مجلة الرسالة/العدد 585/على هامش ذكر المعري
→ على هامش النقد | مجلة الرسالة - العدد 585 على هامش ذكر المعري [[مؤلف:|]] |
القضايا الكبرى في الإسلام ← |
بتاريخ: 18 - 09 - 1944 |
(داعي الدعاة) مناظر المعري
للدكتور محمد كامل حسين
- 6 -
رأينا المؤيد عالماً من أكبر علماء عصره، ومؤلفاً يبث آراءه وتعاليمه في بطون الكتب، ومجادلا له خطره يخشاه مناظروه ويرهبه أكبر مفكري عصره وهو أبو العلاء المعري. والآن نتحدث عن أثر المؤيد فيمن جاء بعده بعد أن عرفنا مقدار تأثيره في معاصريه، فقد كان للمؤيد تلاميذ استمعوا إليه وأخذوا عنه، منهم الشاعر الفارس المشهور (ناصري خسرو) الذي وفد إلى مصر بدعوة من المؤيد، ووصف مصر في كتابه المشهور (سفر نامه). فقد تحدث هذا الشاعر عن المؤيد ومجالسه في كثير من قصائده. فمن ذلك ما ترجمته:
(إن الله قد فتح عليك باب الحكمة بما تفتح عنه خاطر الأستاذ المؤيد
كل من يراه يوم مجلسه يرى عقلاً مفكراً
أن الأستاذ جعل يعطي يوماً مشرقاً ببراهين منيرة كالشمس
إني نظرت من زاوية عقله فرأيت الفلك دائراً تحتي
فقد أطلعني على العالمين (الظاهر والباطن)
وجعلهما حاضرين وفي مكان واحد من وجودي.
إني رأيت في مكان واحد مالكا ورضوان، واستقر في صدري الفردوس والنيران
وقال لي إنني تلميذه، وأشار عندئذ إلى رضوان)
إلى غير ذلك من أشعار ناصري خسرو الفارسية التي تحدث فيها عن أستاذه المؤيد والتي يطول بنا الحديث لو تتبعنا أثرها.
من ناحية أخرى يعد المؤيد أستاذ الدعوة الفاطمية في اليمن مع أنه لم يرحل إلى هذه البلاد، بل نقل تلاميذه إلى هذه البلاد آراءه وتعاليمه، وأثبت علماء اليمن هذه الآراء والتعاليم فيما تركوه لنا من كتب، بل أستطيع أن أقول إن علماء الدعوة في اليمن هم أكث الناس حديثاً عن المؤيد، واقتباساً من كلامه واستناداً لحججه، وأشدهم اعتقاداً بأن الحق ما قاله المؤيد دون غيره من الدعاة، ويكفي أن نستدل على ذلك بقول إبراهيم بن الحسين الحامدي المتوفى سنة 557هـ في كتابه كنز الولد: وسيدنا المؤيد أقرب الحدود إلينا، وهو لا يأتي إلا بصحيح ما جاء به الحدود وإلغاء ما كان به شبهة أو فساد، لأن الآخر ينسخ ما جاء به الأول بإيضاح الرموز؛ والمؤيد حجة رابع الأشهاد ذو القوة في العلم والتأييد والحكمة والتسديد المنصوص عليه باسم الحججية، كما قال مولاه المستنصر عنه:
يا حجة مشهورة في الورى ... وطود علم أعجز المرتقى
شيعتنا قد عدموا رشدهم ... في الغرب يا صاح وفي المشرق
فانشر لهم ما شئت من علمنا ... وكن لهم كالوالد المشفق
إن كنت في دعوتنا آخرا ... فقد تجاوزت مدى السبق
مثلك لا يوجد فيمن مضى ... من سائر الناس ولا من بقى
فهذه شهادة من لا ترد شهادته، وأمر من لا يرد أمره، وتفويضه له في نشر ما أحب أن ينشره من العلم بلا حصر ولا قصر، لعلمه بما عنده من الحق)
أما الذي نقل آراء المؤيد إلى اليمن فهو تلميذه لمك بن مالك قاضي قضاة اليمن في عهد الصليحي. ولم أجد في الكتب التي تتحدث عن اليمن شيئاً عن لمك هذا، ولكن الحسن بن توح الهندي صاحب كتاب الأزهار ذكر لنا قصة طويلة، ونلخصها في أن الصليحي صاحب اليمن أرسل قاضي قضاته (لمك بن مالك) على رأس وفد إلى مصر للسماح للصليحي في النهوض إلى العراق لامتلاكها باسم الفاطميين. فلما جاء الوفد إلى مصر نزل لمك في دار المؤيد مدة خمس سنوات وانتهز هذه الفرصة؛ فأخذ عن المؤيد أسرار الدعوة الفاطمية، وكان يدون كل ما يسمعه عن المؤيد إلى أن استوعب كل ما عند المؤيد من علم، وكان المستنصر الفاطمي قد حجز وفد اليمن لأسباب لا نعلمها، ولم يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم إلا بعد أن قتل الصليحي، فعاد لمك إلى اليمن وهناك بخل بعلمه، ولم يسمح إلا بالشيء القليل منه للداعي المكرم بن الصليحي وللملكة الحرة أروى وأحمد بن قاسم وغيرهم من الدعاة، بينما خص لمك ابنه يحيى بن لمك بجميع أسرار الدعوة وكل ما عنده من العلم والحكمة وسلمه كل ما دونه عن المؤيد؛ فهيأ بذلك ابنه يحيى ليكون حجة اليمن في عهد الخليفة الآمر الفاطمي، وأصبح يحيى أكبر عالم في اليمن يحج إليه أتباع المذهب الفاطمي للأخذ من علومه التي رواها عن أبيه عن المؤيد
وذكر صاحب كتاب الأزهار جماعة من تلاميذ يحيى منهم الداعي الخطاب بن حسن الشاعر المتوفى سنة 533هـ وذؤيب بن موسى المتوفى سنة 547هـ وغيرهما، وهؤلاء الدعاة انتشروا في اليمن يبشرون بما سمعوا عن يحيى بن لمك وأصبح لهم تلاميذ. فذؤيب مثلاً أستاذ الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي، وهذا أستاذ حاتم بن إبراهيم، وهذا أستاذ علي بن حاتم، وهذا أستاذ علي بن محمد بن الوليد. وهكذا نستطيع بسهولة ويسر أن نتتبع علماء الدعوة في اليمن وأن نلمس في هذه المدرسة روح المؤيد وتعاليم المؤيد أخذها دعاة اليمن أحدهم من الآخر. ولو تصفحنا كتب الدعوة في اليمن التي وضعت في القرنين السادس والسابع من الهجرة لا نكاد نجد كتاباً منها يخلو من استشهاد بأقوال المؤيد أو بأشعاره، فصاحب (كنز الولد) ذكر المؤيد في أكثر من ستين موضعاً، واقتبس من المجالس المؤيدية ومناجاته وأشعاره. وصاحب كتاب الأنوار اللطيفة ذكر المؤيد أكثر من أربعين مرة، ونقل صاحب كتاب الأزهار فصولاً بأكملها عن المجالس المؤيدية منها رسائل المؤيد إلى أبي العلاء المعري وهكذا، وكان هؤلاء العلماء يشيرون إلى المؤيد بقولهم: (سيدنا المؤيد) أو (سيدنا) فقط إمعاناً في تعظيمه وتبجيله. وإذن فقد كان المؤيد عظيم الأثر في الدعوة الفاطمية بل لا تزال كتبه إلى الآن من أمهات الكتب التي لا يقربها إلا من بلغ مرتبة عالية من مراتب الدعوة في الهند واليمن (أي بين طائفة البهرة)
هناك ناحية أخرى تتجلى فيها عبقرية المؤيد، تلك هي ناحية الفن الأدبي عند المؤيد، فقد كان المؤيد رجلاً صاحب فن كما كان علماً من أعلام المذهب الفاطمي، وكانت صفته المذهبية تضطره إلى أن يحيط بكل شيء حوله، وإلى أن يلم بالآراء المذهبية وبالتيارات الفلسفية التي ملأت الأقطار الإسلامية في ذلك العصر، فأخذ المؤيد بحظ وافر من نواحي الحياة العقلية المختلفة واضطر إلى أن يجادل مخالفي مذهبه طوراً بالمكاتبة وطوراً بالمناظرة الشفوية فكان ذلك من أقوى الأسباب التي أدت إلى أن يكون المؤيد حريصاً أشد الحرص في أسلوبه وفي لفظه وأن يكون ناقداً مدققاً يفكر ويطيل التفكير وينقد كل لفظ قبل أن يذيعه في الناس فظهر أسلوبه الأدبي أسلوباً رائعاً يبهر السامعين، جمع بين قوة أسلوب العلماء المفكرين، وروعة أسلوب الكتاب الإنشائيين حتى كأني به قد أتخذ أسلوبه سلاحاً ليفحم به خصومه وليجذب به سامعيه. والمؤيد في الوقت نفسه كان أستاذاً من أساتذة (التأويل) وأساس التأويل يعتمد على قوة الملاحظة وخصوبة الخيال، وعلى قدرة خاصة على التغلغل في الموجودات ليتخذها المؤول دليلاً على أسرار الدين فكان لهذه الناحية أثرها في فن المؤيد إذا اتجهت به في شعره اتجاهاً خاصاً لا نكاد نجده عند أي شاعر آخر من شعراء العربية إلا عند أبي العلاء المعري، فأبو العلاء والمؤيد هما الشاعران اللذان استطاعا أن يصفا في شعرهما اختلاف العقائد الدينية، وأن يتحدثا عن الآراء الفلسفية وعن الحياة والموت وعن دقائق الكائنات العلوية والسفلية
انظر إلى المؤيد مثلاً وهو يتحدث في إحدى أراجيزه عن خلاف الناس في موضوع (الرؤية):
ونقضوا قواعد الشريعة ... كل له مقالة شنيعه
من مثبت لرؤية الرحمن ... مستشهد بآية القرآن
ومنكر قد جاء ينفي تلكا ... ودونها الشرك يرى والكفرا
وقال في نفس الموضوع في أرجوزة أخرى:
فقائل قال تراه العين ... وهو لعمري وصمة وشين
من أجل أن رؤية الأبصار ... مختصة بالحسم ذي الأقطار
وقائل قد قال لما دققا ... جداً وفي أفكاره تعمقا
ما ذاك إلا قول ذي تضليل ... نراه لكن رؤية العقول
أمعن حتى ما أتى بشيء ... ولم يبق رشداً من غي
فالعقل للمرء أداة كالبصر ... ذا باطن فيه وهذا قد ظهر
فإن جعلت نحوه سبيلاً ... للعقل لم تجاوز التمثيلا
كلاهما يدرك بالمجانسة ... مقالة صحت بلا ممارسه
وليس من جنس العقول الله ... يا قوم كي تدركه حاشاه
كما تعالى أن يكون كالصور ... مجسماً كيما يلاقيه البصر
فالفرقتان اجتمعا مشبهه ... خباطتا عشواء جهل وعمه ما جاوزت حد صفات البشر ... ونعت أرواحهم والصور
ذلك تشبيه فما التوحيد ... وذاك تجسيد فما التجريد
فهو هنا يتحدث عن موضوع خاض الناس فيه، وتفرقوا شيعاً وأحزاباً بسببه، حتى لا نجد كتاباً من كتب الفرق إلا وبه فصل عنه، فلم يترك المؤيد هذه الفرصة دون أن يدلي بدلوه مع غيره من العلماء، بل هو هنا يجادلهم بالنظم، كما جادلهم بالنثر، جادل المعتزلة الذين يرون أن الله سبحانه وتعالى يرى رؤية عقلية ويجادل المشبهة الذين قالوا إننا نرى الله رؤية العين، ولكن المؤيد يرفض الرأيين ولا يقبلهما، كما يدلنا نظمه هذا على عقيدة الفاطميين في هذا الموضوع. وإذن فنحن نستطيع أن نأخذ ديوان المؤيد مرجعاً هاماً لدراسة عقائد المذهب الفاطمي. فقد بث المؤيد شيئاً كثيراً جداً من العقائد الفاطمية في أراجيزه وشعره مدح بها خلفاء مذهبه.
(يتبع)
دكتور
محمد كامل حسين
مدرس بكلية الآداب بالقاهرة