الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 59/الحركة الفكرية لشباب العرب

مجلة الرسالة/العدد 59/الحركة الفكرية لشباب العرب

بتاريخ: 20 - 08 - 1934


خبا بريق الثقافة العربية بعد أن بلغت أوجها في القرون الوسطى عقب غارة التتار على البلاد العربية.

وقد قال جوستاف لوبون: (إن الكلام على الشعب العربي وتاريخه وتألقه وعظمة مدنيته لهو كلام عن شعب كان أكثر من أضاف إلى ميراث المدنية وزاد في ثروة الإنسانية العامة

والمدنية العربية آخر هدية قدمها الشرق إلى الغرب وأكبر مدنيات الشرق أهمية، لأنها نتاج كثير منها، وقد تركت في محيط العلم آثاراً لا تمحى)

حتى إذاكان القرن الثامن عشر وهو عهد تقسيم الإمبراطورية العربية التي طبقت كل البلاد العربية وآسيا الصغرى والعجم والهندستان ومصر وشمال أفريقية وكل أسبانيا تقريباً، عانت الثقافة العربية عهداً طويلاً من الجمود بله القهقري.

فقد غلت سيادة الأجانب ملكات الذكاء التي أوتيها العرب، وقتلت حبهم الشديد للمعرفة، وأضعفت قوتهم المبدعة، حتى إذا كان عام 1906 قامت نخبة تسعى إلى إحياء الفكرة العربية وتجديد ثقافتها القديمة. فكانت هذه الحركة الذهنية، هي على أشد ما تكون من المضاء في سوريا، القبس الأول الذي سطع منه عهد الإحياء العربي الجديد، مما كان له دوي في باقي البلاد العربية وصدى عميق في نفوس الشعب الراسف في الجهالة والجمود.

ولقد واجهت هذه اليقظة الذهنية الحركة السياسية التي يقوم بها فتيان الأتراك من أجل (تتريك) كل العناصر غير التركية في إمبراطوريتهم، فكان من أثر هذه السياسة انبثاق وطنية الشبيبة العربية، وبذلك نشأت وطنيتان متعارضتان: العربية والتركية، يقود كلاً منهما شباب الشعبين المثقفون، فنجم عن هذا التعارض بينهما حركة عنيفة أدت إلى تكوين جمعيات تطالب ببعض الحقوق والإصلاح وعلى رأسها شباب الضباط والطلبة الذين تلقوا علومهم في القسطنطينية مما جعل الجامعات مركزاً لوحدة الشباب وألفته.

وصارت وعود الإصلاح التي وعدها الترك لتحسين حال العرب ومن بينها إدخال اللغة العربية في مدارس الأقاليم هباء، فلم يتورع الأتراك عن استعمال كل وسيلة للضغط ومقاومة هذه الكتلة العربية المفكرة مما ألجأ معظمها إلى النزوح إلى مصر التي غدت مثابة للثقافة العربية.

ولقد كان من جراء هذا الخطر الأجنبي توثيق عرى الاتحاد بين شباب العرب الذين استشهد منهم طائفة كبيرة على مشانق الأتراك في سبيل المسألة العربية ومثلهم الأعلى

ولم يكن لدى هذه الشبيبة إلى حين قيام الحرب العالمية إلا بعض المدارس الحكومية تلقن العلوم باللغة التركية وغير المدارس الأولية الخاصة لتتلقى فيها لغتها وآدابها. وأما العلوم العالية فلم يكن هناك سبيل إليها إلا القسطنطينية أو أوربا أو الأزهر

ولما كانت الدراسة العالية غير ميسورة إذن إلا للموسرين، والحكومة التركية لا تكترث لمصير الشباب العربي أضطر هؤلاء بمواردهم الخاصة إلى الخروج من هوة الجهل التي ألقوا فيها عمداً حتى يسلس قيادهم ويسهل إخضاعهم، إذ كانت سياسة الأتراك نحو العرب تركهم ضلالاً في ظلام الجهل

وفي خلال سني الحرب العصيبة قاد الشباب العربي حركة العصيان ضد المستعمر وانحازوا إلى الحلفاء الذين وعدوهم باستقلال البلاد بعد النصر، فهجر شباب الضباط والطلبة كلياتهم واستبدلوا بأقلامهم وكتبهم البنادق لإنقاذ ثقافتهم ونصرة حقهم بالمهج والدماء

ولشد ما كانت دهشة العرب بعد الحرب! أملوا من الحلفاء استقلال بلادهم بالوعود المأخوذة فإذا بهم يقسمونها إلى سوريا وفلسطين والعراق، لتكون تحت انتداب إنجلترا وفرنسا، دون أن يكون لرغبات العرب ومصالحهم حساب، وإذا بالعرب يقاسون بعد الحرب كما قاسوا قبلها عنت الحكم الأجنبي وظلمه، وكان لهذا التقسيم السياسي أوخم العواقب في تكوين العقلية العربية للجيل العربي بعد الحرب، فإن الطرق التعليمية المختلطة التي تمارس في هذه البلاد ترمي إلى تطورات متنافرة وعقليات متعارضة لتكسر من حدة الثقافة العربية والوحدة الوطنية مما عانت منه البلاد كثيراً ولاسيما سوريا

ثم كان من توزيع التعليم بين مدارس الحكومة الرسمية والمدارس الأجنبية الخاصة، كمدارس الفرير، والفرنسيسكان والجزويت، والاتحاد الإسرائيلي، والمدارس الأمريكية، وجميعها لا تخضع لأية رقابة، ومن تباين الطرق التعليمية المختلفة فيها، والتنافس القوي الأعمى بينها، شر النتائج مما لم يكن يقع غبنه وغرمه إلا على الشباب العربي وحده، فأفسدت الاتجاهات المختلفة والأهواء المتباينة والمؤثرات المتعددة روح الشباب، وباعدت بين بعضهم وبعض فأصبحوا كأنهم غرباء لا يجمع بينهم تفاهم ولا تناسق، فتردوا بذلك في عذاب أدبي مروع، وفوضى فكرية فظيعة، وجهلوا أو لم يعرفوا إلا لماماً أدبهم الوطني وتاريخ أسلافهم الباهر

وإن الشبيبة التي لا تتغذى ثقافتها الوطنية بالإعجاب بالماضي والزهو بالأسلاف، لا يمكن أن تتعاون وتعمل في سبيل رفعة الوطن فلقد لاحظنا أن طلبة مدارس الإرساليات مثلاً وجلهم من المسيحيين قد خلوا تماماً من الوطنية وحل مكانها التعصب الديني، وهذه حالة نفسية تساعدهم على قبول الاستعمار الأجنبي وتباعد بينهم وبين إخوانهم المسلمين.

على أن من الحوادث السعيدة والجديرة بالذكر أن نخبة من مفكري المسيحيين قد ألقوا منذ سنين نير الرق الأدبي، وبرئوا من الريبة التي خامرت النفوس ومدوا يد المودة إلى إخوانهم المسلمين.

أما تنظيم المدارس الحكومية فقد تم وفقاً للنظام الإنجليزي في فلسطين والعراق، والنظام الفرنسي في سوريا، دون أن يتفق مع حاجات البلاد.

وقد أنشأت هذه الحالة مسألة غاية في الدقة والخطورة، وهي مسألة توحيد التعليم القائم على الثقافة الوطنية، وتحقيق هذه السياسة التعليمية هو الوسيلة الوحيدة السريعة لإنضاج ذكاء الشباب العربي وتحقيق الوحدة مهما كان وسطها أو دينها. فتوحيد التعليم ينتج وحدة الفهم والتفكير والإرادة، وهي العوامل الثلاثة الأساسية اللازمة لتخلق في الشباب قوة التعاون على توحيد الجهود وإنهاض البلاد مادياً وأدبياً.

ولقد اشتدت الضرورة إلى وحدة التعليم بازدياد عدد الشباب المتعطش للدراسة، فإن عدد المقبلين على التعليم ازداد عقب الحرب كثيراً من الذكور والإناث على السواء. ومع ذلك فإن المدارس الرسمية أضيق من أن تسع الطلاب، مع أنه ليس للبلاد العربية مصروفات حربية، وميزانيتها تسمح بفتح مدارس جديدة وعلى الأخص في القرى كما تسمح بتحسين المدارس الحالية على وجه السرعة، وفي نظرنا أن هذا الواجب هو من أول الواجبات الملقاة على عاتق الحلفاء. فلماذا أهمل؟

ومن جهة أخرى، فإن المتعلمين يعانون الآن أزمة شديدة في جميع البلاد العربية لما يصادفونها من العقبات في المهن الحرة، إذ لا يجدون بعد سنين طويلة من الدراسة الطويلة الشاقة في أوربا أو في الوطن ما يحتاجونه من عوامل الكمال بعد أن سدت في وجوههم كل طرق الحياة أو ألقيت فيها العراقيل، دون أن تفكر أية حكومة في معونتهم وتمهيد الطريق لإنماء معارفهم وجني ثمار عملهم، بل أنهم أبعدوا عمداً عن وظائف الدولة وجميع الأعمال المتصلة بها تقريباً إذ يشغلها طبعاً رجال الانتداب، فرنسيون وإنجليز، وكل ذنبهم أنهم تنكروا لنظام الانتداب ففرت منهم معظم وظائف الإدارة في بلادهم، وحرموا من مورد عدل مشروع.

وهاكم مثلاً لتوضيح ما تقدم: إن بمجلس النواب كثيرين أميين، على حين أن البلاد تزخر بالمتعلمين الذين لا يبغون إلا أن يخدموا بلادهم بمعارفهم، وتفسير هذا الأمر أن حكومة الانتداب ترغب في توطيد مركزها بسهولة.

أما الوظائف القليلة التي شغلوها بعد لأي فلا تتناسب مع مستوى تعليمهم، والحاجة هي التي أرغمتهم على قبول وظائف أبعدتهم تماماً عما تخصصوا له، ولطالما خضعوا لرؤساء من رجال الانتداب لا يحملون أية درجة جامعية

وكذلك كانوا في ميادين الحياة الأخرى، تميز الأجانب عليهم وارتفعوا على أكتافهم بفضل سلطات الاحتلال

ولا ينبغي أن ننسى أن بالبلاد العربية أراضي شاسعة ما تزال بكراً كان يمكن أن تقوم بها مشروعات زراعية وصناعية فتشغل كل هذه الطبقة العاطلة

ولقد كان لهذه الأزمة الفكرية أثر نفسي سيئ في الشباب فألقوا نفوسهم دون وعي في أكثر الدراسات قدرة على تأمين مكسب متواضع سريع مما أدى إلى وقف النضوج الذهني وقتل الطموح

وأحس الجميع بهذه الأدوار المادية والفوضى الذهنية المنتشرة فإذا أضفنا إلى هذه الحالة المعنوية ما يعانيه الشباب من الإذلال والامتهان المستمرين فهمنا بجلاء سبب جنوحه عن غرضه الأصلي بالنسبة له ولبلاده واندفاعه بحرارة وحماسة نحو السياسة لكفاح الاستعمار الأجنبي الذي سبب كل هذه الأدواء، وهو لم يكن قد أدرك إلا بعد سنين طويلة أن حاله تزداد سوءاً، وأن بلاده تشرف على الهلاك، وأن الضرر لابد أن يقتلع من أساسه لكنه إزاء الصعوبات الحاضرة والانقلابات الاجتماعية المتوالية ظل مغلولاً محروماً من كل وسائل الكفاح فالحاضر يفلت منه إذ لا يعاونه نظام البلاد الاقتصادي والسياسي، والمستقبل لا يمثل له إلا نذيراً من الإبهام والقلق المخيف ولطالما شل المستعمرون المتعاقبون على البلاد الحركة الفكرية فيها فقاست منهم الأمرين

واليوم قد نهضت هذه الحركة برغم كل القيود، وأحس الشباب الذي يقاسي شر هذه الأدواء هذه الحاجة وترسم ذلك المثل، فهبت ريح من الوطنية الحارة تقوض كل الحواجز الزائفة التي وضعتها القوى الأجنبية، وتدعم أواصر هذا الشباب الذي وحد بينه التاريخ والعادات واللغة

وإن هذه الوطنية لتتغلغل اليوم بقوة في الطبقات الدنيا من هذا الشعب الذي قوته ذكريات ضحايا الحكم التركي ونظام الانتداب ودفعته لإنقاذ ثقافته وحريته

وقد بدت في هذه الأيام نفسية عجيبة في روح هذا الشعب، هي التعطش لتعليم الأبناء حتى يصبحوا قادرين على نيل الاستقلال وتتجه الحركة الفكرية بالشباب العربي نحو إحياء مجد أورشليم وبغداد القديم من الوجهة الذهنية والسياسية، وستستعين في ثقافتها بكل العوامل الضرورية لارتقائها روحياً وسياسياً.

(آسيا الفتاة)

أ. الجابري