مجلة الرسالة/العدد 562/القرآن الكريم في كتاب النثر الفني
→ كتاب نفيس | مجلة الرسالة - العدد 562 القرآن الكريم في كتاب النثر الفني [[مؤلف:|]] |
من نداء القلب ← |
بتاريخ: 10 - 04 - 1944 |
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
تمهيد
شكا الدكتور زكي مبارك في العدد 557 من الرسالة من أني كتبت فيه كلمة مؤذية سبقتها كلمات مؤذيات، وزعم أني أبحث عن فرصة جديدة تؤيد غرامي باتهامه في إسلامه، وأن الباعث على محاربتي إياه ليس هو الدين، ولكن غرامي بأن يقرن اسمي باسم الدكتور زكي مبارك
وتأذى الدكتور زكي مبارك بما كتبت ليس لي فيه من فضل، فالفضل - أو الذنب - فيه راجع كله إلى الدكتور المفضال. فهو الذي لا يفتأ يتعرض للدين بما لا يمكن أن يقره عليه عقل ولا دين، وبما يخالف الكتاب والسنة والإجماع عند المسلمين. يتعرض لا لجزئية من الجزئيات يجوز فيها الخلاف، ولكن للأصول التي يقوم الدين بقيامها، وينهدم بانهدامها، كأصل إعجاز القرآن، وأن القرآن كتاب الله لا كتاب محمد ابن عبد الله
والخصومة التي بيننا ليس منشؤها ما يعتقد الدكتور زكي مبارك، ولكن ما يعلن الدكتور ويدعو إليه. فاعتقاده ودينه أمر بينه وبين ربه، أما ما يعلن ويكتب فأمر بينه وبين الناس. هو حر فيما يرى ويفكر وفيما يعتقد ما اقتصر ذلك على ذات نفسه، أو ظل سراً بينه وبين خلصائه. لكنه يفقد تلك الحرية في اللحظة التي يحاول فيها أن يتخذ من الأدب وسيلة لبث آرائه ومعتقداته بين الناس. إنه في تلك اللحظة يصطدم بما يعتقد الناس، إذا كان ما يعتقد يخالف ما يعتقدون، خصوصاً إذا كان ما يعتقدونه هو الحق وما يدعو إليه هو الباطل. أفيعجب الدكتور عندئذ أن يرتد عليه الاصطدام فيتأذى به كما آذى به الناس؟ أم هو يظن أن الحرية له في الهجوم، وأن ليس لغيره حرية في الدفاع؟
وللدكتور في الخصام حيل كتلك التي تكون في القتال، منها أن يلقي إلى خصومه أقوالاً يرجو أن يشغلهم بها وأن يشكك الناس فيهم. ولا بأس من أن ننخدع له هذه المرة فننظر فيما ألقى
يقول إننا نحاربه لا للدين، ولكن ليكون لاسمنا ذكر مع اسمه الكريم. ولو وجد الدكتور شيئاً غير هذا يقوله لقاله، ولكنه نظر فوجد أننا لا نتخذ الأدب صناعة فيأتينا من ناحية المنافسة، ولا يجوز عنده أن تكون محاربتنا له لوجه الله، فلم يبق إلا أن يقول أننا نلتمس الشهرة عن طريق التعرض له والطعن فيه
إن كل ذلك كذلك، فلماذا تركنا الدكتور كل هذه السنين يبدي ويعيد في الأخلاق وغير الأخلاق مما يتصل بالدين اتصالاً وثيقاً أو غير وثيق، من غير أن نتعرض له إلا مرتين يفصلهما خمس سنين: الأولى حين ختم كلمة له في نعيم الجنة بذلك الدعاء الماجن: (اشغلني عنك يا رباه بأطايب نعيم الجنة، فإن نظري لا يقوى على نور وجهك الوهاج). والثانية حين كتب مقاله: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) الذي أنكره ابتداء، حين حوسب على بعض ما فيه، ثم أقر به لما أيقن أن لن يصدقه أحد في الإنكار، كالرجل الذي يتبرأ من ولده الجاني وينكره ثم يستلحقه إذا وجد عار الإنكار أكبر من عار الإقرار. . . مناسبتان اثنتان بينهما خمس سنوات لم نتعرض للدكتور إلا فيهما في عمر الدكتور المملوء بما يؤاخذ عليه في الأدب والأخلاق والدين. فهل لم يكن بنا حاجة إلى الشهرة طوال تلك الأعوام لنلتمس التحليق في جوها على جناحه المتين؟
وقد وقع الرجل على حيلة أخذها عن صديقه الشيطان هي أن يسمى المسميات ضد أسمائها ليدخل على بعض النفوس عن طريق الإيحاء. فستر الإنسان جسمه بالثياب رياء واعوجاج في الضمير؛ والدعوة إلى تعريته دعوة إلى الحياة؛ واحتضان الفتاة للفتى هو مثال الفرح النبيل؛ وهجوم الفتاة على الفتى طاعة لغريزة كريمة؛ وانتهاب الجمال هو في ذاته شكران لواهب الجمال؛ والشيطان مخلوق شريف؛ والأديب الحق يستبيح في عتاب الأقدار ما لا يباح؛ وبعض الكفر إيمان ولكن أكثر الناس لا يفقهون؛ إلى آخر ما هنالك
ولست في شيء مما كتبت أو أكتب عن هذا الرجل متجنياً عليه أو مبالغاً، فتلك المعاني التي نسبتها إليه آنفاً ليست من عندي ولكن من عنده. هي بعض عباراته تشهد عليه، وبعض بضاعته ترد إليه
وحيلة أخرى لهذا الرجل أن يلقى إليك المعنى الذي يعرف أنك تأباه مقروناً بمعنى أنك ترضاه ليسهل عليك بهذا قبول ذاك، أو على الأقل ليوقفك موقف المرتاب. فتراه مثلاً يقول لك: (انتفع الصوفية بسماحة الإسلام، وهو دين يأبى أن يكون بين المسلم وربه وسيط، فقرروا أنهم أرفع من الأنبياء. وهذا كفر بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غاية الإيمان)! فانظر كيف رتب على المعنى الذي يعرف أنك ترضاه معنى يعرف أنه لو ألقاه إليك مجرداً لا بيت عليه، ولنبذت إليه. والمعنى الذي ألقاه معنى ذو نتوء كرأس إبليس. ظاهره أن الصوفية يضعون أنفسهم فوق مرتبة النبوة، لأنهم أعرف بالله وأرعى له من الأنبياء، وباطنه أن ليس بهم ولا بك إذا ارتقيت مثلهم إلى الأنبياء حاجة، وإلا كان بينك وبين الله وسطاء، والإسلام يأبى أن يكون بين المسلم وربه وسيط؛ فتلك هي في رأي زكي مبارك سماحة الإسلام وبها انتفع الصوفية! والرجل يكذب في الحالين على الصوفية وعلى الإسلام. فلا الإسلام يهدم نفسه بسماحة حمقاء كالتي نسبها إليه زكي مبارك، ولا الصوفية بلغ بهم الغرور أن يروا أنفسهم فوق الأنبياء
ومثل آخر من نفس الباب قوله: (وفي طلب السلامة من أذى السفهاء. قال الرسول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة). . . والعدل يوجب أن يكون ما يترك الأنبياء ميراثاً حلالاً لأبنائهم، ولكن الحرص على قطع ألسنة المتزيدين هو الذي أوجب أن يحرم الأنبياء أبناءهم من ذلك الميراث. وذلك ظلم جميل!) هكذا يقول زكي مبارك، وهكذا يقدم لقرائه في هذا الكلام قنبلة ملفوفة تكفي لنسف أي إيمان
دعك مما في كلامه هذا من مثل (جميل) و (رسول) (وأنبياء) و (قطع ألسنة المتزيدين) وتأمل ما وراء ذلك تجده يريد أن يدخل في نفسك أن ترك الأنبياء أموالهم كلها صدقة شيء فعلوه من عند أنفسهم لا بأمر ربهم، وأنهم بذلك خالفوا العدل ووقعوا في أقبح الظلم، ظلم الأنبياء. ومن أجل ماذا؟ من أجل السلامة من أذى السفهاء وقطع ألسنة المتزيدين، أي من خوف الناس! وماذا يبقى من مبدأ عصمة الأنبياء بعد هذا؟ لا شيء عند من يقبل من زكي مبارك هذا الكلام، وعلى دينه العفاء!
وإذا رجعت إلى حديث الرسول صلوات الله عليه - وزكي مبارك حرف المعنى ولم يحرف اللفظ - تجده يحتوي على الحجة المبطلة لكل ما ذهب زكي مبارك إليه، وهي قول الرسول (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) بصيغة التعميم لا بصيغة التخصيص. فلو صدق ذلك على بعض الأنبياء دون بعض لما كان من سنن النبوة، ولكن من رأي ذلك البعض، ولجاز ولو من بعيد ما زعمه زكي مبارك. أما وهو صادق على الأنبياء أجمعين فلا بد أن يكونوا فعلوه عن أمر الله لا أمر أنفسهم، لاطراده فيهم على اختلاف الأزمان - والاطراد على اختلاف الزمن هو طابع الفطرة التي هي دين الله - ثم لاستحالة معرفة الرسول صلوات الله عليه أن الأنبياء أجمعين كانوا يفعلون ذلك إلا بإخبار وتوقيف من الله
لكن زكي مبارك لا يلتفت إلى مثل هذه الدلالات في كلام النبوة، لأنه مشغول بترويج ما له من مذهب ورأي؛ يتلطف للدخول به على الناس حيناً، ويتقحم به عليهم حيناً؛ تارة يلمح وتارة يصرح، وطوراً يجمع لهم الأضداد ويرميهم بالمتناقضات تلهياً وتشفياً، كأن بينه وبين الناس ثأراً لا يشفي نفسه منه إلا أن يبلبل منهم الفكر ويزلزل منهم العقيدة ليكون أدبه قوة تقتل الخصوم وتزلزل الزمان
محمد أحمد الغمراوي