مجلة الرسالة/العدد 55/من روائع عصر الأحياء
→ بين يدي شهرزاد | مجلة الرسالة - العدد 55 من روائع عصر الأحياء [[مؤلف:|]] |
الامتيازات الأجنبية والضرائب ← |
بتاريخ: 23 - 07 - 1934 |
3 - من روائع عصر الأحياء
حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه
مثل عال للترجمة الشخصية
للأستاذ محمد عبد الله عنان
زج بنفونوتو تشلليني إلى غيابة الحصن الرهيب (حصن سانت انجيلو) مرة أخرى، وهو كسير الساق، طريح الفراش وألقي في تلك المرة إلى غرفة مظلمة ضيقة رطبة، تتمثل فيها روعة الأسر، ورهبة العدم؛ وشعر أن لهب حياته يخبو، فانكب على قراءة الكتاب المقدس استعداداً للقاء ربه؛ ولكنه بعد أن لبث أياماً في قراءته، شعر أن قبساً جديداً يضئ حياته، وتولاه نوع من السكينة المعنوية وصفاء النفس؛ ويصف لنا تشلليني ذلك التطور النفسي الغريب الذي حقق له خلال الألم المبرح نوعاً من السعادة، وحوّله من فتى مضطرم الأهواء والنزعات، إلى شبه قديس يتجرد بعواطفه نحو الملكوت الأعلى، لا يذكر شيئاً من ملاذ هذا العالم وحواسه؛ ويقص علينا في عدة صحف شائقة حوادث حياته في ذلك الظلام الدامس، وكيفعرضة للأحلام الروحية البديعة، ويبدو تشلليني في هذا الوصف كاتباً بارعاً، في بيانه كثير من القوة والسحر؛ والمحن تطلق البيان والشاعرية؛ أجل، وغدا تشلليني شاعراً أيضاً، يكتب فوق الصفحات البيضاء من (توراته) أبياتاً من الشعر الصوفي، ويشتغل بوضع قصيدته الكبيرة (الكابيتولو) في وصف السجن ومديحه، ووصف ما عانى من ألم، وما آنس من سعادة نفسية
ثم توفي محافظ الحصن، صديقه القديم الذي كان يرعاه ويجتهّد في تخفيف محنته وخلفه أخوه في منصبه. وكان البابا كلما خطر له أن يطلق تشلليني من أسره تدخل ولده السنيور بيرلويجي وحال دون قصده. وكان خصوم تشلليني يودون موته بأي الوسائل، وكان السم بالطبع أيسر وأنجح الوسائل التي تستعمل في هذا العصر الفياض بالجريمة والغدر. وعلى ذلك عهد أحد رجال البطانة إلى أحد حراس السجن أن يضع شيئاً من مسحوق الماس في طعام تشلليني، وعهد بسحق الماس وإعداده إلى صائغ من أريزو؛ وقدم الطعام المسموم إلى تشلليني فأكله، ولكنه لاحظ في النهاية ذرات تلمع في أحد الصحون، فخفق قلبه، واعتقد بعد فحصها أنها ذرات الماس القاتلة. يقول: (فأيقنت عندئذ بأني هالك، وامتزج الحزن والإيمان في قلبي حينما هرولت إلى الصلاة. ولبثت مدى ساعة أواجه الموت المحقق، وأضرع إلى الله، وأشكره على أن هيأ لي هذا الموت الهين، وشعرت برضى عميق، وباركت العالم والزمن اللذين عشت فيهما؛ والآن فإني أعود إلى أرض أفضل برعاية الله التي أيقنت إني كسبتها). ولكن أملاً غامضاً في الحياة حمله على أن يتأمل الذرات اللامعة مرة أخرى، وأن يفحصها بواسطة مدية صغيرة، فانتهى بعد فحصها وسحقها إلى أنها لا يمكن أن تكون من الماس، وأنها مسحوق مادة لامعة أخرى لعلها لا تؤذي الحياة. والظاهر أن الصائغ الذي عهد إليه بسحق الماس قد طمع فيه واستبقاه لنفسه واستبدله بهذه المادة. وعلى أي حال فقد نجا تشلليني من هذه المحاولة، واستمر أياماً يرفض الطعام الذي يحمل إليه ما لم يذقه أمامه حارس السجن
وقضى ربك أخيراً أن تختم المأساة المروعة وأن يطلق سراح البريء. ذلك أن الكردينال دي فرارا مبعوث فرانسوا الأول ملك فرنسا قدم إلى رومة لمفاوضة البابا في بعض الشئون، وانتهز هذه الفرصة فالتمس من قداسته أن يفرج عن تشلليني، وأن يسلمه إليه، منوهاً باهتمام ملك فرنسا بأمره، فاضطر بولس الثالث أن يجيب ملتمسه، وأوفد رسوله في الحال إلى الحصن مع كبيرين من حاشية الكردينال، وأفرج عن تشلليني، وأخذ إلى الكردينال دي فرارا، فاستقبله بترحاب، وأنزله بقصره. فلبث به مدى حين ينفض عنه عثار السجن، ويستجمع قواه الذاهبة، ويستعيد مواهبه التي كادت أن تخبو. ولما انتعشت نفسه، عاد فانكب على عمله المحبوب، وأخذ يشتغل بطائفة من الأواني والتحف التي عهد إليه الكردينال دي فرارا بصنعها. ولما أتم الكردينال مهمته في رومة اعتزم السفر إلى فرنسا، فسار تشلليني في ركبه مع فتاه اسكانيو وزميل له يدعى باجولو، وسبفه الكردينال إلى فرنسا، وتخلف هو حيناً في فلورنس وفيرارا، ثم كتب إليه الكردينال ليوافيه إلى باريس، فسار إليها مع عامليه، ولم يكن راضياً عن معاملة الكردينال له من الوجهة المادية، ولكنه لم يستطع التخلف قياماً بحق الوفاء والعرفان لأنه هو الذي أنقذه من إسار السجن. ووصل إلى باريس، ثم سار إلى فونتنبلو حيث كان يقيم الملك وبلاطه، وهنالك لقي الكردينال، فأكرمه وأنزله منزلاً حسناً، ثم استقبله الملك فرانسوا الأول بترحاب وأغدق عليه عطفه، وقدم إليه التحف والحلي التي صنعها لحسابه، فأعجب بجمالها ودقتها وهنأه على براعته، وعهد إليه بصنع تحف أخرى، وأقطعه منزلاً للعمل والإقامة، وأجرى عليه راتباً حسناً. وهنا يفيض تشلليني كعادته في وصف التحف التي عهد إليه ملك فرنسا بصنعها والزخارف التي وضع نماذجها لبعض أبواب قصر فونتنبلو، ثم يصف لنا حياته اليومية في عاصمة فرنسا. وكانت كالمعتاد حياة عاصفة مليئة بالشجار والمنازعات، وكان قد اتخذ له صاحبة جديدة، هي فتاة فرنسية تدعي كاترينا، تشتغل لديه كنموذج فني، فكانت هذه العلاقة مثاراً لعدة منافسات وفضائح غرامية يصفها لنا تشلليني بصراحته المعروفة. ويقص علينا كيف فاجأ ذات يوم فتاه باجولو متلبساً بالخيانة مع كاترينا، وكيف تسممت بينهما العلائق من أجل ذلك، وطرد الفتاة الخائنة وصاحبها، ثم انتهى بأن رتب لهما انتقاماً جهنمياً هو أنه عقد زواجهما بالإكراه، وسيفه معلق على رأسيهما ثم عاد بعد ذلك فاستخدم كاترينا نموذجاً وخليلة لكي يذل بذلك أنف عامله السابق باجولو، وكيف أنه استخدم بعد ذلك فتاة أخرى، وأولدها طفلة ثم صرفها مع طفلتها بشيء من المال، ولم يرهما بعد ذلك قط
ولبث تشلليني في خدمة ملك فرنسا حيناً من الدهر، ولكنه لم يحظ بعطف الدوقة دتامب صاحبة الملك، وكانت تستأثر يومئذ بالنفوذ في البلاط، وأنفت نفسه من أن يترضاها بوسائل لا تتفق مع كبريائه، فلبثت من جانبها تدس له لدى الملك وتخلق الصعاب في وجهه. ولكن الملك أعرض عن تحريضها حيناً، وعهد إلى تشلليني بأعمال فنية كبيرة منها تماثيل فضية عديدة، وأحواض زهر، وباب برنزي وغيرها، وأدى الفنان هذه الأعمال كلها ببراعته الفائقة، وأعجب بها الملك أيما إعجاب. وأخيراً شعر تشلليني بأن عطف الملك قد فتر، وعاف هذه الحياة المضطربة الفياضة بالأحقاد والدس، فاستأذن في السفر، وذهب إلى الكردينال دي فرارا يلتمس إليه العون في العودة إلى وطنه، فأجاب ملتمسه، وغادر فرنسا غير آسف على فراقها، ووصل إلى إيطاليا بعد رحلة شاقة، وقصد إلى مدينة فلورنس مسقط رأسه، وكان ذلك في صيف سنة 1445. وبعد أن أقام أياماً إلى جانب أسرته، سعى إلى لقاء الدوق كوزيمو دي مديتشي أمير فلورنس، فاستقبله بترحاب وعهد إليه بصنع تمثال (لبرسيوس) وتمثال نصفي له، وقضى حيناً في خدمته، ولكن سوء تفاهم وقع بينه وبين الدوقة زوج الأمير، حمله على مغادرة فلورنس، وعندئذ سافر إلى البندقية وأقام بها حيناً ثم سافر إلى رومة وزار هنالك ميشيل أنجلو المهندس والفنان الخالد، وكان يومئذ يعني ببناء كنيسة القديس بطرس وزخرفتها، ليفاوضه في بعض المسائل الفنية. ثم عاد إلى فلورنس، بعد أن عاد التفاهم بينه وبين الدوق، واشترى هنالك ضيعة صغيرة بما اجتمع له من المال، واستقر هنالك منكباً على تحفه وتماثيله
وهنا ينتهي ما كتبه بنفونوتو تشلليني عن حياته. وقد كتب تشلليني هذه الصحف بين سنتي 1558 و1566، ولكنه يقف فيها عند سنة 1562. وكانت أوصاب الشيخوخة قد دهمته يومئذ، وذهبت بذلك العزم المضطرم الذي كان يلتهب أبدا؛ وملك تشلليني سحر القلم فكتب في ذلك الحين أيضاً قصته (تراتاتي) يكرر فيها القصة القديمة المعروفة بذلك الاسم. وليس في حياته ما يستحق التدوين يومئذ غير زواجه سنة 1565، وهو في الخامسة والستين من خادمته بيرا دي سلفادوري، تزوجها عرفاناً بما قدمته في خدمته أثناء مرضه من الغيرة والإخلاص، ورزق منها بولدين هما أبنه أدريا سيموني، وأبنته مادلينا، وتبنى أيضاً أبناءها من زوجها الأول. وتوفي الفنان الكبير في 13 فبراير سنة 1571، بمنزله في فلورنس، ودفن باحتفال فخم، وخبت تلك الحياة التي لبثت سبعين عاماً تملأ ما حولها حركة ونشاطاً واضطراما.
هذه خلاصة لذلك المجلد الضخم الذي تركه لنا بنفونوتو تشلليني عن حياته الغريبة الحافلة. وإذا كان تشلليني قد عُدّ من أقطاب الفنانين في عصر الأحياء، فانه يرتفع بأثره إلى صف أقطاب كتاب هذا العصر. ولم يكن تشلليني كاتباً كما قدمنا، ولم تهيئه تربيته الساذجة، ولا حياته الشريدة المضطربة لمعالجة الكتابة؛ ولكن البيان هبة الطبيعة؛ وقد كان تشلليني أبن الطبيعة، وهبته كثيراً من خلالها الباهرة؛ فكان القلم في يده يدون به حوادث حياته، كالريشة يرسم بها نماذج تحفه. وليست روعة ترجمة تشلليني في هذا البيان القوي الساذج الساحر فقط، ولكنه أيضاً في تلك الصراحة الخشنة التي يحدثنا بها تشلليني، وفي تلك البساطة الرائعة التي يكشف لنا بها عن دخائل نفسه. ويقول لنا تشلليني في الخطاب الذي يوجهه إلى صديقه بنديتو فارشي بشأن ترجمة أنه لم يكتب إلا ما وعته الذاكرة من حقائق حياته. يقول: (والواقع أنني لم أكتب سوى الصدق، وقد أغضيت عن كثير من الحوادث العجيبة التي كان غيري يعطيها أهمية خاصة. ذلك أن لدي شئوناً عظيمة كثيرة أقصها، وقد تركت كثيراً مما هو أقل أهمية منها لكي لا يفيض بي القول فأخرج مجلداً ضخماً جداً). ولم ينته إلينا قبل تشلليني أو بعده أثر كأثره يمتاز بتلك الروعة والصراحة والحقائق المدهشة، وإن كانت هنالك ثمة تراجم شخصية عديدة غربية وشرقية ترتفع إلى ذروة البيان والطرافة الأدبية. وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما بين ترجمة تشلليني و (اعترافات) جان جاك روسو من وجوه الشبه والتباين، وأخصها أن جمال ترجمة تشلليني مستمد بالأخص من روحه التي تكاد تمثل في كل صفحة من صفحاته؛ أما جمال الاعترافات، فهو مستمد على الأغلب من السحر الذي يسبغه بيان روسو وقلمه على حوادث حياته. وفي رأينا أن ترجمة تشلليني تتفوق من ناحية الفن والطرافة والروعة على اعترافات روسو؛ وعلى أي أثر غربي آخر من نوعها.
ولدينا في العربية أثر هام من نوع التراجم الشخصية القوية. ذلك هو ترجمة المؤرخ الفيلسوف أبن خلدون لنفسه، وهي المشهورة (بالتعريف). فقد دوّن أبن خلدون حوادث حياته في مجلد خاص في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، أعني قبل أن يكتب تشلليني ترجمته بقرن ونصف؛ و (التعريف) ترجمة شخصية، ولكن الحياة السياسية العاصفة التي خاض أبن خلدون غمارها والتي يقصها علينا في هذا السفر، تسبغ على (التعريف) لون التاريخ العام؛ ذلك أبن خلدون ضنين علينا بمواطن الإفضاء الشخصي التي تملأ ترجمة تشلليني، وهو يؤثر دائماً أن يدون من حوادث حياته ما يرتفع إلى أهمية الحياة العامة وحوادث التاريخ؛ بيد أنه يحدثنا أيضاً عن نفسه وعن خلاله، ولا يتردد في الافضاء بكثير مما لا يحسن الإفضاء به، لا عن حياته الداخلية ولكن عن حياته العامة. وفي تعريف أبن خلدون، كما في ترجمة تشلليني عنصر القصة الشائقة لحوادث حياة حقيقية. فان فيلسوفنا يصف لنا في تعريفه كيف يجوز من قصر إلى قصر، ويتعرض لمخاطر النقمة والاعتقال والمطاردة، ويسير في ركب الجند، ويمثل إلى جانب أميره في المعارك الحربية، ويقوم بقضاء المهام الخطرة في أعماق الهضاب والصحاري. ونراه في دمشق في السبعين من عمره يجوز مخاطر جديدة، وينزل من أبراج المدينة المغلقة مدلى بحبل ليقصد إلى معسكر الفاتح التتري تيمورلنك، وغير ذلك من الحوادث الغريبة الشائقة. والواقع أن هنالك شبهاً عظيما بين ترجمة أبن خلدون وترجمة تشلليني مع اختلافهما في النوع، فكلتاهما تفيض بمواطن الجرأة والمخاطرة ومواطن الإفضاء والصراحة. وإذا كانت ترجمة الفنان الإيطالي تعتبر في الأدب الغربي نموذجاً بديعاً للترجمة الشخصية، وقطعة رائعة من العرض الساحر والقصص الشائق، فان (تعريف) أبن خلدون يتبوأ مثل هذه المكانة في أدبنا العربي.
ولأثر تشلليني فوق ذلك أهمية تاريخية، فهو يصور لنا كثيراً من ألوان الحياة الاجتماعية في عصر الاحياء، وهو عصر تطور عظيم في تاريخ الإنسانية؛ وفيه وصف شائق لكثير من أحوال البابوات وبذخهم وقصورهم، ووصف لأخلاق الأحبار ودسائسهم واستغلالهم لطبقات المجتمع الأخرى، ووصف لأحوال الجمهوريات الإيطالية في ذلك العصر وأمرائها وسادتها؛ والخلاصة أنه يلقى أكبر الضياء على تاريخ عصر من أهم عصور إيطاليا، وعصر يعتبر بحق فجر التاريخ الحديث. وفي رأينا أن كتاب تشلليني من أجدر الآثار الغربية وأحقها بالترجمة العربية؛ وقد ترجم فعلاً من الإيطالية إلى جميع اللغات الأوربية؛ فعسى أن يتقدم بعض شبابنا المثقف فيتحفنا بترجمة عربية بديعة لذلك الأثر البديع.
(تم البحث)
محمد عبد الله عنان المحامي