الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 608/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 608/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 608
القضايا الكبرى في الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 26 - 02 - 1945


قضية التجسس لقريش

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

هذه قضية لها قيمتها في أحداثنا الحاضرة، ولو كنا نرجع في حاضرنا إلى ماضينا، لكان لنا منه أكبر العظات، وأعظم العبر، ولكنا قطعنا صلتنا بماضينا، وأخذنا نتخبط في حاضرنا، وننظر فيه إلى من لا صلة بيننا وبينهم، ولا يتفق أمرنا وأمرهم، فتقطعت بيننا الأسباب، واستفحل بيننا الخلاف، ونكب المسلمون في زعمائهم وقادتهم، وصاروا ينظرون إلى من يأخذ بيدهم فيرتد الطرف إليهم وهو حسير

في السنة الثامنة من الهجرة نقضت قريش عهدها مع النبي صلى الله وعليه وسلم في صلح الحديبية، فتجهز النبي للسفر، ولم يعلن أصحابه بما يريد من غزو قريش إلا أبا بكر رضى الله عنه، ثم استنفر الأعراب الذين حول المدينة، وقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة. فقدم جمع من قبائل أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة، وقد طوى ما يريد عن الجيش، لئلا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعد للحرب، وهو لا يريد أن يقيم حربا بمكة، بل يريد أن يباغت أهلها فيضطرهم إلى التسليم من غير حرب، وقد دعا الله تعالى فقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. وفي رواية أخرى: اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم، فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فلتة. ثم أمر بالطرق فحبست، وأقام جماعة بالأنقاب يراقبون من يمر بها، وكان عمر رضى الله عنه يطوف على الأنقاب فيقول: لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه. وكانت الأنقاب مسلمة إلا من سلك إلى مكة، فإنه يتحفظ منه ويسأل عنه

وقد أمكن حاطب بن أبي بلتعة مع ذلك التكتم الشديد أن يعرف قصد النبي صلى الله عليه ومسلم، وهو لخمي نزل مكة وحالف بني أسد بن عبد العزى، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا والحديبية، وكان له بمكة بنون واخوة، فخاف عليهم من قريش في ذلك الغزو، وأراد أن يتقرب إليهم بإخبارهم بقصد النبي ﷺ، فلا يتعرضوا إلى بنيه واخوته بسوء، فكتب إليهم كتابا يخبرهم بذلك، ثم استأجر امرأة بدينار وقيل بعشرة دنانير، وقال لها: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فان عليه حرساً والروايات مختلفة في نص هذا الكتاب، فقيل إنه كان فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، إن رسول الله ﷺ أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد

وقيل إنه كان فيه: أما بعد يا معشر قريش، فان رسول الله ﷺ جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فو الله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم، والسلام

وقيل إنه كان فيه: إن محمداً قد نفر، فإما إليكم، وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر

فأطلع الله تعالى النبي ﷺ على ما فعله حاطب، فقال لعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فخذوه منها وخلوا سبيلها، فان لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها

فانطلق الثلاثة تعادي بهم خيلهم حتى أتوا روضة خاخ، فإذا هم بالظعينة تسير على بعير لها، فقالوا لها: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب. فأناخوها والتمسوا ذلك الكتاب فلم يجدوه، فقالوا: ما كذب رسول الله ﷺ، ثم قالوا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. وفي رواية أن علياً قال لها: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ ولا كذبنا، لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه قالت: أعرض. فأعرض فحلت قرونها فأخرجته من عقاصها، وهو الخيط الذي تعتقص به أطراف الذوائب، أو الشعر المضفور، أولى الشعر بعضه على بعض على الرأس، وإدخال أطرافه في أصوله، أو السير الذي يجمع به الشعر على الرأس وفي رواية البخاري. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته. والحجزة معقد الإزار، والظاهر أن الكتاب كان في ضفائرها، وأنها جعلت الضفائر في حجزتها.

فأخذوا الكتاب منها ورجعوا به إلى النبي ﷺ فدعا حاطبا فقال له: يا حاطب ما حملك على ما صنعت. فقال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.

فنظر النبي ﷺ إلى ماضي حاطب وجهاده في إعلاء شأن الإسلام، والى موقفه في غزوة بدر، وما كان لها من عظيم الشأن في إظهار الدين، وفي قصة الحديبية ومبايعته فيها على الموت تحت شجرة الرضوان، وقد قال الله تعالى في شأن من بايعه تحتها في الآية - 18 - من سورة الفتح (لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).

نظر النبي ﷺ إلى ذلك كله من حسنات حاطب، ثم نظر إلى تلك السيئة التي ارتكبها، وهي تعد في عرف الشرائع الوضعية الخيانة العظمى للدولة، والعقوبة التي تستحقها هذه الخيانة هي عقوبة القتل، ولكن النبي ﷺ لم يشأ أن تنتهي حياة ذلك المجاهد بذلك الشكل القبيح، ولم يشأ أن يضيع له جهاده الطويل في الإسلام بفلتة من فلتات النفس، وغواية من كيد الشيطان، فرأى أن يستعمل فيها حقه في العفو، لأنه الرئيس الأعظم على المسلمين، فله حق العفو عن مذنبهم إذا كان فيه مصلحة من المصالح، ولكنه نظر قبل ذلك إلى من كان بالمجلس من أصحابه فقال لهم: إنه قد صدقكم، ولا تقولوا له إلا خيراً. فقال عمر رضى الله عنه: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فأن الرجل قد نافق. فقال له النبي ﷺ إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.

وقد عفا النبي ﷺ بهذا عن حاطب رضى الله عنه، بعد أن بين به أن عقوبة الجاسوس القتل، لأنه أرشد إلى أن علة تركه أمر عمر بقتله هي شهوده بدرا، فدل على أن من فعل فعله ولم يكن بدريا يستحق القتل، ثم نزل بعد هذا فيما فعله حاطب قوله تعالى في الآيات الأولى من سورة الممتحنة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل، إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون، لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون نصير، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) إلى أخر القصة.

وفي هذه الآيات معاتبات رقيقة لذلك المجاهد الكريم بعد ذلك الصفح الجميل، وعظات كريمة أطلقت إطلاقا، ولم توجه إليه بخصوصه، حتى لا يكون في ذلك ما يشم منه رائحة تشنيع، ولا يكون فيه تصريح بتلك الخيانة، ولا يشوب جهاده منها شائبة تشوبه، ويمضي العفو عن ذنبه خالصاً يمحو كل أثر للذنب، ولا يبقى أية حفيظة عليه في نفوس المجني عليهم.

ولم يكن كل هذا إلا لأن حاطبا كان من المجاهدين الأولين في الإسلام، وللمجاهدين الأولين في كل دعوة شأنهم في نفوس من يأتي بعدهم، فإذا روعي لهم جهادهم إلى آخر حياتهم، وأحيطوا بجانب من القداسة يعلى شأن جهادهم، وينسى معه بعض ما يحصل من زلاتهم بحسن قصد، ومن غير تنكر للدعوة التي جاهدوا في سبيلها - إذا روعي لهم كل هذا كان مدعاة لأخذ الخلف بسنة السلف في الجهاد، حتى ينالوا مثل قداستهم في نظر من يأتي بعدهم، ودعا أيضاً إلى تكوين القدوة الصالحة اللازمة في تاريخ كل أمة من الأمم، وهي الماضي المجيد الذي يقوم على أساسه بناء المستقبل، وهذه هي الحكمة الجليلة في ذلك القول الذي ورد عن أهل بدر - اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفي بعض الروايات فإني غافر لكم، وهذا يدل على أن المراد بقوله غفرت في الرواية الأولى أنه سيغفر لهم في المستقبل ما يقع منهم، وقد عبر عنه بالماضي مبالغة في تحققه، ولو كان المراد منه الماضي حقيقة لما صح أن يخاطب به النبي ﷺ عمر رضي الله عنه، لأنه ينكر به عليه ما قاله في أمر حاطب، ولا يكون فيه إنكار عليه إلا إذا كان الغفران لما يكون من ذنوبهم بعد بدر، على أنه لا يراد من هذا إباحة فعل الذنوب لهم، وإنما هو خطاب تكريم وتشريف، ولا يراد منه إلا أنهم حصلت لهم بتلك الغزوة حالة من القداسة، غفر معها ما سلف من ذنوبهم، وتأهلوا لأن يغفر لهم ما يحصل من الذنوب اللاحقة إن وقعت منهم وقد خصهم الله تعالى بذلك تكريما لجهادهم، وإعلانا عن عظيم حبه لهم، وما أحسن ما قيل في هذا الشأن:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع

وموضع العظة لنا من هذه القضية أنه كان لنا جهاد سابق جمع كلمة الأمة، وأيقظها من رقدتها، وسار بها في طريق الإصلاح والنهوض، فجنت من ثمار الجهاد ما جنت، وقطعت شوطا بعيداً في طريق الإصلاح ثم تنكرنا لذلك الجهاد، وأخذنا نجرح الذين قاموا به، ونرميهم بكل قبيح، ونكيل لهم التهم جزافا وتنكر أولئك المجاهدون بعضهم لبعض، فضعفت ثقة الأمة فيهم، وضاعت القدوة الصالحة التي تكون محل الثقة والقداسة، وعاد كل شخص إلى سيرته الأولى قبل ذلك الجهاد، لا يهمه إلا أمر نفسه، ولا يسعى إلا في سبيل مصلحته.

فهل لنا أن نعود إلى ماضينا فنتعظ بموضع العظة منه، وننظر إلى المجاهدين فينا كما كان ينظر سلفنا إلى المجاهدين فيهم، ولا نتنكر لجهادهم كما نتنكر الآن، فنحاسبهم على الهفوة بأشد ما يكون من القسوة، ونسلك في حسابهم سبيل التشنيع والتشهير، وهم لم يصلوا في هفوتهم إلى تلك الخيانة العظمى التي ارتكبت في تلك القضية.

وهل لأولئك المجاهدين أن يعودوا إلى سيرتهم الأولى، فيمد بعضهم يده إلى الآخر، ويعرف له فضل جهاده الأول، ذلك الجهاد الذي كان فينا مثل جهاد أهل بدر؟

عبد المتعال الصعيدي