مجلة الرسالة/العدد 59/فصول مدرسية في الأدب الدرامي
→ الحركة الفكرية لشباب العرب | مجلة الرسالة - العدد 59 فصول مدرسية في الأدب الدرامي [[مؤلف:|]] |
في الأدب العربي ← |
بتاريخ: 20 - 08 - 1934 |
الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
صفات العمل
من صفات العمل الأساسية الوحدة، والسرعة، وتوجيه الأثر إلى الذهن
فوحدة العمل هي اتحاد الأجزاء المختلفة التي يتركب منها العمل الروائي على إيجاد حادث واحد أو منعه. ولا يتحقق ذلك إلا بحصر الاهتمام كله في بطل الرواية، وجعل هذا البطل في خطر واحد لا يختلف من ابتداء التمثيل إلى انتهائه. لأن الخطر إذا زال انتهى العمل، والبطل إذا وقع في خطر غير الأول ابتدأ بوقوعه في عمل آخر. على أن العمل قد يكون مركباً متشعباً تملؤه التغيرات وتعوقه المفاجآت ولا يؤثر شيء من ذلك في وحدته. إذ يكفي أن تكون هذه التفصيلات وتلك الاعتراضات مسوقة إلى غرض واحد، موصلة إلى نتيجة واحدة. وقد يتسامحون أحياناً في تطبيق شرط الوحدة، فيكتفون في تحققه بأن يتحد الخلق الفعال في الرواية، فيجيزون أن تتنوع المواقف وتتعدد الحوادث ما دامت تدور كلها حول خلق واحد تحلله وتفصله
الوحدات الثلاث
ولقد كان القدماء من أشياع المذهب الأتباعي في فرنسا أثناء القرن السبع عشر يشترطون في العمل غير هذه الوحدةوحدتين أخريين: هما وحدة المكان، ووحدة الزمان، ويسمون ذلك قانون الوحدات الثلاث، وظلوا يطبقونه في غير لين ولا هوادة حتى ظهر المذهب الأبتداعي في صدر القرن التاسع عشر فهاجم هذا القانون فيما هاجم من قوانين القدماء. وكان من أثر هذا النضال العنيف بين أنصار المذهبين أن تجوز الأدباء في تطبيقه، وأغضوا النظر قليلا عن تحقيقه، فذهب ما يشينه من تكلف وتعسف، وبقي ما يزينه من دقة وتحديد. فماذا كانوا يريدون بوحدتي المكان والزمان؟ كانوا يريدون بوحدة المكان أن يفرض وقوع العمل كله في مكان واحد لا يتعداه، فإذا وقع في مدينة أو معسكر أو طابق بيت ظل ذلك المنظر واحداً في كل فصل من فصول الرواية من بدأ التمثيل وختامه. وإن اقتضى الحال أن يعمل أحد الأشخاص عملاً يحتاج إلى نقلة أو رحلة عمله خارج المسرح ثم نبأ به المشاهدين في وقته المناسب. وكانوا يريدون بوحدة الزمان ألا يستغرق العمل الروائي أكثر من أربعة وعشرين أو ست وثلاثين ساعة. وكان أرسططاليس يحتم ألا يتجاوز هذا الزمن دورة الشمس. وعلتهم في اشتراط هذه الوحدات الثلاث مجاراة السلف من الإغريق في سلوك هذه الطريقة، والمحافظة على الإمكانية بمقاربة الحقيقة؛ فإن الذوق السليم يقتضي أن ما يمثل في ثلاث ساعات أو أربع يكون قد حدث حقيقة أو فرضا في زمن يسير ومكان واحد. ولكن المحدثين يقولون لماذا تستطيع المخيلة أن تتصور الحادث لذي أتت عليه القرون حاضراً، ولا تستطيع أن تتعقب الحادث من مكان إلى آخر؟ وإذا قبلت مخيلاتنا أن يمثل لها في ساعة أو ساعتين ما لا يحصل إلا في يوم وليلة، فكيف ترفض أن يمتد العمل إلى ما وراء ذلك؟
الواقع أن الكتاب يتوسعون في هذه القاعدة حتى القدماء منهم ما داموا محتفظين بالإمكانية ووحدة الجاذبية. وقد أصبح اليوم تغيير المكان وتطويل الزمان من الأمور الميسورة على المسرح الحديث، فعالجوا الأول بإرخاء الستار هنيهة ريثما ينتقل الممثلون إلى مكان آخر - والستار ميزة لم تكن لمسرح القدماء من قبل - وعالجوا الثاني بتقسيم الرواية إلى فصول يفرضون مرور الزمن الذي يريدونه في الفترات القصيرة التي تتخللها. على أن هذا الزمن وإن يكن غير محدود لا ينبغي أن يطول حتى يخرج عن حدود الإمكان، فلا يجوز مثلاً أن يكون البطل صغيراً في الفصل الأول ثم يدركه المشيب في الفصل الأخير.
أما السرعة فيجب أن يكون العمل في الرواية أسرع منه في الملحمة، لأن الملحمة مسرحها الطبيعة، ومرماها ذهن القارئ، فهي تحتمل من التطويل والتفصيل والاستطراد والوصف ما لا تحتمله الرواية لضيق مسرحها وقرب مداها. فهي لابد أن تبدأ في عنفوان العمل وعلى مقربة من الحل، لأن طبيعتها من قوة الحركة وشدة الاندفاع، وما تحدثه في نفس المشاهد من شدة القلق وقوة الانجذاب، تأبى الإسراف في خلق الظروف وابتكار الوسائل، فلا تسيغها إلا بقدر الحاجة الملزمة. فالرواية ولا سيما المأساة، سيل يقطع السدود ويقتحم الحواجز، ولكن الملحمة نهر فياض ينحدر هادئاً طليقاً إلى مصبه، فيطول مجراه بكثرة منعطفاته وتعدد محانيه. وإذا امتازت الملحمة بالتنوع والغزارة والفخامة، امتازت المأساة بالسرعة والتأثير والحرارة.
بقيت الصفة الثالثة وهي توجيه الأثر إلى الذهن لا إلى الحواس، لأن المسرح إذا غلب التأثير في الجسم على التأثير في الفكر كان أقرب إلى الملعب وهو مظهر العجائب البدنية من الحيوان المروض والإنسان الممرن، وكان جزاءه أن يفقد سلطانه ومكانه في قليل من الزمن. وعلة ذلك أن التأثير المادي محدود متشابه، فلا يلبث الناس أن ترى أعينهم مداه وتتعود آذانهم صداه، ويدركوا أن ما قرع أسماعهم أول مرة من أصوات الألم المروعة، وأنات الاحتضار الموجعة، إنما هو صوت واحد متكرر الأثر، ويؤول الأمر بالمشاهدين والمؤلفين حتماً إلى أن يفقدوا التأثر منه والتأثير به لتشابه موضوعاته وتكرر مؤثراته. من أجل ذلك لا ترى على المسرح تفاصيل الحوادث المرعبة كالقتل مثلاً، بل يفرض حدوثها في ظاهره ثم تلقى إلى المشاهد على لسان شخص من أشخاص الرواية. ومسرح الإغريق نموذج المسارح في هذه السبيل. أما المسرح الروماني فقد دعاه غلظ الطبع وجفاء الشعور إلى أن يسمع النظارة أنين مصارعي الثيران وهم في سياق الموت، ويريهم دماء الضحايا وأشلاء القتلى مبعثرة على أرضه، فتأخر الفن الروائي عند الرومان من جراء ذلك كثيراً.
يتبع
(الزيات)