الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 504/من أيام الفتوح

مجلة الرسالة/العدد 504/من أيام الفتوح

مجلة الرسالة - العدد 504
من أيام الفتوح
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 03 - 1943


من مؤتة إلى اليرموك

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

في العام الثالث بعد الستمائة من الميلاد، وذلكم قبل بعثة الرسول بست سنين، اشتعلت الحرب بين الروم والفرس. وهي حلقة من سلسة طويلة من الحروب بدئت منذ ظهر الرومان في غرب آسيا، واستمرت بين الرومان والأشكانيين، ثم ورثها الساسانيون والبيزنطيون حتى شغلت من التاريخ سبعة قرون بين الاشتعال والخمود، وهذه الحلقات الأخيرة التي سبقت البعثة واستمرت بعد الهجرة سبع سنين قد اهتم بها العرب ونزلت فيها آية من القرآن: (غُلبت الرومُ في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيَغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). انتصر الفرس في عهد كسرى برويز على الروم زهاء عشين سنة متوالية فسلبوهم كل ما ملكو في آسيا، وفتحوا بيت المقدس وأخذوا الصليب الكبير، ثم غلبوهم على مصر. وظهرت جيوش الفرس على أبواب القسطنطينية مرات. وظن الناس أن الروم لا تقوم لهم قائمة

ثم أجمع الروم أمرهم، وقادهم هرقل من ظفر إلى ظفر خمس سنين أتت على كل ما ناله الفرس في الحروب المتمادية. وخلع كسرى برويز بعد أن أخرجته الهزائم من دار ملكه ومات ذليلاً حزيناً، وخلفه ابنه قباد الثاني فصالح هرقل على أن يرد على الروم كل ما سلبوه في آسيا ومصر وأن يرد الصليب المقدس. وسار هرقل في أعظم مواكبه إلى بيت المقدس ليضع الصليب موضعه في ديسمبر سنة 629 م. وبلغ هرقل من العزة والهيبة والصيت ما بلغ

- 2 -

في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة بعد غزوة خيبر بشهرين وجه رسول الله، ثلاثة آلاف من أصحابه إلى الشام، وجعل القيادة لزيد بن حارثة، فإن أصيب فجعفر بن أب طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة. وكان هذا إيذاناً ببعد الشقة، وجسامة المطلب، وعظيم الخطر

لماذا سير الرسول صلوات الله عليه جيشاً لحرب الروم في أرض بعيدة؟ يقول المؤرخون أن الغسانيين قتلوا رسوله إلى أمير بصرى؛ ولكن أحسب الأمر أوسع من هذا فقد أراد المسلمون أن يرهبوا الطامعين موقف القبائل العربية الضاربة في سلطان الروم من المسلمون: أحرب هم أم سلم.

سار المسلمون إلى معان فإذا هرقل الذي حالفه الظفر خمس سنين حتى رد إلى سلطان الروم ما أخذه الفرس وزلزل سلطان كسرى في ديار كسرى - قد جمع في مآب جموعاً حاشدة من الروم والعرب - وتشاور المسلمون وهموا بأن يكتبوا إلى الرسول ولكن ابن رواحة قال: (يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له؛ خرجتم تطلبون الشهادة؛ وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة، ولا كثرة. ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة).

التقى الجمعان عند مؤتة وهي قرية في البلقاء التي تسمى اليوم شرق الأردن، إلى الشرق من الطرف الجنوبي للبحر الميت.

واستعرت الحرب وقاتل زيد بالراية حتى قتل، وتقدم جعفر للشهادة فقاتل حتى نالها. وتلاه ابن رواحة فقتل. فاجتمع الناس على القائد المحنك المظفر خالد بن الوليد فقاتل كما يقاتل خالد حتى تراجع بالجيش الصغير فأنقذه من الجموع المطبقة عليه فعل القائد الحازم لا يهلك جيشه في معركة خاسرة.

ثم شغل المسلمون بفتح مكة وما تلاه من الأحداث. وبعد سنة من موقعة مؤتة دعا الرسول إلى غزو الروم (في زمن عسرة من الحر، وجدب من البلاء) زمن تدعو فيه إلى الحرب إلى ضرورة لا مناص منها. وعلم الناس أنهم يدعون لغزو الروم، غزو بني الأصفر وهم يعلمون من سلطانهم وقوتهم وانتصارهم على الفرس ما يملؤهم هيبة. حتى قال بعض المنافقين: (أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؛ والله لكأني غداً مقربين في الحبال)

سار الجيش إلى تبوك، وكانت على حدود البلاد الخاضعة لسلطان الروم في الشمال؛ فأقام بضع عشرة ليلة وصالح الرسول صلوات الله عليه أهل دومة الجندل وأيلي وجربار وأزرح.

ورجع المسلمون وقد صالحوا من صالحوا وأرهبوا القبائل الضاربة في الشمال، وأعلموا الروم أنهم غير عاجزين عن الجمع والسير للقتال. وكانت غزوة ذات أثر في تمكين هيبة المسلمين في القبائل الشمالية، ومحو ما أصاب المجاهدين في مؤتة، والتمهيد لإقامة سلطان الإسلام في تلك الأرجاء

- 4 -

ثم أعد الرسول جيشاً للمسير إلى البلقاء حيث ترتجع المسلمون في غزوة مؤتة وجعل عليه أسامة بن زيد أول قائد للمسلمين في تلك الغزوة وتوفي الرسول واشتعلت الفتنة في الجزيرة وسأل الناس أبا بكر أن يبقى الجيش ليلقى المدينة غارات القبائل المرتدة ولكن خليفة رسول أصر الإصرار كله على أن ينفذ الجيش الذي أمده رسول الله. فسار الجيش إلى حيث أمر الرسول فغنم وسلم. وذلكم في السنة الحادية عشرة. وهو تدبير عظيم لم يلقه الروم ومن والاهم من العرب بكفاية من الاهتمام والتفكير

- 5 -

وبعد سنة وأشهر من رجوع جيش أسامة - وذلكم أوائل السنة الثالثة عشرة عزم المسلمون على فتح الشام وسير أبو بكر جيوشاً أربعة لهذا الفتح. وتتابعت الوقائع إلى الموقعة الحاطمة موقعة اليرموك التي جعلت هرقل يودع الشام وداعاً لا لقاء بعده. وقد أدار هذه الموقعة الفاصلة خالد بن الوليد، القائد الذي شهد مؤتة وأنحاز بجيشه فخلصه من براثن الموت. ولولا ضيق المجال لفصلت القول وسردت الحوادث مبيناً عن الصلات الجامعة، والقرابة الواشجة، بين هذه الأحداث. تلكم صور متفرقة في كتب التاريخ، شتيتة في رأى مطالعيه؛ ولكنها في الحق أوجه حقيقة واحدة، أو أمواج من بحر واحد، أو فصول متتابعة من كتاب: أوجه من هذا اليقين الذي ملأ قلوب العرب المسلمين، وأمواج من هذا الجهاد الذي اعتزمه العرب المسلمون، وفصول من هذا المجد الذمي سطره العرب المسلمون قصة أولها خالد ينحاش بجيشه ليقيه غائلة الروم، وآخرها خالد يقدم بجيشه ليمحو سلطان الروم، ويمد سلطان المسلمين على الشام وما وراء الشام؛ وفي ثناياها حقائق من الأخلاق والسنن والتاريخ هي التي تجلت سريعاً فجمعت في سلطان العرب المشرق والمغرب وأن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.

عبد الوهاب عزام