مجلة الرسالة/العدد 541/الإسلام والفنون الجميلة
→ أمتع قصص الحب في الأدب الفرنسي | مجلة الرسالة - العدد 541 الإسلام والفنون الجميلة [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 15 - 11 - 1943 |
8 - الإسلام والفنون الجميلة
للأستاذ محمد عبد العزيز مرزوق
ترى كيف أثرت هذه النظم الإسلامية الثلاثة - النقابات والحسبة والوقف - في الفنون الجميلة؟
أما نظام الوقف فنحن ندين له كما ذكرنا بمعظم ما وصل إلينا من روائع التحف والآثار الإسلامية، ويكفي أن نضيف إلى ما تقدم أن كثيراً من تحف دار الآثار العربية كانت موقوفة على المساجد. فهذا النظام ضمن استمرار نشاط المهندسين والصناع والفنانين، كما ضمن أيضاً اطراد حركة التطور في الفنون المختلفة لاسيما تلك التي تتصل بالمساجد من بناء وصناعة وزخرف. فلولا تلك الأموال التي وقفت على العناية بالمنشآت الإسلامية المختلفة لضاع هذا التراث الفني العظيم. على أن لنظام الوقف فضلا آخر لا يصح إنكاره، هو تلك الوقفيات التي حبست فيها الأعيان المختلفة فقد تضمنت وصفاً دقيقاً لهذه الأشياء يجد فيه اللغويون والمشتغلون بالآثار الإسلامية معيناً لا ينضب من الإصلاحات الفنية التي تنير لهم سبل الدراسة
وأما نظام الحسبة والنقابات فينحصر أثرهما في تحسين المنتجات الصناعية والعمل على رفع مستواها، والعناية بإخراجها في أحسن صورة ممكنة. ففي ظل النقابات وبإشراف (المحتسب) خطت الصناعات الإسلامية خطوات واسعة في سبيل الرقي، حتى بلغت الغاية القصوى، وعندئذ سمت في دائرة الصنعة المألوفة إلى مستوى الفن الجميل. ولكي يكون هذا التطور واضحاً نضرب له مثلاً بالآنية التي تصنع لتمسك الطعام أو الشراب فهي تظل وسيلة تستخدم في هذا الأمر ما لم يفتن الإنسان في صنعها وزخرفتها، ويبذل الوسع في تجميلها وتنسيق ألوانها؛ فإذا ما وصلت إلى الكمال في ذلك أو قاربته غادرت موائد الطعام لتتصدر قاعات الاستقبال متخذة مكانها بين التحف الجميلة. وعندئذ تتغير نظرتنا إليها فننسى وظيفتها الأولى ولا نذكر عنها إلا أنها شيء جميل يمنحنا التأمل في محاسنه لذة لا تعد لها لذة
رأينا إذن كيف أن الإسلام وقف من الفنون الجميلة موقفاً يختلف عن مواقف الأديان السابقة عليه، فهو لم يستخدمها في دعوته كما فعلت الوثنية والمسيحية، ولم ينكرها كما أنكرته اليهودية؛ ولكن أثر فيها ببعض توجيهاته ونظمه. لقد وقف على طبيعة الإنسان، وعلى ما يضطرب بين جنبيه من النزعات وما ركب فيه من الغرائز والميول فلم يحاول كبتها بإلزامه الوقوف عند حد الضروري اللازم لبقائه، بل ترك يلبي ما تنطوي عليه نفسه من غرائز السمو دون أن يعترض سبيله أو يحد من نشاطه فمهد له بذلك سبيل الوصول إلى أقصى ما قدر له من التقدم المادي. لفت نظره إلى ما يحيط به من المخلوقات، وشحذ فيه قوة الملاحظة وهي عماد الفن الجميل، وذكره بالحياة الدنيا وما لها عليه من الحق (ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) وبصره بما في الوجود من زينة وحببها إليه (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق).
هذا التسامح الذي عرف عن الإسلام في كل ما يتصل بمباهج الحياة ومتعها، ما دامت لا تتعارض مع أصوله في شيء، وما دامت لا تخرج عن دائرة الاعتدال، دفع بالمسلمين إلى الإقبال على الفنون الجميلة بنفس راضية مطمئنة، وجعلهم يزاولونها بقلوب مثلوجة وأفئدة هادئة، فأخرجوا للعالم ذلك الفن الرائع الذي فيه للفكر متعة وللنفس لذة وغبطة ذلك الفن الذي أثر في الفنون المعروفة على عهده من شرقية، وغربية.
ولقد اعترف علماء الآثار من الغربيين بما ترك الفن الإسلامي في فنون بلادهم من آثار واضحة: فالحروف العربية والزخارف الإسلامية نباتية كانت، أو هندسية قد لعبت جميعها في فنون أوربا دوراً هاماً. ومصنوعات المسلمين: من خزف وزجاج، ومعادن، وعاج ومنسوجات، وسجاد كلها كانت مثلاً تحتذى في بلاد الغرب.
(انتهى)
محمد عبد العزيز مرزوق
الأمين المساعد بدار الآثار العربية