الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 585/القضايا الكبرى في الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 585/القضايا الكبرى في الإسلام

بتاريخ: 18 - 09 - 1944


قذف عائشة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

- 8 -

سأتناول بحث حديث الإفك المشهور من ناحيته القضائية، وسأعني في ذلك بتحقيق أمور فيه لم يتناولها الذين بحثوه من ناحيته التاريخية ليكون بحثاً قضائياً ينسجم والبحوث القضائية التي تدخل في موضوعنا، ويتفق في ذلك مسلكه ومسلكها، ويندرج به في مسائل القضاء لا في مسائل التاريخ

وكان حديث الإفك في السنة الخامسة من الهجرة، وقد جرى بعد انتهاء النبي ﷺ من غزوة بني المُصْطَلَق، فلما دنوا من المدينة قافلين من تلك الغزوة أُذِّنَ ليلة بالرحيل، فقامت عائشة رضي الله عنها لقضاء حاجتها حنى جاوزت الجيش، فلما قضت شأنها أقبلت إلى رحلها، فلمست صدرها فإذا عِقْدٌ لها من جَزْعِ ظَفَارِ قد انقطع، فرجعت تلتمسه في المحل الذي قضت فيه حاجتها، وقد حبسها التماسه حتى أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لها، فاحتملوا هودجها على بعيرها وهم يحسبون أنها فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لقلة أكلهن، لأن السِّمَنَ وكثرة اللحم تنشأ غالباً عن كثرة الأكل

وقد رجعت عائشة بعد أن وجدت عقدها إلى محل الجيش فوجدتهم قد ارتحلوا، فجلست في مكانها الذي كانت فيه، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون إليها، فبينما هي جالسة في مكانها غلبتها عينها فنامت، وكان صفوان بن المُعَطَّل رضي الله عنه من عادته أن يسير وراء الجيش، يفتقد ضائعه، ويرد ما يجده من ذلك إلى صاحبه، وقيل إنه كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتجل الناس، فلما وصل إلى عائشة عرفها لأنه كان رآها قبل الحجاب، فاسترجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فاستيقظت عائشة باسترجاعه وسترت وجهها بجلبابها، فأناخ راحلته وأركبها من غير أن يتكلما بكلمة، ثم انطلق يقود بها الراحلة حتى وصل الجيش وهو نازل للراحلة.

وكان عبد الله بن أُبيِّ بن سَلولٍ رئيس المنافقين نازلا مع جماعته مبتعدين عن الناس، مرت عليه عائشة وصفوان قال: من هذه؟ قالوا: عائشة وصفوان. فقال: فجر بها ورب الكعبة. وفي رواية: ما برئت منه وما بريء منها. وصار يقول: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت. ثم أشاع ذلك في المدينة بعد دخولهم لها، وقيل إنه كان يُتَحَدَّثُ به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه، أي يستخرجه بالبحث عنه، ولكن الذي ثبت عليه الاشتراك في هذا الإفك أربعة: عبد الله بن أُبَيٍ، ومسْطَحُ بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين وعبيد الله بن جحش أخوها. وبعضهم زاد خامساً هو زيد بن رفاعة. وبعضهم زاد سادساً هو حسان بن ثابت

ولا شك أن هذا لا يعد قذفاً في حق عائشة رضي الله عنها، لأن دعوى الزنا تقرر أمرها قبل حديث الإفك بآية النساء: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا امسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً)؛ فلا يثبت الزنا بعد هذه الآية إلا بأربعة من الشهود، ولا يجوز لشخص أن يرمي أحداً بالزنا فيما دون ذلك ولو عاينه معاينة، فكيف بأمر عائشة وقد جرى على أسلوب لا يدل على شيء من الريبة، لأن الذي يقع في الريبة يحاول إخفاؤها، ولا يفعل ما فعل صفوان من الإتيان بعائشة على راحلته، وكان الذي يجب أن يقع لو كان هناك ريبة أن يأتي وحده ويتركها إلى أن يبعثوا في طلبها، أو يقيم قريباً منها إذا خاف أن يتركها وحدها، بحيث لا يراها ولا تراه، ولا يراه أحد من الناس، حتى إذا عثروا عليها سار على عادته في طريق الجيش، وقطع على الناس طريق الكلام في أمرهما

وإذا لم يكن حد القذف قد نزل إلى ذاك الوقت، فإن ما حصل من عبد الله بن أُبَيِّ وإخوانه يستحق التعزير الشديد، لأنه قذف قبيح في حق سيدة شريفة لها منزلتها كزوجة نبي، وكابنة أكبر أصحابه وآثرهم عنده، ولكن النبي ﷺ لم تتوجه نفسه إلى إقامة التعزير عليهم في ذلك القذف، لأنه كان كثيراً ما يغضي عما يحصل من أولئك المنافقين، ويؤثر في ذلك المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، لأن عبد الله ابن أبي كان من رؤساء الخَزْرَج، وكان الإسلام لا يزال غضاً طرياً لم يقتلع من النفوس كل آثار العصبية، وهذا إلى أن من الحكمة في مثل ذلك الإفك أن يقضى عليه بالإغضاء، وأن يترك أصحابه حتى يملوه من أنفسهم ويروا أنه لا قيمة لكلامهم فلم يهتم النبي ﷺ إلا بمعرفة أثر ذلك الإفك في نفوس أصحابه، وقد أخذ يستشيرهم في أمره، فقال له عمر رضي الله عنه: من زوجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى. فقال عمر: أفتظن أن الله دلّس عليك فيها، سبحانك هذا بهتان عظيم. ثم دعا النبي صلى الله عليه علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد ليستأمرهما في فراقها، فأما أسامة فقال: أهْلَكَ يا رسول الله، ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإنك لتقدر أن تستخلف. وفي رواية أنه قال: قد أحل الله لك فطلقها وأنكح غيرها، وإن تسأل الجارية تصدقك، يعني بُرَيرَةَ رضي الله عنها، لأنها كانت تخدم عائشة وتعرف من أمرها ما لا يعرفه غيرها. فدعا النبي ﷺ بريرة فقال لها: أيْ بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أغمِصُهُ أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله. ثم سأل النبي ﷺ زوجه زينب بنت جحش. فقالت: يا رسول الله، حاشا سمعي وبصري، ما عملت إلا خيراً، والله ما أكلمها وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول

إلا الحق

فلما فرغ النبي ﷺ من استشاره كبار أصحابه قام في الناس وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، ولا يدخل بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي

فقام سعد بن معاذ سيد الأوْس وقيل أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك

فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج وقد احتملته الحَمِيَّةُ فقال: كذبت لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. وثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، والنبي ﷺ قائم على المنبر، فلم يزل يُخَفَّضُهمْ حتى سكتوا، ولم يفعل شيئاً مع ذلك الرجل الذي آذاه في أهله، درءاً لتلك الفتنة، وإيثاراً للصلح بين الحيين اللذين قام على عاتقهما الإسلام

كل هذا وعائشة لا تعلم شيئاً مما يقال في حقها، لأن النبي ﷺ لم يرد أن يؤذيها به، فكل شيء يهون إلا الشرف، وكل شيء يحتمل إلا ما يخدش العِرْض، وكانت قد مرضت عقب وصلها إلى المدينة، فلم يشأ أن يزيدها آلاماً على آلام المرض، ولكنه كان في نفسه شيء من تصرفها الذي مَكَّنَ ذلك الرجل من ذلك الإفك، وكان عليها عند خروجها لالتماس عقدها أن تترك خبراً بذلك في الجيش، حتى ينتظر رجوعها ولا يسير ويتركها وحدها، فرابها من النبي ﷺ أنها لم تر منه اللطف الذي كانت تراه منه حين تمرض، وإنما كان يدخل عليها وعندها أمها تُمرِّضها فيسلم ثم يقول: كيف تيكم. لا يزيد على ذلك شيئاً، ثم ينصرف ولا يمكث عندها

ولم يزل هذا حاله معها إلى أن خرجت بعد ما نقهت، فخرجت معها أم مسطح بن أثاثة، وهي بنت خالة أبي بكر، وكان أبنها مسطح يتيماً في حجر أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه لأنه كان فقيراً، وقد سارتا حتى وصلتا إلى المنْصَعِ، وهو محل متسع كانت النساء يخرجن بالليل للتبرز فيه، فلما فرغتا من شأنهما وأقبلتا عثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقالت عائشة لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً! قالت: يا هَنْتَاهُ أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: وما قال؟ فأخبرتها بقول أهل الإفك

فخرت عائشة مغشياً عليها حين أخبرتها بذلك، وازدادت مرضاً على مرضها، وأخذتها حُمَّى نافضة، ثم رجعت إلى بيتها ومكثت ليلتها حتى أصبحت، لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، ثم أصبحت تبكي، فدخل عليها النبي ﷺ، فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقالت له: أتأذن لي أن آتي بيت أبَوَيَّ. وهي تريد بهذا أن تتثبت من ذلك الخبر، فأذن لها في ذلك وأرسل معها غلاماً من الغلمان، وكان قد مضى إذ ذاك بضع وعشرون ليلة على قول أهل الإفك، فقالت لأمها: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به، لا تذكرين لي من ذلك شيئا! فقالت لها أمها: هَوَّني عليك الشأن، فوالله لَقَلّما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كّثَّرْنَ وكَثَّرَ الناس عليها. فقالت عائشة: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا، وعلم به أبي، وعلم به رسول الله. قالت: نعم. فاستعبرت وبكت ومكثت ليلتان لا يرقأ لها دمع، ولا تكتحل بنوم، وكانت تبكي وأبواها يبكيان، وأهل الدار يبكون، وبينما هم على ذلك دخل عليهم النبي ﷺ، فسلم ثم جلس، ولم يكن قد جلس عندها منذ قيل ما قيل، وقد لبث على ذلك شهراً لا يوحي إليه في شأنها وهنا يذكرون أن النبي ﷺ تشهد حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه. قال بعضهم: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر، مع أنه المطلوب ممن أتى ذنباً لم يُطلع عليه

فقالت عائشة لأبويها: ألا تجيبان رسول الله ﷺ. فقالا: والله لا ندري بماذا نجيبه. فقالت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم، فلئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم إلا قول أبي يوسف عليهما السلام إذ يقول: فصبر جميل والله المستعان. ثم تحولت فاضطجعت على فراشها

ولا شك أن هذا الذي يذكرونه لا يتفق وما سبق من النبي ﷺ حين جمع الناس فخطبهم، وذكر أنه لا يعلم على أهله إلا خيراً، وأن أهل الإفك ذكروا رجلاً لا يعلم عليه إلا خيراً، فكيف يعود بعد هذا إلى الشك في براءة أهله من ذلك الإفك، وقد استشار كبار أصحابه فبرأوا عائشة منه، وذكروا أنه إثم وبهتان عظيم

ولما بلغ الأمر أشده، ولم يعد من السهل أن تعود عائشة إلى بيتها على هذا الحال، نزل الوحي ببراءتها في الآيات الأولى من سورة النور، ونزل فيها حكم القذف: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك فإن الله غفور رحيم).

فخرج النبي ﷺ إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم تلك الآيات، وأمر بجلد أصحاب الإفك، وقد اتفقوا على جلد ثلاثة منهم، وهو مسطح وحمنة بنت جحش وأخوها عبيد الله، واختلفوا في جلد عبد الله بن أبي وحسان بن ثابت، فقيل إن عبد الله جلد أيضاً، وقيل إنه لم يجلد، لأن الحد كفارة وليس من أهلها لنفاقه، أو لأنه لم تقم عليه البينة بذلك، أو لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده، بل على لسان غيره

وأما حسان فقيل إنه كان من أهل الإفك وإنه جلد فيه، وقيل إنه لم يكن منهم ولم يجلد مثلهم، ومما يدل على أنه لم يكن من أهل الإفك تبرؤه مما نسب إليه في أبيات مدح بها عائشة رضي الله عنها، ومنها قوله:

مهذبة قد طَيَّبَ الله خيِمها ... وطّهَّرَها من كل سوء وباطل

فإن كنتُ قد قلتُ الذي قد زعمتمُ ... فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي

وكيف وودي ما حييتُ ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافلِ

وقد ذكر الزبير بن بكار أنه قيل لعائشة رضي الله عنها وقد قالت في حق حسان رضي الله عنه إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه بلسانه عن رسول الله ﷺ: أليس هو ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئاً، ولكنه القائل:

فإن كان ما قد قيل عَنَّي قلتُهُ ... فلا رفعتْ سوطي إليَّ أناملي

عبد المتعال الصعيدي