مجلة الرسالة/العدد 518/دفاع عن البلاغة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 518 دفاع عن البلاغة [[مؤلف:|]] |
السنة وثبوت العقيدة ← |
بتاريخ: 07 - 06 - 1943 |
11 - دفاع عن البلاغة 3 - الأسلوب
أجل، إن الذين آمنوا بالصياغة ودعوا إليها، كانوا أفهم لمعنى البلاغة من الذين كفروا بها وزرَوْا عليها. ذلك لأن تجويد الصور يستلزم تجويد الفِكرَ وليس كذلك العكس. والعناية الدقيقة بالعبارة سبيل إلى إجادة التفكير وإحسان التخيل كما يرى فلوبير. وفلوبير هذا كان إمام الصناعة في فرنسا، أخذ نفسه بالتزام ما لا يلتزم غيره، فكان لا يكرر صوتاً في كلمة، ولا يعيد كلمة في صفحة. وكانت أذنه هي الحَكم الأعلى في صوغ الكلام، فلا تسيغ منه إلا ما حسن انسجامه وتعادلت أقسامه وتوازنت فقره. قال فيه تلميذه ومواطنه موباسان: (كان يرفع الصحيفة التي يكتبها إلى مستوى نظره وهو معتمد على مرفقه، ثم يتلو ما كتب جاهراً بتلاوته، مصغياً لإيقاعه؛ فكان في نَبره وإرساله يوفق بين السكنات والحركات، ويؤلف بين الحروف والكلمات، ويضع الفواصل في الجملة وضعاً دقيقاً محكماً فكأنها الاستراحات في الطريق الطويل).
وقال هو لبعض أصحابه: (تقول إنني شديد العناية بصورة الأسلوب، والصورة والفكرة كالجسد والروح هما في رأيي شيء واحد. وكلما كانت الفكرة جميلة كان التعبير عنها أجمل. إن دقة الألفاظ من دقة المعاني، أو هذه هي تلك).
وقد غالى علماؤنا البيانيون فزعموا أن المعاني شائعة مبذولة لا يملكها المبتكر ولا السابق، وإنما يملكها من يحسن التعبير عنها. فمن أخذ معنى بلفظه كان له سارقاً، ومن أخذه ببعض لفظه كان له سالخاً، ومن أخذه فكساه لفظاً أجود من لفظه كان هو أولى به ممن تقدمه. على أن هذا الرأي الجريء لم يكن رأي العرب وحدهم، وإنما يراه معهم (بوفون) وأشياعه من كتاب الفرنج؛ فقد قرر في خطبته عن الأسلوب التي ألقاها يوم دخل الأكاديمية الفرنسية، أن الأفكار والحوادث والمكتشفات شركة بين الناس، ولكن الأسلوب من الرجل نفسه.
نعم قال بوفون: إن الأسلوب من الرجل نفسه ' ولم يقل: إن الأسلوب هو الرجل ' ' كما شاع ذلك على الألسنة. ولم يرد بما قال أن الأسلوب ينم عن خلق الكاتب ويكشف عن طبعه كما فهم أكثر الناس، وإنما أراد أن الأسلوب، ويَعني به النظام والحركة المودعين في الأفكار، هو طابع الكاتب وإمضاؤه على الفكرة. ومعنى ذلك أن الأفكار تكون، قبل أن يفرغها الفنان في قالبه الخاص، من الأملاك العامة؛ فإذا عرف كيف يصوغها على الصورة اللازمة الملائمة تصبح ملكاً خاصاً له، تسير في الناس موسومة بوسمه، وتعيش في الحياة مقرونة باسمه. فالأسلوب وحده هو الذي يملكك الأفكار وإن كانت لغيرك. ألا ترى أن أثر الأخلاق في بقاء الأمم وفنائها معنى من المعاني المأثورة المطروقة؛ فلما أجاد شوقي سبك اللفظ عليه في بيته المشهور أصبح بهذه الصيغة من حسناته المعدودة وأبياته المروية؟
على أنك مهما استقربت لا تجد امرأً سليم الملكات ينكر ما لحلاوة الجرْس وطلاوة العبارة من الأثر الفعال في بلاغة الكلام. وعلماء البيان مجمعون على أن (الكلام إذا كان لفظه غثاً، ومعرضه رثاً، كان مردوداً ولو احتوى على أجل معنى وأنبله). ومنذ تنزلت الشياطين بالسجع والقصيد على كهان الجاهلية الأولى لم يقل أحد غير كتاب آخر الزمان أن البلاغة هي الفكرة وأن البليغ هو المفكر. وفيما سلف من العهود التي صحت فيها القرائح وسلمت الأذواق كان الرجل ينصرف عن الكتابة أو الشعر إذا لم يجد في طبعه براعة الأداء ولا في نفسه ملكة الفن. إنما يحاجُّك في العناية بالأسلوب من اضطر إلى مزاولة الكتابة وهو مدفوع عن البلاغة بوهن سليقته وجفاء طبعه. ولهم في الحِجاج رقاعات سبيلك أن تُسَلم بها لتسلم منها. يقولون مثلاً: إن الناس يتكلمون ليفهم الشاهد، ويكتبون ليفهم الغائب؛ فلماذا لا نكتب مثل ما نتكلم؟ لماذا نؤثر أن يقال: وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً، على أن يقال: كبرت سني وشاب رأسي، والجملتان الأخيرتان أخصر لفظاً وأيسر فهماً؟
على أن من أعداء العناية بالأسلوب قوماً جادّين ليسوا من أبناء العربية ذات الأناقة الذاتية والتلاؤم المطبوع، ولكن لهم آثاراً تُقرأ وآراء تناقش، أولاهم بالذكر الكاتب الفرنسي إميل زولا. فلقد مكن الله لهذا الكاتب في دولة الكتابة وآتاه أسباب النبوغ، ولكنه ابتلاه بشيء من خشونة الطبع وفجاجة الذوق فلم يستطع مجازاة البلغاء من أنداده ومعاصريه في رونق البيان وروعة الأسلوب، فأخذ يهوّن من شأن الصور الفنية في العبارة بمثل قوله: (ليس من مطلق الحق - وإن عارض بوفون وبوالو وشاتوبريان وفلوبير - أن الكاتب يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبه ليشق له في الأدب طريقاً يبقى على الأبد. إن الشكل عرضة للتغيير والزوال بسرعة. ولابد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حياً؛ ولا يمكن أن يكون حياً إلا إذا كان حقاً. والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات أحياء) ثم يقول بعد ذلك: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرأهما مترجَمين؟) وهذا القول ظاهر البطلان، لأن المخلوقات الحية التي يلدها ذهن الكاتب لا يتسنى لها البقاء على توالي الأعقاب والأحقاب إلا بالأسلوب كما فال شاتوبريان. ومن هنا قل اهتمام الناس بكتب زولا بعد موته، وإن ظلت في تاريخ الأدب هرما شاهقاً ضخما يدل على جبروت الذهن وقوة القريحة، لأنها فقدت النبل في الموضوع والبلاغة في الأسلوب، وبغير هاتين الصفتين لا يخلد كتاب. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات