مجلة الرسالة/العدد 541/أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي
→ الفاكهة المحرومة | مجلة الرسالة - العدد 541 أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي [[مؤلف:|]] |
الإسلام والفنون الجميلة ← |
بتاريخ: 15 - 11 - 1943 |
الأميرة دكليف
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
كان الحب في القرن السابع عشر، قرين البطولة وخدين الشرف؛ فكان إذا هام فؤاد الفارس بمن أحب، ولذعه الشوق ودلهه الحب، عمد إلى البطولة يجعلها ثمناً لحبه ووسيلة إلى هواه؛ فإذا أوتي العزم الشديد والقلب الحديد، ونال طيب الأحدوثة وبراعة الفروسية وشرف النقيبة، وكان فحلاً لا يقرع أنفه ولا يطعن عليه، متع بالحب، وذاق مودة الحبيب
ولأميرة دكليف تمثل ما ذكرته وتبين ما وصفته. ولعل من الخير، قبل أن نقصها عليك، أن نتحدث عن مؤلفتها مدام دلافاييت لأن في حياتها من الطرافة، ما في روايتها من الجمال. والحق أنها كانت من نوادر النساء. تلقت في يفاعتها وصباها أرفع ثقافة يمكن أن تتلقى في ذلك الزمان، فتخرجت على الشاعر المشهور ميناج فثقفها وأدبها. سرعان ما ظهرت رهافة ذوقها، ورصانة عقلها ورشاقة كتابتها، وتخطت العشرين ولما تتزوج فاضطرت أن تبحث عن زوج لها فصادفت يوماً الكونت دلافاييت، وكان كريم المحتد، طيب العرق، ضئيل العقل، فتزوج بها وحملها إلى مزارعه في الضواحي، يبتغي معها عيشاً يقطعه بالنعيم. ولم يستطع أن يستهويها فلم ترض عنه، فهجرته وقصدت إلى باريس، وهناك صادقت هنرييت دانجلترة ' فأحبتها، فكانت تغشى بلاط لويس الرابع عشر وتقطع الأيام والليالي معها، حتى إذا قضت هذه، حزنت عليها، وجفت البلاط وأهله، واعتزلت الناس.
وذاع في باريس صيت مدام دلافاييت، وعرفت بذكائها وفطنتها. ولم تلبث أن أصبحت مهوى الأنفس، وبغية الشعراء والكتاب، أشباه (هويه و (ميناج و (لافونتين ولكنها كانت عزوفاً عن كل ضجة، أنوفاً من الظهور. كانت تحلم بالحب، وتعجب بالبطولة وكانت تحب الهدوء والسكينة، تستلقي على سريرها الأرجواني الموشي، فيتحلق أصدقاؤه ومطروها حوله تفتنهم بالسحر والذكاء، ويفتنونها بالثناء والإطراء
وعرفها (الدوق دلار وشفوكولد وكان مغامراً، تبع نساء. وكان الناس جميعاً يلهجون بذكره، وقليل منهم من رآه. فاتصل بها وهي تذرف على الخمسين. ترى أكان صديقها أم عشيقها؟ ومهما يكن من أمره، فقد قضى بقية حياته معها. فكان يزورها في قصرها كل يوم؛ وكان في هذا القصر بركة ينصب بها الماء، ونافورة تنفر منها إلى الفضاء، وخلوة مغطاة بالأعشاب والأزهار. فكانت تقضي الليالي والأماسي معه، تحت العشب والزهر. وقد تأتي، بعض الأحايين، مدام دسيفينيه فيجتمعون معاً، ويثرثرون على حفافي سريرها الأحمر الموشي تارة ويتحدثون في الخلوة المزهرة، أمام البركة تارة أخرى.
ومن العجب أنها كانت تنقد حكم عشيقها أو صاحبها أحد النقد. كان لديها نسخة منها. وكانت تعلق عليها وتكتب في الهامش (هذا حق، وهذا جيد) فإذا سخرت منه كتبت (هراء، خلط، كلام مبتذل!). ولقد قرأت يوماً قوله: (إن ما يسميه الرجال صداقة، ليس سوى تجارة يكون للأثرة مطمح فيها ومربح. . .). فكتبت بجانبها: (هذا يصح في الصداقة العامة، لا في الصداقة الحق). وقرأت مرة قولة: (مهما ندر الحب، فإنه أندر من الصداقة الصحيحة) فقالت: (أعتقد أنهما متساويان في الندرة، لأن في الحق حباً، ولأن في الحب الصحيح صداقة). وكتب (إن الذي يجعل كثرة النساء لا يتأثرن بالصداقة، هو أن الصداقة تصبح لا طعم لها عندما يذقن طعم الحب). فأجابته: (لا، بل لأن في الحب من كل شيء: فيه من العقل، ومن القلب، ومن الجسم)
لقد تصادقا وأثر كل منهما في الآخر. لقد قالت: (منحني الفكر، ولكني هذبت قلبه وأصلحته!)
ومن الطريف أن تتمثل هذا الدوق الحكيم، ذا الوجه الجهم، والعينين الذرافتين، وبجانبه تلك المرأة اللطيفة، يؤلفان الروايات، ويتجاذبان أطراف الأحاديث. يذكران أيام لهوهما، فيقص عليها مغامراته يوم كان ريان الشباب، وتحدثه عن سحرها يوم كانت في رونق الصبى
تلك هي قصة حياتها، وإنها لقصة تثير الأسى. لقد حلمت بالحب والبطولة فلم تذقهما. وأحبت صديقتها هانرييت ففجعها الموت بها؛ ثم هي تلقي لاروشفو كولد، وقد تقضى شبابه وذوى غصنه. شد ما تمنيا لو التقيا في ريعان صباهما. إذن لرواها الهوى ولأرته فعل السحر.
وفي عزلتها وبجانب لاروشفو كولد، كتبت مدام دلافاييت روايتها (الأميرة دكليف)
- 2 -
وقرأ الناس قصة الأميرة ولهجوا بذكرها، وصارت أحدوثة الكتاب والشعراء والنساء في المجالس والأنداء والأسمار. ولقد كانت خليقة بأن تشغل الناس، لأن الأهواء التي تتضافر فيها على قلب امرأة غض، فتخيرها بين زوجها وحبيبها، تثير الدهشة والعجب. فهنا زوجها جاف القلب كما تراه، وهناك حبيبها يبدو لعينيها غزلاً بطلاً جميلاً. وأخذ الأدباء يسألون (بوسي رابوتان نقادة ذلك الزمان عن رأيه فيها. فكانت الرسائل تسرع إليه يسأله أصحابها: (أقرأت الأميرة دكليف؟ كيف رأيتها؟ هل أعجبتك؟)
إن فيها نزاعاً قوياً بين الحب والواجب لا يقوى عليه النساء، ونضالا عنيفاً قد يتخاذل دونه الرجال، وشرفا لا يذود عنه إلا من كان ذا عزم ومضاء. وبرغم ذلك، فإن الأميرة دكليف تغلبت على هواها ولم تضعف في نضالها، وحافظت على شرفها ونبالتها.
هانحن أولاء في قصر الملك هنري الثاني، نجد آنسة صاغها وصقلها الترف، كان اسمها (شارتر)، وكانت ذات ذكاء وأناقة وجمال. يتزوج بها الأمير دكليف، وكان نبيلا مهذباً فيحبها. ولكنه كان يعجز عن إظهار حبه لها، ولا يبرع في إغرائها وإرضائها، وكانت جياشة العواطف ملتهبة الإحساس، تتحرق على ذواق الحب؛ هذا الحب الذي سمعت به، ولكنها لم تعرفه، ولم تدر كيف يكون ولا أين تجده. وتقام في اللوفر حفلة يرقص فيها النساء والرجال، تحضرها الأميرة، ويحضرها الفارس (دنيمور زين الفرسان، وحلية الشبان، وأكثر رجال البلاط لباقة وأناقة. ويلمحها فيشخص إليها بصره ويفتن قلبه، ثم يسعى إليها فيتراقصان. وينظر إليها نظرات كلهن شباك وإغراء؛ فتهتاج وتضطرب، ثم تسارقه النظرات، فيخفق قلبها وتحمر وجنتاها، فتفر منه وقد علمت أنه الحب
وشغل الفارس خاطرها، فسهرت الليل، (وليل المحب بلا آخر). وذرفت الدمع (ودمع العاشق لا ينفد). إنه فارس فتان، كيف تصل إليه، وكيف يضمها بين ذراعيه!
وكتمت الأميرة حبها، وسعت للقياه. ولقد دعيت ليلة إلى حفلة رقص أخرى فاعتذرت عن الذهاب، لأن فارسها لن يذهب إليها. واندفعت في الحب، ولكنها أجفلت ذات يوم، وقد بدا لها سوء ما صنعت. أتخون زوجها؟ إنه زوجها مهما كان من أمره، ولابد من الوفاء. وأفزعتها وخزات الضمير ولذعات الوجدان، وخافت العار، ولكن قلبها لج في شعاب الحب فظل وتاه. كيف ترضي قلبها الجامح، وكيف تفي لزوجها المطمئن؟ ولا تسل عن الأرق والسهاد، والأسى والبكاء، والحنين والأنين، والحسرات والآهات. لقد أحبته حباً صرفاً خالصاً. أفتجمع بين حبين، وكيف تغالب الوله وتدفع الشوق، وتفر من الحبيب؟
وقررت بعد عذاب ونصب، أن تحدث زوجها بحبها. وتسأله إن كان يرى في ذلك حرجاً
وتخلو الأميرة بزوجها. وإنه لمشهد من أروع مشاهد الحب. مشهد فيه من بطولة كورنيل ورقة راسين. إنها مفتونة بفارسها، والألم يفترسها، وإنه محب لها مطمئن إليها. هي تريد أن تخبره لئلا يمس شرفه، وهو يجهد كل الجهد لينجو من الوساوس، ويعلم أنها لن تخونه
لقد ظن أن صراحتها تدفعه إلى الإعجاب بها وإكبارها ولكن هذه الصراحة أنضجت في صدره الحقد والحسد والغيرة فما تكاد تحدثه بطرف خاشع، وقلب خافق، وعين دموع، حتى يشده ويبهت، ثم يصمت ولا يشكو، ويأس بعد أيام فيموت
وهاهي ذي الآن وحدها، قد خلا من كانت تخشى أن يعر شرفه. فلتسرع إلى فارسها الجميل، لتنعم بين ذراعيه؛ ولكن الأمر ليس كما ظنت. لقد سعى هو إليها، وتقرب منها فصدت عنه، وأراد أن يتزوج بها فطردته. لقد اعتقدت أن عليهما، هي وفارسها، التبعة في موت زوجها. وأن أحسن ما تكفر به عن ذنبها هو البعد عمن تحب. فاعتزلت الناس وعاشت وحدها. الحب في قلبها يهيج ويشتد، وهي تصبر وتتألم لا تستطيع أن تفرح القلب بالوصال. ثم تموت الأميرة حزينة، تحلم بالحب، وتفي للزوج
تلك هي قصة الأميرة دكليف تدور حول حب عنيف يبعثه الإعجاب بالفروسية والبطولة والجمال، ووفاء شديد يقتضيه الواجب وحفظ العهد؛ فيتغلب الوفاء على الحب، وتقضي الأميرة ينهشها الحزن ويذيبها الحنين، ويتحدث الناس عنها، ويتكلمون عليها، ولكنهم، جميعاً، يعجبون بها ويطرونها، ثم يرددون وهم يبتسمون: (ما أنبلها! لقد كانت أميرة شريفة)
(دمشق) صلاح الدين المنجد
المحامي