الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 55/بين يدي شهرزاد

مجلة الرسالة/العدد 55/بين يدي شهرزاد

بتاريخ: 23 - 07 - 1934


للأستاذ توفيق الحكيم

شهرزاد متكئة على الوسائد تنظر باسمة في حوض ماء من المرمر وبين يديها الوزير قمر. . . .

شهرزاد - (في مكر) أراك يا قمر تسرف في إطرائي وتبخس قدر صديقك.

الوزير - لم أبخس قدره.

شهرزاد - (في مكر) يخيل إلى أنك نسيت ما بينكما من ود عجيب.

الوزير - (في حدة) لم أنس شيئاً.

شهرزاد - (في خبث) بلى!

الوزير - (في حدة عمياء) إني لم أنسى شيئاً. إنما أبين لك لماذا أنت تحبينه أسمى الحب، فلا تزعمي لي غير هذا مرة أخرى. إني لست أُخدع. لست أُخدع. لست أُخدع!

شهرزاد - (هادئة) قمر؟ ماذا دهاك؟

الوزير - (يثوب إلى رشده) مولاتي مغفرة. . إني. .

شهرزاد - انك أحياناً لا تملك نفسك.

الوزير - إني. . أردت أن أقول انك غيرِتِه، وأنه انقلب إنساناً جديداً منذ عرفك.

شهرزاد - انه لم يعرفني.

(يسمعان طرقاً شديداً)

الوزير - (يرهف السمع) هذا هو.

شهرزاد - إن شهريار يحمل دائماً مفتاحه ولا يدخل القصر ليلاً إلا من سردابه.

الوزير - مَن هذا الطارق إذن؟

شهرزاد - اذهب وجئني بالخبر.

(الوزير يخرج مسرعاً)

شهرزاد - (كالمخاطبة لنفسها) مسكين أنت يا قمر!

(الوزير يعود على عجل)

قمر - مولاتي! أتدرين من الطارق؟ رجل عجيب الزي، يقول انه المؤلف، ويلتمس المثول بين يديك.

شهرزاد - (في عجب) المؤلف؟ أي مؤلف؟

قمر - لم أفهم مراده. إنما هذا ما قاله لي.

شهرزاد - أدخله لنتبين أمره.

قمر - أفي مثل هذه الساعة من الليل؟

شهرزاد - وماذا يضير. انك معي.

قمر - نعم سألبث معك.

(يخرج قمر في الحال)

شهرزاد - (كالمخاطبة لنفسها) المؤلف؟: أتراه أحد السحرة قد أرسل في طلبه شهريار؟

(قمر يعود وخلفه توفيق الحكيم يلتفت يمنة ويسرة منبهر البصر مما في القصر من عجائب لم يسبق لعين مثله أن وقعت على مثلها)

شهرزاد - (تلتفت إليه وتتأمل زيه وتأذن له في الدنو منها ولكنه يقف مكانه جامداً) (تقدم يا هذا)

توفيق - مولاتي. . .

شهرزاد - ماذا بك؟

توفيق - أأنا بين يدي شهرزاد؟

قمر - نعم أنت في حضرة الملكة العظيمة.

توفيق - (كالمخاطب لنفسه) نعم، لا يمكن لهذا الجمال أن يكون لغيرها.

شهرزاد - بِمَ تهمس كمن به مس؟

توفيق - مغفرة أيتها الملكة، إني. . .

شهرزاد - لماذا تنظر إليَّ هكذا؟

توفيق - هذا الجمال. . .

شهرزاد - (لقمر) أرأيت يا قمر! انك قد جئتني آخر الليل بمُعْجَب مفتون.

قمر - (لتوفيق) ماذا جئت تصنع هنا أيها الرجل؟

توفيق - (همساً) لست أدري. . . (يعود فيتأمل شهرزاد) شهرزاد - أرجو منك ألا تطيل النظر إلى هكذا.

توفيق - مولاتي! لا أستطيع.

شهرزاد - أين الجلاد؟

توفيق - خير لك أن تأمري بي فتطاح رأسي من أن تطلبي إلى ألا أعجب بك.

شهرزاد - أتراني حقَّا جميلة؟

توفيق - نعم.

شهرزاد - إن لي جسداً جميلاً! أليس لي جسد جميل؟

توفيق - ليس الجسد وحده.

شهرزاد - اقترب.

توفيق - كلاَّ.

شهرزاد - لماذا؟

توفيق - (يشير إلى الحوض) هذا الحوض. . .

شهرزاد - أيخيفك هذا الحوض؟

توفيق - أخشى أن تزل قدمي فأسقط وأنا لا أحسن السباحة. . .

شهرزاد - انه قليل الغور

توفيق - لا شيء عندك قليل الغور.

شهرزاد - (تتفرس فيه) عجباً! انك تتكلم كما يتكلم شهريار! من أنت؟

توفيق - خادمك توفيق الحكيم.

شهرزاد - أتعني أنك صاحب توفيق أم أنك صاحب حكمة؟

توفيق - لا هذا ولا ذاك، ولكنه اسم من الأسماء.

شهرزاد - وما صناعتك؟

توفيق - أؤلف القصص.

شهرزاد - مثلي؟

توفيق - لم أيلغ شأوك. وليس لي ذكاؤك ولا خيالك.

شهرزاد - انك تسرف في إطرائي وتبخس قدر نفسك.

توفيق - قدر نفسي؟ وما أدراك به؟ وهل عرفت لي قصصاً على الأقل أيتها الملكة؟

شهرزاد - كلاَّ. ماذا صنعت من القصص؟

توفيق - قصة (شهرزاد)

شهرزاد - (في عجب) أنا؟

توفيق - نعم أنت.

شهرزاد - متى صنعتها؟

توفيق - ليس يعني الزمن الذي صنعت فيه.

شهرزاد - أصنعتها في الماضي؟

توفيق - بل في المستقبل.

شهرزاد - فهمت. هذا الزي العجيب. . .

توفيق - نعم. إني أهبط إليك الساعة من المستقبل الذي أعيش فيه لألقاك في الماضي الذي فيه الآن تعيشين كما يهبط الطائر من الشمال إلى الجنوب في غابة متسعة الأرجاء.

شهرزاد - يا للعجب! كلامك هذا يذكرني بشهريار.

توفيق - أترين هذا؟

شهرزاد - لكنك أهدأ نفساً منه.

توفيق - نعم، الآن.

شهرزاد - (تنظر إليه ملياً) إني أعجب كيف أن القدر لم يجمع بيننا قبل الآن؟

توفيق - لقد جمع بيننا دائماً.

شهرزاد - أين؟

توفيق - (يشير إلى قلبه) هنا.

شهرزاد - (في عجب تشير إلى قلبه) هنا؟

توفيق - نعم. ومن هنا خرجت أنت إلى الوجود. فما أنت إلا صنع النار والنور الكائنين هنا (يشير إلى قلبه)

شهرزاد - هذا جميل.

توفيق - أرأيت من أي مادة أنت مصنوعة يا مخلوقتي العزيزة! قمر - (يتململ) من هذا الرجل!

توفيق - صه أيها الوزير. فكر في شأنك أنت، ودعني فيما أنا فيه. فما جئت الليلة إلا من أجل شهرزاد.

شهرزاد - جئت من أجلي؟

توفيق - نعم.

شهرزاد - وماذا تريد مني؟

توفيق - أريد أن أعيش إلى جانبك.

قمر - (في غضب وهياج) أيها الرجل! من أنت أيها الرجل؟

توفيق - أنا كائن أشقى منك حالاً.

شهرزاد - (باسمة لتوفيق) لماذا؟

توفيق - لأني أشعر ببرد الوحدة يكتنفني في تلك السماء ذات السحب.

شهرزاد - ويل للمبدعين.

توفيق - صدقت، أَجل يا شهرزاد لو لم يعش المبدع في مخلوقاته لقتله برد الوحدة.

شهرزاد - تريد إذن أَن تهبط إلى الأرض.

توفيق - لقد قلتها يا شهرزاد. لا شيء غير الأرض؟

شهرزاد - أَين شهريار يسمع منك؟ وهو الذي هجر الأرض يريد السماء.!

توفيق - لا تخشى عليه من بأس. سوف يعود إليك.

شهرزاد - متى؟

توفيق - يوم يعلم أَن السماء في الأرض.

شهرزاد - يا هذا. أريد منك شيئاً. . .

توفيق - ماذا؟

شهرزاد - أَمنحك قبلة.!

توفيق - تمنحينني قبلة؟

شهرزاد - نعم.

توفيق - وهبتها قمرا.

قمر - (في استنكار) مولاي!

توفيق - خذها أَيها الأبله. من ذا يرفض قبلة من شهرزاد؟

قمر - (يخرج سريعاً). . .

توفيق - هرب الأحمق.

شهرزاد - (تنظر إلى توفيق ملياً) عرفتك أَخيراً.

توفيق - (باسما) أَعرفتني؟ من أَنا؟

شهرزاد - أَأَنت هو؟ أَم أَنك تعيش فيه؟

توفيق - من هو؟

شهرزاد - شهريار!

توفيق - صه. لست أَدري. . . لست أَدري. . . هذا سؤال لا ينبغي أَن يوضع. ولا ينبغي أَن يلقى عليّ.

شهرزاد - إذن ارتفع. فما أَنت إلا شبح من الأشباح.

توفيق - شبح من؟

شهرزاد - شبح شهريار.!

توفيق - لا تقولي هذا. إنما هو الشبح وأَنا الحقيقة.

شهرزاد - أَمام الأبد هو الحقيقة التي ستبقى وهو خالقك وهو مخلدك، وما أَنت إلا خيال سوف تتبعه صاغراً على مرّ الأيام. وان ذكر اسمك على الدهر فإنما يذكر خلف اسمه. انك تزعم الآن أنك صانعنا ومبدعنا أَمام ذلك الزمن المحدود، وإنما نحن في الحقيقة صانعوك ومبدعوك في الغد أَمام الخلود. . .

توفيق - ويل لي.

شهرزاد - ماذا بك؟

توفيق - أأنا عنك شبح؟ تلك هي السخرية الكبرى! في وحدتي ينخر في نفسي الشك. فإذا هبطت بينكم ألتمس اليقين علمت إني شبح لا حقيقة. وإني وليد صنعكم أنتم أمام الدهور.

شهرزاد - كل شيء يصنع كل شيء. . .

توفيق - نعم.

شهرزاد - ليس هناك إلا حقيقة واحدة.

توفيق - ما هي؟

شهرزاد - أننا جميعاً لسنا حقيقة.

توفيق - وأَنا معكم.

شهرزاد - وأَنت معنا لا فرق بينك وبيننا.

توفيق - (بعد لحظة) صدقت! ولا أَمل لي مع ذلك في أَن أَعيش إلى جانبك.

شهرزاد - اليوم كلاَّ.

توفيق - ومتى إذن؟

شهرزاد - في الغد، يوم تصبح من مادتنا، لو أَن لنا اليوم مادة.

توفيق - فهمت. وداعاً يا شهرزاد.

شهرزاد - إلى الملتقى!

توفيق الحكيم