مجلة الرسالة/العدد 59/في الأدب العربي
→ فصول مدرسية في الأدب الدرامي | مجلة الرسالة - العدد 59 في الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
من طرائف الشعر ← |
بتاريخ: 20 - 08 - 1934 |
كثير عزة
مدى التطور في شعره، خلقه وخلقه، شيعي وشاعر الأمويين،
عشقه
بقلم عبد الحليم عباسي
يعجبك في الأدب العربي القديم ظاهرة جديرة بالبحث العميق، وهي شيوع هذا الأدب الغنائي، فالشعر الجاهلي الذي وصل إلينا لا يتعدى هذا النوع في الأعم، فهو غنائي في لفظه، وفي موضوعه، بينا تجده في الأمم ذوات الأدب لم يسم إلى هذا الضرب إلا بعد قيام الدولة وازدهار النهضة. . . فالشعر اليوناني لم يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد أن اشتد أمرهم وعظم سلطانهم، فأخذوا يقيمون المستعمرات على شواطئ البحرين، وكذلك الشأن في الأمم الأخرى، فهو عند الرومان مثلاً لم تقع عليه قرائح الشعراء إلا بعد قيام الدولة ببضعة قرون، وهو في الأمم الأوربية الحاضرة كذلك قد ساوق النهضات وقيام الدول. ويجيء على الضد من ذلك في الأدب العربي، فقد نهض وما برح العرب يهيمون في أوديتهم القاحلة، لا يلم شعثهم بأس الدولة، ولا يحكم أمرهم شرف الملك؛ ولعل البحث في علة هذا يعود إلى ضرورة البحث في خصائص الخيالين: الآري والسامي، وإلى تفهم المزاج العربي الأصيل، مما نرجئه إلى وقت يكون أكثر ملاءمة من هذا الوقت الذي نخصصه للبحث عن كثير، وحسبنا هنا نشير إلى ذلك، وأن نشير إلى أن من هذا الشعر الغنائي ما يتصل بكل نفس، ويخلد على وجه الدهر، وهو الشعر الذي ينبعث من نفس الشاعر، لا يبتغي من ورائه غرضاً، وإنما يقوله إرضاء لرغبة الجمال والفن في نفسه، ومنه الغزل والحنين، وهو شائع في الأدب العربي شيوعاً كبيراً، استطاع معه أن يلون خيالهم، وأساليب تفكيرهم، وأن يجعل الرقة في الحديث والحوار، والبكاء على الدمن من أظهر صفات العرب. . ومن هؤلاء الشعراء الذين زادوا في ذخيرة الأدب الوجداني كثير بن أبي جمعة.
مدى التطور في شعره كانت الحقبة التي أعقبت عاصفة الفتح الإسلامي المجتاحة، والتي دوخت بلاد فارس، وأدخلت في حوزة المسلمين كثيراً من الأيالات الرومية، حقبة فيها شيء من الهدوء والاستقرار على الأقل - في الأطراف النائية عن مقر الملك الأموي، وكان من ذلك، ومن هذا الرخاء الذي اخذ يمتد بما هيأ له الفتح الإسلامي من فيء يفيض عن الحاجة، أضف إلى هدا ما اقتضته سياسة الملك من ضرورة مشايعة الشعر والأخذ بناصره أن نهض الشعر، وأزدهر سلطانه، وقامت له مدارس كثيرة من أشهرها هذه المدرسة التي لم يقتصر التطور على تغيير أسلوبها اللفظي، وإنما تناول مع القالب الشعري الفكرة، وكثير أقرب إلى هذه المدرسة منه إلى أية مدرسة أخرى. . .
وقد غايرت هذه المدرسة الأنماط الشعرية المتواضع عليها من القديم، فقد أنشأت القصائد يقصد بها النسيب فحسب، ويقصد بها موضوعات غير هذه المعروفة قديماً من الهجو والمدح والاستجداء.
وكثير وأن يكن من هذه المدرسة إلا أن العوامل والمؤثرات التي أثرت في نفوس أصحابها لم تكن عميقة الأثر في نفسه، فقد مدح وهجا، وكل ذلك بلفظ شيق سمح صقلته الحضارة الإسلامية التي بدأت تتفتح، وباعدت بينه وبين وعورة الأسلوب الجاهلي، وليس لذلك من تعليل غير أن النفسية العربية لم تتطور بعد التطور كله، ولم يحن لهذا التمازج الهين مع الثقافات والأمم الذي أخذ يظهر، أن يبدو عنيفاً. . كما أن كثيراً لم يك له هذا الحسب الباذخ والغناء الفاضح، الذي للعرجي وابن أبي ربيعة، فالزمن يقسره على المدح ويضطره إلى الهجاء، ليأخذ الجوائز والهبات، ويستفيد من موالاة هذه العصبيات التي أراد القابضون على مقاليد الأمر انبعاثها حية، ليطرد لهم الملك. . بعد أن جاهد الإسلام في إخفائها زمناً طويلاً. . .
ولكنه إذ يمدح يجانب بعض الشيء هذا المثل الذي يحتذيه شعراء العرب، وهو النمط الجاهلي. . فهو يضيف إلى رقته شيئاً من هذه الصور الوضاءة، التي بعثتها عيشة الهدوء والاستقرار.
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه ... حصان عليها عقد در يزينها
نهته فلما لم تر النهي نافعاً ... بكت فبكى مما شجاها قطينها وهو يجيد بصفة خاصة مدح الملوك إجادة منقطعة النظير، حازت إعجاب معاصريه حتى كانوا يرون من أبرز صفاته القدرة على ذلك. فلا غرو بعد هذا إن كان أثراً عند ملوك بني أمية يعلمون أبناءهم شعره:
خلقه وخلقه
عن الوقاصي قالت: رأيت كثيراً فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فقد كذب، وقد تشاجر هو والشاعر الحزين، فقام كثير وحمل على الحزين ولكزه، فحمله الحزين في يده مثل الكرة، ورمى به الأرض. . وهو إلى ذلك دميم أحمر، أما أخلاقه فكان شديد التيه والكبر، كثير العجب بنفسه، تقع من ذلك على نوادر مضحكة. فمن ذلك أن بعضاً من فتيان قريش كانوا يتحدثون على مسمع منه، بأن كثيراً من تيهه لا يلتفت إلى ورائه، ثم يتبعونه بمن يسحب رداءه فلا يلتفت أبداً، وقد عرف عنه أنه أحمق وفيه غفلة، ولسنا نشك في ذلك، ولكننا نشك في عامة هذه الروايات التي تقص علينا نوادر حمقه، والتي توصله من الغفلة والانتكاس في العقل حداً يصعب تصوره، في مثل من هو مثله في قوة شاعريته. . فمن ذلك أنه قال لعمته مرة: أتدرين من أنا؟ فقالت: نعم، أنت فلان بن فلان، فقال: لا، وإنما أنا يونس بن متي!. . . وقال لأصحابه وهو في مأدبة الموت: سترونني بعد أربعين ليلة طالعاً على فرس عتيق من شعاب هذا الوادي. . وقد كان له إلى ذلك آراء في الرجعة والتناسخ، وهذه من العوامل التي جنت عليه في عامة هذه الروايات، فما عرف الناس منه هذا حتى راحوا يختلقون ويضيفون إليه شتى الروايات التي تؤيد مزاعمهم انتقاما من تيهه وكبره، ثم يتعاقب الزمن، فتصبح هذه المزاعم حقائق ثابتة يتناولها الكتاب دون ما نظر ولا تمحيص، وليس لدينا ما يقوي هذا الشك في صدق هذه الروايات، غير ما نلمحه في سيرة كثير من أنه كان محاطاً بزمرة حبب إليها التندر والفكاهة، ومن أولى بهما من هذا القزم الذاهب بنفسه. . من ذلك أن أبا هاشم عبد الله محمد بن علي وضع عليه من يأتيه بأخباره، فكان يلقاه فيحدثه بما كان منه في خلال يومه، وكثير يعجب من هذا، حتى جاءه يوماً بكلام جرى بينه وبين آخر، وقال له: لقد جرى منك اليوم كيت وكيت. . . فقال كثير: أشهد أنك رسول الله. . .
فمن هنا نرى مبلغ ولوع الناس بالعبث به حتى كانوا يرصدون له بمن كان يأتيهم بأنبائه، لا يسقط منها حرفاً. .
وزاد في الطين بلة أنه كان دعي النسب إلى قريش، وأكثر الرواة يلحقونه بخزاعة، ولكنه يأبى إلا أن يكون من كنانة قريش، ويأبى إلا أن يدل بهذا النسب المختلق على القرشيين أنفسهم، وإذا عوتب في ذلك وأعوزته الحجة قال: لديع النسب في قريش خير من صريحه في غيرها من القبائل. ومن هنا ندرك مبلغ ما انطوت عليه نفسه من حماقة، وما ركب فيه من تبجح وإدعاء.
على أننا إذا شككنا في كثرة هذه الروايات التي تمثل حمقه وغفلته، فلا نشك في انه كان دميماً إلى حد البشاعة، وكان تيهاً بنفسه، وهذا ما يكفي لصد لناس عنه واستثقالهم لظله.
شيعي وشاعر الدولة
من المعروف عن كثير أنه كان متشيعاً مغالياً في التشيع، وكان ملوك بني أمية يعلمون ذلك، ولكنهم يحسنون مع هذا وفادته، بل يذهبون إلى أبعد من هذا في إكرامه، فينعتونه بشاعر الدولة، وتعلل الروايات الإسلامية هذا بلطف مدخل كثير وجلاله في أعين الخلفاء، وهي قولة ليس فيها سداد منطق ولا عمق بحث. . فأين لطف المدخل عند هذا البغيض الروح؟ وأين هذا الجلال عند من لا يزيد طوله على ثلاثة أشبار ومن هو دعي النسب في قريش؟. . ولا سيما إذا علمنا بأن صدر الدولة الأموية لم يكن يتسع للشيعة، فكم أخذتهم بأساليب العنف والقوة، وكم صرعت من جلة الناس، وما حوادث زياد بن سمية وتنقيبه عنهم تحت كل حجر ببعيدة المدى، بل هذا الحجاج في العراق، يقتفي آثارهم ويأخذهم هبراً بالسيف وبعجاً بالرماح.
إذن فلا بد من أن يكون في الأمر شيء غير هذا الجلال المزعوم، ولطف المدخل الموهوم، مكن لكثير من أن يحتمله الأمويون، وأن يستحلفه الخلفاء بمجالسهم بعلي؛ إذا ما أرادوا أن يصدقهم بخبر دون أن يروا في ذلك غضاضة.
ولنبحث بإيجاز في طبيعة هذا التشيع الذي كان يعتنقه كثير فلعل فيه العلة، وما نخال إلا ذلك. . .
نشأت الشيعية فكرة بسيطة، تتلخص في أن علياً وأحفاده أحق بالخلافة من كل من عداهم، ثم أخذت تتطور هذه الفكرة حتى اصبح الشيعيون في هذه لفترة التي نكتب عنها فرقاً متباينة لا يستهان بها. . .
وأشهر هذه الفرق فرقتا الزيدية والأمامية، ومن هذه الأخيرة تتشعب فرق متعددة يختلفون في أشخاص الأئمة، منها هذه التي تنتظر خروج محمد بن الحنفية. وقد كان من أتباعها شاعرنا كثير، فهو يمدح هذا الأمام وينعت أحفاد علي بالأنبياء الصغار، وليس في طبيعة هذا التشيع ما يضير الأمويين إذ هو لا يتعرض للقضية الكبرى وهي قضية الملك والخلافة، وأن أحفاد علي أحق به من آل مروان، فقد ألهته هذه الأمور أو ألهى بها نفسه - لا ندري - عن القضية الأساسية الكبرى كما أسلفنا.
اقر الله عيني إذ دعاني ... أمين الله يلطفُ بالسؤال
وأثنى في هواي عليّ خيراً ... ويسأل عن بني وكيف حالي
هو المهدي خبرناه حق ... أخو الأحبار في الحقب الخوالي
وسبط لا تراه العين حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
تَغَيَّب لا يرى عنهم زماناً ... برضوى عنده عسل وماء
فهل ترى في هذا النوع من التشيع ضيراً على الأمويين؟ بل نزعم أكثر من هذا وهو أن الأمويون ما كانوا ليروا حرجاً في أن يشيع هذا النوع، ليمدوا أسباب الخلف بين فرق الشيعة من جهة، وليلهوهم من جهة ثانية، وما عليهم أن قعدت بهم هممهم، ينتظرون هذا الذي يقود الخيل يقدمها اللواء.
فلا جرم أن لم يأبهوا لتشيع كثير، وما عليهم وهو يجيد مدح الملوك، وقد تغلغل حب القرشيين في صميمه، يحب من والاهم، ويعادي من عاداهم، أن اتخذوه شاعرهم يقدمونه ويروون شعره، وهو بعد الشاعر البعيد الصيت، المستفيض الشهرة.
عشقه
يشك بعض الرواة، في أن كثير كان صادق العشق لعزة، ويدللون على ذلك بروايات نرى فيها اثر الاختلاف والتكلف، فمن ذلك أن كثير تبع مرة بثينة وقال لها متغزلاً:
رمتني على عمد بثينة بعدما ... تولى شبابي وارجحن شبابها
فالتفت فرأى وراءه عزة فاستدرك وقال:
ولكنما ترمين نفساً مريضة ... لعزة منها صفوها ولبابها وهكذا دواليك من هذه المزاعم التي يلحظ فيها الإنسان أثر الصنعة، ولا نعرف من أين غلب على الرواة هذا الظن، لعلهم ظنوه قلد جميلاً في غزله، دون أن يعرف قلبه هذا الحب المبرح. . والذي نعتقده ونحن ندرس شعره الذي تركه في عزة، فنرى اللوعة وبرح الهوى ووقدة العاطفة، أنه أحب عزة حباً قوياً جارفاً كما يقولون، وكان من أثر هذا الحب أن زفر بهذا الشعر الذي يحمل نجيع القلب، وذوب العاطفة؛ وهاك ما قاله فيها لما أخرجت إلى مصر، ولك أن تحكم:
وقال خليلي مالها إذ لقيتها ... غداة السنا فيها عليك وجوم
فقلت له إن المودة بيننا ... على غير فحش والصفا قديم
وإني وإن أعرضت عنها تجلداً ... على العهد فيما بيننا لمقيم
وإن زماناً فرق الدهر بيننا ... وبينكم في صرفه لمشوم
ولكن أنى لهذا الحب أن يدوم وقد فترت دواعيه. فمن الرواة من يشك في أن كثير رأى عزة واجتمع بها، والذي صح عندنا أنه رآها، ولكن في مرات معدودة، وأنها لم تكن تبادله الحب قوياً كحب بثينة لجميل بن معمر، فمن هنا مال لغيرها وقصد القصائد في أم الحويرث، وأخرى أسمها ظلامة، والمرء إذ يطالع شعره في هاتين، يراه بارد العاطفة ركيك الصنعة.
تقطع من ظلامة الوصل أجمع ... أخيراً على أن لم يك الوصل ينفع
وقس هذا بهذين البيتين يقولهما في عزة:
واجمع هجراناً لأسماء إن دنت ... بها الدار لا من زهده في وصالها
فإن شطحت يوماً بكيت وإن دنت ... تذللت واستكثرتها باعتزالها
وأخيراً فشعره في عزة هو الذي زاد في ذخيرة الأدب الوجداني، ومحال أن يكون مجرد صياغة وصناعة.
عمان
عبد الحليم عباسي