الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 562/كتاب نفيس

مجلة الرسالة/العدد 562/كتاب نفيس

بتاريخ: 10 - 04 - 1944


آراء وأحاديث في التربية والتعليم

للأستاذ ساطع الحصري

بقلم الأستاذ محمد عبد الغني حسن

مؤلف هذا الكتاب ليس غريباً عن أسرة (الرسالة)، ولا غريباً عن رجال التفكير والثقافة في الشرق العربي عامة، أو في مصر خاصة، وهو نفسه لا يعد نفسه غريباً على مصر إذا عالج مسألة من مسائل الفكر أو تناول قضية من قضايا التعليم فيها. فإن نظراته الصائبة في التربية والتعليم لا تضيق في حدود وطن واحد، ولا تتضاءل في مساحة بقعة واحدة؛ ولكنها تمتد إلى ما وراء التخوم السياسية فتتسع لسورية والعراق ومصر وغيرها من البلاد العربية

وبهذا الاعتبار يمكن أن يفسر اهتمامه البليغ بأمور التربية والتعليم في مصر، ويدفع هو عن نفسه ما قد يرمي به من الكلام في أمور لا تتصل بوطنه؛ فيقول في عزة عربية نسجلها له مع الفخر: (وأرجو أن لا يعتبرني أحد متطفلاً على مصر بهذه الملاحظات؛ فإني عربي صميم، أدين بدين العروبة بكل جوانحي، وأهتم بمصر بقدر ما أهتم بسورية والعراق). وهذا دفاع بليغ يقطع الطريق على أمثال من يقولون:

إنما نسكر من أموالنا ... فسلوا الشرطي ما هذا الغضب!

لأن غضبة الأستاذ الجليل ساطع الحصري ليست غضبة (الشرطي) ولكنها غضبة المضري التي يجب أن يحسب لها حساب. . .

ولهذا لا نظن أحداً من الناس في مصر أو في غير مصر يضيق صدره بآراء ساطع الحصري في التربية والتعليم، لأنه مخلص في إبدائها، ولأنه عربي قبل أن يكون مصرياً، والعروبة تقتضيه حقوقاً كثيرة، وخاصة في هذه الأوقات التي نسمع فيها كثيراً عن الوحدة والاتحاد والتعاون واليقظة العربية والوعي القومي. ولأنه هو نفسه قد أبان في كتابه نوازع اهتمامه بمصر (لأنها أصبحت القدوة المؤثرة على العالم العربي بأجمعه)

لا نظن أن أحداً من المفكرين والمثقفين والمربين في مصر يغضب لأن مفكراً عراقياً وسورياً نشر كتاباً نفيساً في التربية وفيه مقالات حول نظام التعليم في مصر. لأننا نرى الخبراء يستقدمون إلى بلادنا، وتغدق عليهم الأموال، وتفتح لهم الأبواب ولكن ساطع الحصري زار مدارس مصر - قادماً لا مستقدماً - في سنتي 1921، 1936، وكشفت له الزيارتان عن أمور رأى من الإخلاص للوطن العربي الأول أن لا يكتمها، ورأى من الخير أن ينشرها

ونحن نرى أن بعض (الزوار) قد ينشرون كلاماً له خبئ أو يذيعون آراء لها خواف. ولكن الأستاذ ساطع واضح المقصد بين الغاية حسن النية. ونرجو أن تكون تلك حاله التي ينطق بها لسان المقال

ليس هذا الكتاب كتاباً (فنياً) في أصول التدريس وطرق التعليم، وليس كتاباً (مدرسياً) في (الدرس) وأجزائه (والمقدمة) وشروطها. (وملخص السبورة) (ووسائل الإيضاح) وما إليها من الموضوعات الجافة التي يحفظها (المعلم الجديد) ويضحك منها المعلم المتمرس أو يبتسم لها. ولو كان كتاباٌ كذلك ما استحق أن نطيل الوقوف عنده، وأن نعرضه على القراء عرضاً يحملهم على الاطلاع عليه والظفر به، لأن فيه نظرات في التربية والتعليم جمعها المؤلف من هنا ومن هناك. ولا شك أن هذه النظرات وليدة تجارب بلاها المؤلف بنفسه، وهداه إليها اطلاع وسيع، وبحث عميق، ومتابعة لكل جديد من الرأي في آفاق التربية والتعليم

والقسم الأول من الكتاب فيه مشاهدات وملاحظات في التربية والتعليم. وهذا القسم يجمع إلى صحة الفكرة التربيبية طرافة الأسلوب وحسن العرض، والخلوص من المثال أو المشاهدة إلى القاعدة التي يقررها. ولهذا لا تحس وأنت تقرؤه الجفاف الذي يصادفه من يقرأ كتب التربية البحت، و (الطفل المعاكس) (وإثبات الذات) (والتربية بالثقة) (والحرية) وغيرها نصيب في هذا القسم من الكتاب

أما القسم الثاني فهو محاضرات ومقالات في التربية والتعليم ألقى بعضها في نادي التضامن وبعضها في نادي المعلمين ببغداد. ويمتاز هذا القسم من سابقه بالدراسة الفنية وعرض النظريات التربيبية عرض المربي الفني لا عرض المشاهد المتنقل كما في القسم الأول وفي هذا القسم فصل ممتع عن التربية الاجتماعية. وقد نجح المؤلف في محاولة رد تربيتنا الاجتماعية أو بالأجدر مشاكلنا الاجتماعية في الشرق العربي إلى تغلب الإيثار. وإلى أننا لم نتعود التفكير في غيرنا تفكيراً اجتماعياً، كما أننا لم نتعود العمل مع غيرنا عملاً

وهذا كله كلام جميل، وفيه كثير من الحق وكثير من الصدق، فإن ذلك كله ينقصنا. ولكن ينقصنا شيء آخر لم يشر إليه الأستاذ ساطع؛ ولكن أوضحه البروفسور كامبانياك الأستاذ بجامعة ليفربول في كتابه النفيس:

المطبوع في إنجلترا سنة 1925

يقول هذا الأستاذ الإنجليزي في كتابه ص 33 (إذا شاء المواطن أن يتمتع بميزات، فواجب عليه أن يقبل تلك المزايا بشروط. فما هي الشروط التي يمكن أن يتمتع بها الرجل بمزايا الجماعة؟ إنها شروط يمكن التعبير عنها في سهولة ويسر في جملة واحدة: يجب أن يتعلم الرجل أن يفعل ما يطلب منه، يجب أن يطيع قواعد الجماعة إذا أراد أن يحتفظ بعضويته فيها)

وهذا التوضيح يفسر لنا كثيراً مما يحدث في مجتمعاتنا ومجامعنا الشرقية. فكثيرون من لا يفعلون ما تطلبه قواعد الجماعة ومواضعاتها منهم؛ كالذين أشار إليهم الأستاذ ساطع في مقصورات أحد المسارح ببغداد حين علا صوتهم وضوضاؤهم؛ فلما نبههم إلى خطئهم أجابه أحدهم: إننا أحرار، لا حق لأحد أن يتدخل في أمرنا. . .

لقد رد الأستاذ الحصري هذا السلوك الشائن إلى أننا لم نتعود العمل مع غيرنا عملاً (معشرياً) وذلك صحيح. وصحيح كذلك أن نرده إلى الطبيعة العصيان والتمرد على قواعد الجماعة كما فسره الأستاذ كامبانياك

أما الفصل الذي كتبه الأستاذ الحصري عن (تيارات التربية والتعليم) فهو فصل معنى به مسهور عليه. وهو يشهد باطلاع المؤلف على اتجاهات التربية الحديثة ومراميها، والعوامل التي أثرت فيها؛ والمراحل التي مرت بها. وهنا تظهر طريقة المؤلف في حسن العرض العلمي عرضا متسلسلاً يدل على الفكر المتسق. . . ولقد أشار في خلال هذا الفصل إلى وجوب تقوية علاقة الطلاب (بالطبيعة) التي طغت عليها حياة (المدن). إلا أننا نأخذ على الأستاذ ساطع إيجاز الإشارة إلى هذا الموضوع الهام، وكان المقام يتطلب منه إطالة واهتماماً أكثر. وللبروفسور كامبانياك في كتابه المشار إليه سابقاً فصل رائع (عنوانه العودة إلى الطبيعة)

كما أن الأستاذ (نيومان) عالج هذا الموضوع معالجة علمية في كتابه القيم (فكرة لجامعة): ص 133، 143

ومن عبارات كامبانياك الرائعة في ذلك الفصل قوله في صفحة 95 (يمكننا أن نلجأ إلى عالم الطبيعة مرات ومرات، لإنعاشنا وتطهيرنا وتقويتنا) وقوله: (أن مشروعاً تربيبياً يوجه عقولنا وحواسنا إلى قوى الطبيعة ومختلف مجاليها، لهو مشروع حكيم الخطة)

أما الفصل الذي عنوانه (تعليم التاريخ) فلنا عليه استدراك، فالأستاذ ساطع يختم أن نعيد النظر في تاريخنا العربي بنزعة تربيوية قومية، وينادي بأن دروس التاريخ يجب أن ترمي إلى (التربية القومية) قبل كل شيء. وتلك دعوة طيبة تقابل من الأستاذ الحصري بالقبول الحسن من كل البلاد العربية التي تنشد الوحدة في عالم اتحدت فيه أمم مختلفة النزعات واللغات، فكيف بأمم وحدت بينها اللغة والجنس والعادات؟ إلا أن الهدف من تعليم التاريخ ليس تنمية القومية (قبل كل شيء). فمن الغبن أن نغمط الأهداف الأخرى ونبخسها قدرها. فقد ينفعنا تعليم التاريخ على وجه صحيح في إدراك صورة واضحة لمعنى (الخير) للجماعة وأعضائها؛ وقد ينفعنا تعليم التاريخ العربي على وجه صحيح في إيقاظنا من سبات عميق طال عليه الأمد. . . وقد ينفعنا تعليم التاريخ العربي على وجه صحيح في تجريد الدين من كل ما علق به من أوشاب القرون وغبار السنين. . .

وقد ينفعنا التاريخ في العمل على تحسين حالتنا الصحية التي أصبحت مرضاً عضالاً وداء قتالاً. فلو اعتنى في مدارسنا بتدريس تاريخ الأوبئة والحميات والأمراض، ولو اعتنى بدراسة تاريخ ما اتخذ من وسائل لمقاومة المرض وتحسين الصحة وإنشاء البلديات وكشف الجراثيم، لاجتمع لأبنائنا ثقافة صحية تقوم إلى تربيتهم القومية

وقد كان ذلك من أغراض تعليم التاريخ في إنجلترا بناء على الرسالة التي نشرتها الحكومة البريطانية سنة 1934 بعنوان: (مطبعة الحكومة الإنجليزية لندن - ص 64)

أما الفصل الممتع الذي كتبه الأستاذ ساطع حول تعليم اللاتينية واليونانية فهو يستحق عليه التهنئة. فقد عرض القضية عرضاً لا يدع فيها مقالاً لقائل. وهو هنا يتكلم دائماً والدليل بين يديه والحجة بيمينه؛ فيحملك على الاقتناع بكلامه وقد أثار في نفسي شهوة إلى قراءة (التحقيق البرلماني الفرنسي) الذي يذكره أستاذنا وصديقنا توحيد السلحدار بك

بقى أن في الكتاب نسباً يستعملها الأستاذ ساطع (كالفردانية) (والأنوية) نسبة إلى أنا. (والقبمدرسية) نسبة إلى (قبل مدرسي) وهي طريفة في هذا الكتاب وأطرف منها المصادر التي يستعملها. وهي صحيحة ولكنها لا تستعمل عندنا في مصر (كالتمديد) (والترفيع) (والاقتياس) بدلاً من المد والترقية والقياس التي نستعملها هنا

وبعد فإن كتاب الأديب المربي الأستاذ ساطع الحصري يعد محاولة ناجحة في عرض الاتجاهات التربيبية عرضاً يرتاح إليه الأديب، قبل أن يرتاح إليه المربي. وهو من هذه الناحية كان خليقاً بأن يقرأه الأدباء والمفكرون والمثقفون قبل أن يقرأه المربون والمعلمون

وكفاه قيمة أنه - فيما نعلم - أول كتاب عربي غير مصري يتناول مسائل التربية والتعليم في مصر بصراحة وإخلاص يستحقان الشكر والإعجاب.

محمد عبد الغني حسن