مع أوجست رودان تحت الأشجار التي تظلل رابيته الفاتنة في أصيل يوم من أيام مايو من السنة الماضية أفضيت إليه برغبتي في الكتابة عن آرائه في الفن وعلى أن يكون ذلك من إملائه فقال لي: (يا لك من إنسان عجيب. لا زلت مهتما بالفن إلى الآن! أن الاهتمام به لا يتفق والعصر الحاضر. فالفنانون اليوم، وأولئك الذين يحبون الفنانين أشبه شيء بالحفريات القديمة. تخيل ناشدتك الله مخلوقا من تلك المخلوقات البائدة يدب في شوارع باريس، وعند ذلك يستبين لك الأثر الذي ستحدثه بمعاصرينا عندما تكتب عن الفن أو تتكلم فيه. أن عصرنا عصر مهندسين ورجال صناعة، وليس عصر فنانين. فغاية السعي في حياتنا الحديثة هي المنفعة، وينصب جهدنا على تجسين بقائنا المادي. يطالعنا العلم كل يوم بمبتكرات جديدة خاصة بالمأكل والملبس وبوسائل التنقل ويخرج إلينا بسلع رخيصة وضيعة كيما يوفر لجمهرة الناس ما يصبون إليه من كماليات زائفة. ولو أنه مع ذلك أدخل تحسينا عظيما على كل ما يتصل بحاجاتنا اليومية ويمت إليها بصلة. ولكن لم تعد المسألة مسألة روح أو فكرة أو أحلام. لقد مات الفن.

الفن هو التأمل. هو لذة العقل الذي يبحث في أغوار الطبيعة والذي يقدس فيها الروح التي تسود الطبيعة نفسها. هو متاع الذهن الذي يستشف الكون والذي يعيد خلقه بنظرة فاحصة صادقة. الفن هو أسمى رسالة للإنسان لأنه يعبر عن الفكر الذي يبحث ليهتدي إلى تفهم العالم وليجعل العالم جليا مفهوما.

يعتقد الإنسان اليوم أنه يستطيع الحياة بدون فن. انه يأبى أن يتأمل أو يتيه في مهامه الفكر أو يسبح في عالم الخيال. يريد أن يستمتع استمتاعا ماديا، أنه يقنع بإشباع شهواته الجسمانية، أما سمو الحقيقة وأغوارها فلا يعبأ بها أو يعيرها اهتماما. فإنسان اليوم حيواني الميول لم يخلق من الطينة التي خلق منها الفنانون.

وفضلا عن ذلك فالفن هو الذوق. هو ما ينعكس من قلب الفنان على كل ما يبتدعه من الأشياء. هو ابتسامة الروح الإنسانية للمنزل والأثاث. وهو جمال الفكرة والشعور مجسما في كل ما ينفع الإنسان. ولكن كم من معاصرينا يشعر بضرورة شيوع الذوق في المنزل والأثاث، كان الفن منتشرا بكل مكان في فرنسا في أيامها الخوالي. فكان أوساط الناس، حتى الفلاحون منهم لا يستعملون من الأشياء إلا ما يفرح العين ويسرها. كانت مقاعدهم وموائدهم وقدورهم وقواريرهم جميلة. أما اليوم فقد اختفى الفن من الحياة اليومية، حتى ليقول بعض الناس أن الجمال لا يشترط توفره فيما هو مفيد من الأشياء. . . كل شيء قبيح خال من الرشاقة، تصنعه آلات غبية في سرعة وعجلة. أما الفنان فينظر إليه كما لو كان خصيما مناهضا. آه يا عزيزي جيزيل، أتريد أن تبسط آراء الفنان وأن تبرز أفكاره؟ ماذا بك؟ دعني أتفحصك! إنك وايم الحق لإنسان عجيب).

فقلت: (إني لأعلم أن الفن هو أقل ما نعني به في عصرنا هذا، ولكني آمل أن يكون هذا الكتاب بمثابة احتجاج على الآراء السائدة الآن، كما آمل أن يوقظ صوتك معاصرينا وأن يساعدهم على أدراك الجرم الذي يجرمون بفقدهم أجل شطر من تراثنا القومي ألا وهو الشغف الشديد بالفن والجمال). فأجاب رودان (عسى الله أن يسمع منك)

كنا نسير الهوينا بمحاذاة البناء المستدير الذي اتخذه مرسما. فشاهدت كثيراً من التماثيل القديمة الفاتنة في حمى السقيفة. فهذا تمثال صغير لعذراء مقنعة بعض الشيء تواجه خطيبا رزينا مشتملا بعباءته. وقريبا من هذين يوجد تمثال لكيوبيد ممتطيا ظهر وحش من وحوش البحر، ويقوم وسط تلك التماثيل عمودان رشيقان كورينتيان من الرخام الوردي اللون. ويدل احتشاد تلك القطع الثمينة في ذلك المكان على ولع مضيفي بالفنين الإغريقي والروماني.

وثمة بجعتان ناعستان على حافة بركة. فما إن مررنا بهما حتى مطتا رقبتيهما الطويلتين المقوستين وأرسلتا فحيحاً مغضبا. ولقد دفعتني وحشيتهما إلى الجهر بأن هذا الطير ينقصه الذكاء. ولكن رودان أجابني ضاحكا: (حسبه ما به من جمال الخطوط، وفي ذلك الكفاية).

وبينما كنا نمشي الهوينا بدت هنا وهناك محاريب صغيرة أسطوانية الشكل من الرخام حفرت بها اضافير الأزهار. ويوجد تحت عريشة بديعة يعلوها نبات متسلق نضير الخضرة وتمثال صغير لمثرا بدون رأس يعلوها وهو يتقرب بثور مقدس. ويوجد عند مفرق طريق معشوشب تمثال إيروس نائما على فروة أسد، وقد غلب النوم ذلك الذي يروض الوحوش ويغلبها على أمرها. وعند ذلك سألني رودان قائلا: (ألا ترى أن الخضرة هي أنسب شيء توضع بينه التماثيل القديمة؟ ألا تستطيع أن تقول عن أروس هذا الصغير الناعس بأنه إله الحديقة؟ أن لحمه ذا الغينات لشبيه بتلك الأوراق الخضراء في نضارتها وصفائها. لقد أحب فنانو الإغريق الطبيعة حيا جما حتى أن تماثيلهم لتزهو فيها كما تزهو في عناصرها التي قدت منها).

ولنبحث الآن هذه الفكرة: أنا نضع التماثيل في حديقة، كيما نجمل بها تلك الحديقة. ولكن رودن يضعها بها كيما تكتسب تلك التماثيل جمالا منها. وعنده أن الطبيعة هي أبدا صاحبة الكلمة العليا والكمال الذي لا يحد.

وتقوم عند أصل شجرة من أشجار الاسفندان جرة إغريقية من فخار وردي اللون يغلب على الظن أنها كانت منطرحة بقاع البحر قرونا عدة وقد درست وتشبثت بمسامها بعض الطحالب وغيرها من عرماض البحار الجميلة، فيخيل لمن يراها أنها أغفلت هناك عن قصد، ومع ذلك فما كان يمكن أن تعرض لأعيننا بأجمل مما كانت عليه، لأن ما كان طبيعيا هو غاية الذوق ومنتهاه.

ثم شاهدنا بعد ذلك بدنا لفينوس من غير ما رأس أو أوصال قد أخفى ثدياه بمنديل عقد وراء الظهر فيتبادر إلى ذهن الرائي أن أحداً من متكلفي الحياة يحدوه حياء مصنع - قد آلى على نفسه أن يستر تلك المفاتن.

ولكن من المحقق أن مضيفي لم يشاطر موليير رأيه في هذا الحياء المصنع. لأنه أفصح لي عن سر ذلك قائلا (أنا الذي أخفيت ثدي هذا التمثال لأنه أقل جمالا من بقية أجزاء البدن) وعند ذلك أدار مزلاج باب أدخلني منه إلى شرفة أقام عليها واجهة ذلك القصر الذي ذكرته منذ هنيهة والذي يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر. تبدو هذه القطعة النبيلة رائعة حقا إذا ما شوهدت عن كثب. أنها مدخل على رأس سلم من ثماني درجات، حفرت على الإفريز الذي يعلوه والذي يقوم على عمد تمثال تيميس تحيط بها ملائكة الحب. وهناك قال مضيفي: (قديما قام هذا القصر الجميل على منحدر تل مجاور بأيساي وكنت كلما مررت به أبديت إعجابي بجماله، ولكن سرعان ما اشتراه السماسرة وقوضوا بناءه. .) وعند ذلك لاح بعينيه وميض الغضب وقال: (لا تستطيع أن تدرك مقدار الفزع الذي تملكني عندما شاهدت هذه الجريمة ترتكب. آه يا للفظاعة! أيهدمون هذا البناء الجميل؟ لقد أثر ذلك في نفسي كثيراً كما لو كانوا يمثلون بجسم عذراء جميلة على مشهد مني).

لفظ رودان هذه الكلمات بصوت ملؤه الخشوع العميق. ولا ريب أن في ذلك ما يشعرك بأن جسم الفتاة الأبيض البض هو أسمى وأروع المخلوعات في نظره. بل هو أعجوبة الأعاجيب! ثم وصل حديثه قائلا: (سألت أولئك الأوغاد الأنذال أن لا يبددوا الأنقاض وأن يبيعونيها فرضوا. ثم أمرت بالأحجار فأحضرت إلى هنا وشددت بعضها إلى بعض على أحسن ما استطعت. ولسوء الحظ لم أرفع إلا حائطا واحداً إلى الآن كما ترى).

ولتعجله وشدة تلهفه على الاستمتاع بذلك الأثر الفني البديع لم يتبع رودان الطريقة المثلى التي تقضي بأن تقوم حوائط البناء جميعها في وقت معا. وللآن لم يبن إلا جانبا واحداً من القصر. وإذا ما قاربت بابه الحديدي ونظرت من خلاله رأيت أرضا مخطوطة مشقوقة بها قطع من الأحجار تدلك على تصميم البناء المنتظر. حقا إنه قصر أحلام بل وقصر فنان! ثم غمغم مضيفي قائلا: (حقا لقد كان بناؤونا القدماء رجالا عظماء لا سيما عندما نقارنهم بخلفائهم من بنائي اليوم الذين لا يستأهلون شيئا.) قال ذلك ثم قادني إلى طرف من أطراف الشرفة حيث يظهر له جمال الوجهة بأجلى مظهر وصاح قائلا: (انظر كيف يعترض طيفه السماء الفضية بانسجام عظيم، وكيف يشرف على الوادي الذي يمتد من تحتنا.) ثم ذهل برهة وانتظم بصره المشغوف أثناءها ذلك الأثر القديم وما يترامى حوله من المناظر.

وترامت أبصارنا من المرتفع الذي كنا عليه إلى آفاق بعيدة، فهناك نهر السين تنعكس على صفحته البلورية سطور طويلة من ظلال أشجار الحور، يتخذ شكل عروة عظيمة من الفضة عند ما يتدافع إلى القنطرة عند سفر وتلي ذلك منارة سانت كلو البيضاء الصاعدة في الجو أمام تل أخضر. وأما مرتفعات سورسن الزرقاء وجبل فاليريان فكانت تبدو كأنها ذرت بهباء من الأحلام. والى اليمين من ذلك ترى باريس - باريس الهائلة - تمد مهادها إلى الأفق البعيد وقد نضد بمنازل عديدة تبدو صغيرة على البعد حتى ليخيل للرائي أن في استطاعته أن يستجمعها بكفه، باريس التي تبدو لأول وهلة عظمية سامية كأنها بوتقة هائلة تفور وتجيش بذلك المزيج العجيب من اللذات والآلام، وبالقوى الزاخرة وبالمثل العليا الموموقة.

محمد بهجت