مجلة الرسالة/العدد 585/على هامش النقد
→ حرية الفكر أيضاً. . . | مجلة الرسالة - العدد 585 على هامش النقد [[مؤلف:|]] |
على هامش ذكر المعري ← |
بتاريخ: 18 - 09 - 1944 |
1 - في عالم القصة
بنت الشيطان. . . . . . محمود تيمور
للأستاذ سيد قطب
ليست هذه هي المرة الأولى التي أهم فيها بالكتابة عن (تيمور) ثم أوثر التريث، لأراجعه مرة أخرى
إنه ليصعب عليك - وأنت تتحدث عن القصة - أن تغفل عمل تيمور. ولكن يصعب عليك أيضاً أن نقررمكانه، وأنت مستريح الضمير
رجل كالمويلحي - صاحب حديث عيسى بن هشام - لا يجد الناقد مشقة في تعيين مكانه. مكان (القنطرة) التي تعبر عليها القصة العربية من المقامة اللغوية، إلى القصة الفنية
ورجل كتوفيق الحكيم، لا يجد الناقد مشقة في تعيين مكانه. مكان (الفنان)، الذي يجعل القصة والرواية، فصلاً من فصول الأدب العربي، يقف في صف واحد مع بقية فصوله، التي كانت من قبل مقررة، والتي لم يكن الأدب العربي يعترف بغيرها من الفصول. يتفق الجميع على هذا من ناحية المبدأ، ثم يختلفون في تقويم عمله بعد ذلك كما يشاءون
وقد لا يكون الإنسان - في عالم القصة - قنطرة كالمويلحي، ولا مقرراً لفصل جديد في كتاب الأدب العربي كتوفيق الحكيم؛ ثم يكون له بعد ذلك مكانه المعلوم
فالمازني مثلاً قد اشتغل بالقصة الطويلة كإبراهيم الأول وإبراهيم الثاني، وثلاثة رجال وامرأة، وعود على بدء، وبالقصة القصيرة كقصصه الكثيرة في خيوط العنكبوت، وصندوق الدنيا وسواهما. ومكانه في هذه القصص وفي سواهما هو مكان (الأديب) الذي يستفيد مما يقرأ أعظم الفائدة، ويتأثر به فيما يكتب كل التأثر. ولكنه يطبع الجميع بطابع خاص متميز
والمازني - بهذه الصفة - يمكن أن يعد قنطرة لنوع من القصة (الواقعية الشاعرية!) قنطرة لأصحاب المواهب الخالقة، يتأثرون طريقته الجيدة، ويبدعون من ذات أنفسهم بلا اعتماد على أصل ي وهناك شبان يحاولون، لم يتقرر لهم بعد مكان، فبينهم وبين تقرير مذاهبهم في عالم القصة خطوات وتجارب وتعديلات
من كتاب القصة القصيرة الأستاذ (يوسف جوهر) - وهو ينسج على منوال جي دي موباسان - في حرارته وشاعريته، ولكن (جسم القصة) عنده ما يزال بعد ضئيلاً، وما يزال مكرراً، وكثيراً ما يحس القارئ بعد نهاية القصة أن حرارتها البراقة قد خدعته، وأنه لم يخرج منها بشيء كبير، لا من ناحية الموضوع، ولا من ناحية اللمسات الفنية في العرض، ولا من ناحية الرصيد الإنساني الذي هو أثمن ما في العمل الفني
ومنهم الأستاذ (صلاح ذهني) - وهو لا يزال يقبس من طرائق مختلفة، وله توفيقاته في أحيان كثيرة. ولكن ينقصه التركز، كما ينقصه روح الإبداع الذي يرفع القصة من الحادثة اليومية إلى المجال الإنساني. وقصصه في حاجة كذلك إلى الحرارة التي تشعرنا أنه يحس بما يكتب، وليس متفرجاً عابراً يصف الحوادث
ومن كتاب القصة الطويلة الأستاذ (باكثير) وقصصه - لها طلاوتها والحياة واضحة فيها - ولكن لا يزال ينقصها تمكن الروح القصصية، التي تنسي القارئ أن هذه قصة وتخيِّل له أنها قطعة من الحياة تقع الآن. وليس مرد هذا إلى نقص الحياة، ولكن إلى نقص الروح القصصية، فهو ما يفتأ بين حين وحين ينبه القارئ إلى أنه يقص عليه، ولا يدعه يستغرق في القصة وينساه!
ومنهم الأستاذ نجيب محفوظ والأستاذ عادل كامل، وكلاهما يخطو الخطوات الأولى؛ ولكنها - فيما يبدو - خطوات ثابتة وثيقة. تكفي لإثبات وجودهما في عالم القصة، وإن لم تثبت لهما بعد مذهباً مقرراً ينسج غيرهما على منواله؛ إلا أن هذا لا ينفي أنهما في الطليعة - على تفاوت بينهما - في طليعة كتاب القصة الشبان بلا جدال
وهكذا نجد لكل من يشتغل بالقصة في مصر مكانه المعلوم في هذا العالم. فأين نضع (تيمور) بين هؤلاء؟
لا هو القنطرة بين طور من أطوار القصة وطور كالمويلحي، ولا هو القنطرة بين التأثر والابتداع - مع وضوح الذاتية الشخصية والطابع المميز - كالمازني. ولا هو الناشئ الذي لم يزل أمامه المجال منفسحاً للتمكن والكمال وهذا كله من ناحية الشكل. فأما من ناحية المذهب والطريقة، فالحيرة كذلك واقعة
رجل كالمويلحي قصاص واقعي بالمعنى الضيق للواقعية. وهو مع ذلك قد استطاع أن يرسم عدة شخصيات إنسانية للعصر الذي كتب فيه القصة؛ وأن يصور البيئة التي عاشت فيها هذه الشخصيات المحلية: الباشا، والعمدة، والمحامي، والنائب، والمشايخ، وغيرهم من الشخصيات التي رسمها في حديث عيسى ابن هشام. وهم آدميون لا تشك في آدميتهم، وواقعيون - بالمعنى الضيق - لا ترتاب في واقعيتهم؛ مع شيء من السخرية والدعابة، تحسبان لهذا القصاص في عالم الفنون
ورجل كتوفيق الحكيم، قد تقرر مذهبه - إلى اليوم على الأقل - فهو في التمثيلية (الفنان) الخالق الذي يبدع شخوصه من (ذهنه) ليؤدوا له فكرة فلسفية خاصة. وهم - على هذا الوضع - أشخاص صحاح منطقيون مع طبيعتهم، مستقيمون من أول التمثيلية إلى آخرها مع الفكرة التي خلقوا ليؤدوها. كما في أهل الكهف، وشهرزاد، وبيجماليون، وسليمان الحكيم. أما في القصة فهو ينحرف عن هذا المذهب إلى شيء من (الواقعية) الممزوجة بالشاعرية، حتى لتقرب من الرومانتيكية في بعض الأحيان. كما في عودة الروح، وعصفور من الشرق، ويوميات نائب في الأرياف، وزهرة العمر - وإن ظلت هذه الواقعية موسومة بميسم (الفكر) لأن هذه هي السمة الغالبة على طبيعته - ولكن قصصه ورواياته تستمد دائماً من (التنسيق الفني) والإشعاع الشاعري، ما تعوض به الحياة الحقيقية. وما يتيح لها أن تنشئ مدرسة معروفة السمات
ورجل كالمازني يمثل (الأديب) الذي يفيض على شخوص قصصه حركة حية سريعة، في حماسة شاعرية قوية، كما في إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني قصتيه الأساسيتين، أو يفيض عليها الحركة في دعابة ساخرة كما في القصص القصيرة
ومهما قيل من تأثر المازني لبعض كتاب القصة الغربيين، واقتباسه من طرائقهم وموضوعاتهم كذلك. فالذي يبقى له بعد هذا كله ليس بالقليل. إنه يتأثر ويقتبس في اتجاه واحد، وبطريقة واحدة، يبدو فيها طابع خاص، هو دليل الشخصية الفنية. . .
وقد لا يكون المازني خالقاً ولا مبتدعاً لموضوعاته وطرائقه، ولكن هذا لا ينفي أن له طابعه الشخصي في كل ما يكتبه. هذا الطابع هو الحركة السريعة، والانتباه إلى دقائق الانفعالات النفسية، وإبراز الاستجابات التي يمر عليها الكثيرون غافلين. مع تأثره بكشوف علم النفس الحديث ولا سيما في مجال (التحليل النفسي) هذا التأثر الذي قد يطغي على العمل الفني في بعض الأحيان، كما في (ثلاثة رجال وامرأة)
فما مذهب تيمور تجاه هذه المذاهب أو سواها في القصة؟
يعسر عليك أن تسلكه في الواقعية الضيقة التي يمثلها عيسى ابن هشام. إذ أن فيه قسطاً من الشاعرية والتلوين الفني. ويعسر عليك أن تسلكه في (الواقعية الشاعرية!) التي يمثلها المازني، لأن الحركة في فنه وئيدة، والألوان النفسية باهتة، والشخصية الإنسانية لا تتصرف تصرف الأحياء. ويعسر عليك أن تسلكه في (الفنية الرمزية) التي يمثلها توفيق الحكيم لأن الفكرة الفلسفية والمعاني الرمزية لا تبرزان في أعماله
فتيمور لا هو الذي يرسم شخصيات محلية كالمويلحي، ولا هو الذي يصور نفوساً آدمية كالمازني، ولا هو الذي يخلق شخوصاً فنية كتوفيق الحكيم. ولا هو مع ذلك كله القصصي الناشئ الذي تستطيع أن تدعه إلى التركز والنضوج!
وقد كتب بعضهم يقول: إنه يلتفت إلى (العقل الباطن) في سيرة أبطاله وتصرفاتهم ويستخدم كشوف (التحليل النفسي) كما في قنابل وأبو شوشة والموكب
وكتب بعضهم يقول: إنه يرسم (نماذج بشرية) كما في نداء المجهول وسهاد
وهذا وذلك حق من حيث هو نية وقصد. ولكن ما أثره في العمل الفني. إن قيمة القصة لا تقوم على أساس أن القصاص ينتفع بالمباحث العلمية. فهذا قد يفسدها في بعض الأحيان. ولا على أساس أنه يحاول رسم (نماذج بشرية) فالمهم هو صدق هذه النماذج وحيويتها
وتيمور وفق في بعض الأحيان في هذا الغرض أو ذاك، ولكن هذا التوفيق لم يكن في تلك المواضع التي عينوها
فمن أظهر الالتفاتات إلى (العقل الباطن) السليمة من التكلف والاصطناع والتي لم تؤثر على التنسيق الفني للقصة، التفاتاته في: (زمان الهنا) و (وغانية الحانة) و (انقلاب) في مجموعة (فرعون الصغير). ومن أظهر النماذج البشرية: السائحة الأمريكية في قصة (فرعون الصغير) و (رجل رهيب) في هذه المجموعة أيضاً. ومن الغريب أن تكون هذه المجموعة قد صدرت سنة 1939. بينما المجموعة الأخرى: (بنت الشيطان) وقد صدرت سنة 1944 تتخلف عنها كثيراً في مميزاتها الفنية
ولكن أي تحليل نفسي. وأية نماذج بشرية؟
لطالما خيل إليّ وأنا أجول بين شخوص تيمور أنني في (متحف الشمع) فتماثيل الشمع هي التي تمثل هذه الشخوص أوضح التمثيل: فلا هي التماثيل الفنية يتصرف فيها الفن كما يشاء ليؤدي فكرة فنية أو ليمثل لمحة نفسية. ولا هي الأجسام الحية التي تجري فيها دماء الحياة، فتتصرف تصرف الأحياء. إنها محاكاة للطبيعة وفيها قسط من الفن في الدقة والتلوين، ولكنها ليست بعد من الأحياء!
وكثيراً ما يعجزك وأنت تتأمل شخوص تيمور وتصرفاتهم وطريقة حديثهم أن تردهم إلى أي جنس من أجناس الآدميين في أي زمان أو مكان. وقد يسير بعضهم في مبدأ الأمر سيرة طبيعية حتى لتكاد تقول: هذا مخلوق حي. ولكن ما تلبث أن يخلف أملك بحركة تكشف لك أن ما أمامك إنما هو تمثال من الشمع، يحركه المؤلف حركة خاصة، لأن توهم - من التحليل النفسي - أن الناس يتحركون هكذا في هذا المجال
ويحاول تيمور أن يرسم نماذج بشرية من خلال شخصيات محلية - وهي محاولة لو أفلحت لأنشأت فناً إنسانياً وقومياً رفيعاً - ولكنه فيما يخيّل إليّ بعيد كل البعد عن الناس وعن البيئة. فالناس - حيث كانوا - لا يتصرفون هذه التصرفات. والناس في مصر، ليسوا كما يتوهمهم المؤلف، لا في طبيعتهم، ولا في أحاديثهم، ولا في خلجاتهم النفسية، ولا في سمة من السمات المحلية الكثيرة التي تبرز طابعهم
إنه لا يخطر لهذه الشخوص مرة واحدة أن تنفعل انفعالاً قوياً، كما يقع للآدميين - وحين تنفعل يبدو التكلف والبعد عن الحقيقة - وهي غالباً (سهتانة) كما يقول العوّام، حتى في فورات الحب ودفعات الانتقام. والحركة العنيفة ليست مطلباً فنياً في ذاته، ولكنها علامة من علامات الحياة تصدر من البنية الحية في ميعادها، فتدل على الحياة الكامنة فيها
و (بنت الشيطان) مجموعة قصص تبدأ بأسطورة تحمل هذا العنوان. وتحوي غيرها سبع قصص أخرى وتلمح في هذه الأسطورة محاولة فلسفية لإبراز فكرة خاصة، على نحو ما يصنع توفيق الحكيم. ولكن المدى متطاول. إن الحركة القومية السريعة، والبراعة الفنية اللبقة كلتاهما خاصتان من خواص العمل الفني عند توفيق، وكلتاهما تتوارى في هذه المحاولة، فتظل باهتة اللون، وانية الحركة، حتى تنتهي الأقصوصة وفي نفسك منها ظلال خفيفة تنمحي بعد قليل
(بنت الشيطان) طفلة آدمية، اختطفها زعيم الشياطين، لينفذ وصية سلفه العظيم، في أن يصنع شيئاً، يثبت به أن الشيطان قادر على القيام بشيء آخر غير الشر الذي اشتهر به! فهو يحاول أن ينشئها بعيدة عن الشر والألم في قصر مسحور
ولكن أميراً شاباً مغامراً يسمع بخبرها، فيحاول وينجح في الاتصال بها واختطافها ويفتح عينيها على مباهج الحياة الدنيا ويوقظ فيها غرائزها - بعد أن كانت نائمة - فإذا ردها إلى القصر. اشتاقت أن تعود إلى دنيا الشرور الإنسانية، مؤثرة إياها مع ذلك العالم الخير الخالي من الألم والشرور
والفكرة - كما ترى - جيدة وبراقة. ولو تولاها قلم كقلم توفيق الحكيم، لأخرج منها قطعة فنية منسقة. ولو تولاها المازني لأخرج منها قطعة فكاهية ساخرة
ولكنك تقرؤها هنا فتعجبك الفكرة ثم تنقصك الحرارة كما ينقصك التنسيق الذي يقرر الحركة المناسبة في موعدها المناسب، وهناك مواقف بين الشاب والفتاة تتوقع فيها حركة ويرتفع نبضك في انتظارها، ولكنها تمر كما لو كانت في سنة أو لو كنت متفرجاً بغير حماس!
وفي المجموعة سبع قصص أخرى من النوع (الواقعي) خير ما فيها قصة (الترام رقم 2)، وقصة: (الجنتلمان) (وفي الأولى يصور فتاة مشردة تركب الترام بلا أجر؛ فيضيق بها (التذكري) مرة بعد مرة، حتى يزيد ضيقه بها فيدفعها فتسقط، ويكاد يقتلها الترام لولا من يأخذ بيدها في الطريق. وهنا يسمع منها التذكري أنها لم تذق الطعام منذ أمس، بينما ينطلق الترام
منذ ذلك الحين يدب في نفسه عطف على الفتاة، ولكنا نتبين بعد قليل أن هذا العطف ليس خالصاً. لقد تنبهت الغريزة إن هذا التذكري يعيش أعزب منذ أن ماتت زوجه، وتقوم بشئونه خادمة عجوز. فهو منذ اليوم ضيق الصدر بهذه الحياة، وهو مشتاق لأن يعثر على الفتاة. وحين يعثر عليها بعد أيام لا يدفعها من الترام، بل يدس في يدها تذكرة عند صعود المفتش، وحين يقف الترام يشتري لها رغيفاً محشواً بالأدم، ويسألها عن حياتها أسئلة متقطعة
حتى إذا كان الشوط الأخير نزل يقصد داره، وقدمان تتبعانه. . . إلى الدار! لقد أحست الأنثى بغريزتها ما الذي يعطفه عليها، فسارت على خطاه!
وفي الثانية يرى في مطعم اعتاد أن يرتاده. دمية تمثل (الجنتلمان) يمسك بيده قائمة الطعام، فيتخيل هذا الجنتلمان حياً، ويقابله بالتضايق منه والتبرم به، لما في وقفته من تكلف وما في (نفسه!) من تصنع، فيهجر المطعم من أجله. وأخيراً يفلس المطعم ويباع ليهودي في شارع (جامع البنات) ويمر به، فيراه هناك ذليلاً ممسكا بيده عينة البطاقات. فيستريح لذلة الجنتلمان. ثم يزداد تدهوره، حتى يعثر به في شارع الموسكي غارقاً تحت حمل من الملابس القديمة، فيهز يده فينهار!
وهكذا تجد في القصة الأولى ظلالاً إنسانية، وتحليلاً نفسياً، وفي الثانية انفعالات نفسية وسخرية لطيفة. وكلتاهما تنبع من قلب إنسان، ولكنه إنسان يؤثر اللطف والرقة على الانفعال والحيوية: ضحكته ابتسامة باهتة. وغضبته سحابة طارئة. ووثبته خطوة دانية. وإشارته إيماءة خفيفة. ولكنه إنسان
هذه الظلال الإنسانية التي تبدو في بعض القصص، مع شيء من الشاعرية اللطيفة، وهي وحدها التي تجعل الناقد لا يستطيع أن يغفل فن تيمور وهو يتحدث عن القصة، مهما كان في هذا الفن من فتور
أيها القارئ. لقد حيرتك فيما أحسب بهذه الحكام المتناقضة!
إنها صورة من نفسي تجاه فن تيمور.
سيد قطب