مجلة الرسالة/العدد 518/السنة وثبوت العقيدة
→ دفاع عن البلاغة | مجلة الرسالة - العدد 518 السنة وثبوت العقيدة [[مؤلف:|]] |
الحديث ذو شجون ← |
بتاريخ: 07 - 06 - 1943 |
للأستاذ محمود شلتوت
منشأ ظنية السنة - التواتر والآحاد - الآحاد لا تفيد اليقين - ندرة المتواتر - الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر وأسبابه - تطبيق
بينا فيما سبق أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن برفع عيسى أو نزوله فضلاً عما يفيد اليقين) وتمت بذلك النظرة الأولى من النظرات الثلاث التي وعدنا بها
وسنعرض في هذا الفصل للمبادئ التي تنبني عليها (قطيعة السنة أو ظنيتها) ثم نطبق هذه المبادئ على الأحاديث التي زعموا أنها تدل دلالة قطعية على نزول عيسى، وهذه هي النظرة الثانية
وأول ما يجب التنبه له في هذا المقام أن (الظنية) تلحق السنة من جهتي الورود والدلالة: فقد يكون في اتصال الحديث برسول الله ﷺ شبهة فيكون ظنيّ الورود، وقد يلابس دلالته احتمال فيكون ظني الدلالة، وقد يجتمع فيه الأمران: الشبهة في اتصاله، والاحتمال في دلالته، فيكون ظنياً في وروده ودلالته. ومتى لحقت (الظنيةَ) الحديثُ على أي نحو من هذه الثلاثة فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها، وإنما يثبت الحديثُ العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعياً في وروده وفي دلالته
ولكي يتضح مناط (القطعية والظنية) في ورود الحديث ينبغي أن نبين ما قرره العلماء في (التواتر والآحاد) ليكون مناراً يهتدي به من يريد الوصول إلى الحق:
قسم العلماء (السنة) إلى قسمين: ما ورد بطريق التواتر، وما ورد بطريق الآحاد. وضابط التواتر أن يبلغ الرواة حداً من الكثرة تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب. ولابد أن يكون ذلك متحققاً في جميع طبقاته: أوله ومنتهاه ووسطه، بأن يروي جمع عن النبي ﷺ، ثم يروي عنهم جمع مثلهم، وهكذا حتى يصل إلينا، وهو عند التحقيق رواية الكافة عن الكافة
ويقول بعض علماء الأصول: (الخبر المتواتر هو الذي اتصل بك من رسول الله ﷺ اتصالاً بلا شبهة حتى صار كالمعاين المسموع منه، وذلك أن يرويه قوم لا يحصى عددهم، ولا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم وتباين أماكنهم، ويدوم هذا في وسطه وآخره كأوله، وذلك مثل: القرآن والصلوات الخمس، وأعداد الركعات، ومقادير الزكوات)
هذا هو التواتر الذي يوجب اليقين بثبوت الخبر عن رسول الله ﷺ. أما إذا روى الخبر واحد، أو عدد يسير ولو في بعض طبقاته، فإنه لا يكون متواتراً مقطوعاً بنسبته إلى رسول الله ﷺ، وإنما يكون (آحاديا) في اتصاله بالرسول شبهة فلا يفيد اليقين
إلى هذا ذهب أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وقد جاء في الرواية الأخرى خلاف ذلك، وفيما يقول شارح مسلم الثبوت (وهذا بعيد عن مثله فإنه مكابرة ظاهرة) وقال البزدوي: (وأما دعوى علم اليقين - يريد في أحاديث الآحاد - فباطلة بلا شبهة لأن العيان يرده؛ وهذا لأن خبر الواحد محتمل لا محالة، ولا يقين مع الاحتمال. ومن أنكر هذا فقد سفه نفسه وأضل عقله)
وقال الغزالي: (خبر الواحد لا يفيد العلم وهو - أي عدم إفادته العلم - معلوم بالضرورة. وما نُقل عن المحدثين من أنه يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علماً، ولذا قال بعضهم: خبر الآحاد يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن)
وقال الأسنوي: (وأما السنة فالآحاد منها لا يفيد إلا الظن)
وقال البزدوي تفريعاً على أن خبر الواحد لا يفيد العلم: (خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبني على اليقين، وإنما كان حجة فيما قصد فيه العمل)
وقال الأسنوي: (إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين)
وهكذا نجد نصوص العلماء من متكلمين وأصوليين مجتمعة على أن خبر الآحاد لا يفيد اليقين، فلا تثبت به العقيدة، ونجد المحققين من العلماء يصفون ذلك بأنه ضروري لا يصح أن ينازع أحد في شيء منه، ويحملون قول من قال: (إن خبر الواحد يفيد العلم) على أن مراده العلم بمعنى الظن كما ورد، أو العلم بوجوب العمل. على أن الكلام إنما هو في إفادته العلم على وجه تثبت به العقيدة، وليس معنى هذا أنه لا يحدث علماً لإنسان ما، فإن من الناس من يَحدث العلمُ في نفسه بما هو أقل من خبر الواحد الذي نتحدث عنه، ولكن لا يكون ذلك حجة على أحد، ولا تثبت به عقيدة يكفر جاحدها، فإن الله تعالى لم يكلف عباده عقيدة من العقائد عن طريق من شأنه ألا يفيد إلا الظن. ومن هنا يتبين أن ما قلناه في الفتوى من (أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات) قولٌ مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء!
وإذ قد عرفنا الفرق بين مناط القطعية في الورود وهو التواتر، ومناط الظنية وهو الآحادية، فهناك بحث آخر يتصل بالتواتر ولابد من النظر فيه، هذا البحث هو: هل يوجد المتواتر في الأحاديث المروية في الكتب المدونة؟ وقد اختلف العلماء في الجواب عن ذلك: فذهب قوم إلى أنه لا يوجد حديث متواتر فيما روي لنا من الأحاديث ودون في الكتب، ولعل هؤلاء بنوا رأيهم هذا على اشتراط عدم الإحصاء في رواة المتواتر، وهو مذهب لطائفة من العلماء كما تبين مما نقلناه في تعريف المتواتر. وقال ابن الصلاح: (لا يكاد يوجد المتواتر في رواياتهم، ومن سئل عن إبراز مثال له فيما يروى من أهل الحديث أعياه تطلبه، وحديث (إنما الأعمال بالنيات) ليس من ذلك السبيل وإن نقله عدد التواتر وزيادة، لأن ذلك طرأ في وسط إسناده ولم يوجد في أوله. نعم حديث (من كذب علي) نراه مثالاً لذلك، فإن رواته أزيد من مائة صحابي وفيهم العشرة المبشرون بالجنة، ولا يعرف حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا الحديث الواحد)
وذهب آخرون إلى أن المتواتر كثير في هذه الكتب. قالوا: (إن هذه الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً مقطوع بصحة نسبتها إلى مصنفيها، فإذا اجتمعت على إخراج حديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد ذلك العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب كثير)
وليس بنا حاجة إلى أن نعرف مدى هذه الكثرة التي يراها هؤلاء، ويذكرونها في مقابلة القول بالعدم، أو في مقابلة القول بالندرة وإعياء تطلب المثال، وإنما يهمنا أن نلفت النظر إلى أنه لا يحكم لحديث بالتواتر - حتى على أكثر هذه المذاهب توسعاً - إلا إذا اجتمعت في الشروط الآتية: 1 - أن تخرجه جميع كتب الحديث المشهورة المتداولة
2 - أن تتعدد طرق إخراجه تعدداً تحيل العادة معه التواطؤ على الكذب
3 - أن يثبت هذا التعدد في جميع طبقاته: أوله وآخره ووسطه
وإذن: فالحديث الذي لم تخرجه جميع الكتب المتداولة المشهورة، أو أخرجته جميعها ولكن لا بطرق متعددة، أو أخرجته بطرق متعددة ولكن لا في جميع الطبقات، بل في بعضها دون بعض، لا يكون متواتراً باتفاق العلماء أجمعين!
ويجدر بنا بعد هذا أن نعرض لظاهرة غريبة شاعت في الناس، وإن الحق ليتقاضى فيها واجبه من العلماء المسئولين أمام الله وأمام الرسول: تلك الظاهرة هي أنه على الرغم مما قرره العلماء في شأن المتواتر تحديداً ووجوداً، وعلى الرغم من هذا التحفظ الشديد في الحكم لحديث مما دون في الكتب بالتواتر، نرى بعض المؤلفين قديماً وحديثاً يسرفون في وصف الأحاديث بالتواتر، وقد يقتصدون فيخلعون عليها أوصافاً أخرى كالشهرة والاستفاضة والذيوع على ألسنة العلماء، وتلقي الأمة إياها بالقبول والثبوت في كتب التفسير وشرح الحديث، أو في كتب التاريخ والمناقب. . . الخ. وقد يشتط (أناس) في سلوك هذه السبيل، فتراهم يتتبعون مع هذا أسماء الصحابة والتابعين والأئمة والمؤلفين الذين جرى ذكرهم على ألسنة النقلة في رواية الحديث، وهم يعلمون أنها روايات ضعيفة لا تصبر على النقد، وأن هذه الأسماء التي يحرصون على جمعها توجد في كل حديث حتى في الأحاديث الموضوعة، ولكنهم مع ذلك يجمعونها، ويجتهدون في عدها وإحصائها وذكر الكتب التي اشتملت عليها لأنهم يريدون أن يخطفوا أبصار العامة، ويستغلوا عاطفتهم الدينية، ويزعموا لهم أن هذا الحديث أو تلك الأحاديث قد وردت عن نبيكم في هذه الكتب الكثيرة وعلى لسان هذا الجم الغفير من الرواة بين صحابة وتابعين فهي متواترة لاشك في تواترها، وهي متصلة بالرسول لاشك في اتصالها، ومن حاول الطعن فيها، أو الحط من درجتها، فقد ضل ضلالاً بعيداً، وحاد عن سبيل المؤمنين!
ولهذه الظاهرة أسباب:
منها، وقد يكون أقلها خطراً، اشتهار الحديث في طبقة أو طبقتين فتسحب الشهرة على جميع طبقاته، ويحكم عليه حكماً عاماً بالتواتر أو الشهرة من غير تحقيق ولا تمحيص، وقد لا يصل الحديث إلى حد الشهرة في طبقة ما، ولكنه جاء في (الخلافيات) فقهية أو كلامية فتعصب له أتباع المذاهب وخلعوا عليه وصف الشهرة أو التواتر تأييداً لمذهبهم، وتناقلته الكتب، موصوفاً بذلك منسوباً إلى جمع من رجال الرأي والمذهب فيخاله الناس مشهوراً أو متواتراً وهو ليس بمتواتر ولا مشهور!
ولقد كان للقائمين (بالترغيب والترهيب) ونقل الملاحم والفتن وغرائب الأخبار التي تميل النفوس إلى التحدث بها والاستماع إليها، أثر عظيم في خلع أوصاف الشهرة والتواتر على أنواع خاصة من الأحاديث التي ليست بمشهورة ولا متواترة بل ربما كانت غير صحيحة، وقد تأثرت بذلك طبقة من الخاصة لم تعن بتحقيق الرواية، ولا بمعرفة درجة الحديث، واكتفت بنقل ما يقوله هؤلاء وإجرائه على ألسنتهم وفي كتبهم حتى شاع واشتهر
وإنما استباحوا ذلك معتمدين على ما قرره بعض علماء المصطلح من (جواز التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما، وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب مما لا تعلق له بالأحكام والعقائد)
وبذلك رووا الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة، ثم توسعوا فوصفوا الآحاد بالتواتر، والضعيف بالصحيح، وتناسوا مقاييس التواتر والآحادية، ومقاييس الصحة والضعف، ومن هنا رأينا من يصف (المعجزات الحسية) كانشقاق القمر وتسبيح الحصى وكلام الغزالة وحنين الجذع بالتواتر مع أنها غير متواترة، وإنما هي آحادية كما قرره علماء الأصول. وكذلك رأينا من يصف أخبار المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج وما إلى ذلك مما يذكر باسم (أشراط الساعة) بالشهرة أو التواتر
ولعل أحقر ما رأينا من أسباب الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر أن قوماً من المرتزقة باسم الدين وباسم الغيرة على أحاديث الرسول ﷺ استباحوا لأنفسهم في سبيل أغراضهم الدنيا أن يصطنعوا كل أساليب التلبيس والتمويه في شأن أحاديث عيسى التي لا يمكن أن يكون منها متواتر حتى على أوسع الآراء في تحققه، وهي مع آحاديتها يكثر ويشتد في معظمها ضعف الرواة واضطراب المتون ونكارة المعاني، فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان من الصحابة والتابعين، وذكرت في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المتقدمين، فإذا رأوا في بعضها ضعفاً أو اضطرابا أو نكارة حاولوا التخلص من ذلك فقالوا: إن الضعيف فيها منجبر بالقوي، وأن العدالة لا تشترط في رواة المتواتر. وهكذا يخلعون عليها ثوباً مهلهلاً من القداسة لا رغبة في علم ولا غيرة على حق، ولكن مكابرة وعنادا، وإصراراً على التضليل، وليقال على ألسنة العامة وأشباه العامة إنهم حفاظ وإنهم محدثون!
بقي بعد هذا أمر لابد من تقريره: وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطيعة الدلالة، فقد تناولتها إفهام العلماء قديماً وحديثاً ولم يجدوا مانعاً من تأويلها. وقد جاء في شرح المقاصد بعد أن قرر مؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية ما نصه: (ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة. . . وأول بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك، وفتنة الدجال بظهور الشر والفساد، ونزول عيسى ﷺ باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح. . . الخ.). ومن ذلك نرى أن السعد لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله، وإنما يقرر بصريح العبارة (أنه لا مانع من حملها على ظواهرها) فيعطى بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل، ثم يحدث عن بعض العلماء أنهم سلكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلاً، ويبين المعنى الذي حملوها عليه، ولا شك أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد - كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله - إن ما تدل عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها، فمن أداه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها فله ذلك، ومن أداه نظره إلى تأويلها فله ذلك، شأن كل ظني في دلالته
ومما تقدم يتبين جلياً (أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطيعة ما، لا من ناحية ورودها ولا من ناحية دلالتها). والسلام على من اتبع الهدى
محمود شلتوت
عضو جماعة كبار العلماء