مجلة الرسالة/العدد 504/رسالة الأديب
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 504 رسالة الأديب [[مؤلف:|]] |
من أيام الفتوح ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1943 |
للدكتور زكي مبارك
رسالة الأديب - كلام قد ينفع - الخلوة إلى القلب
في أحد الأعداد الأخيرة من مجلة الجمهور البيروتية كتب الأستاذ اليأس أبو شبكة كلمة في السؤال عما ترك شوقي وجبران من التوجيهات النافعة في السياسة القومية، وهو ينتظر أن يجود الجيل الجديد بأدباء قادرين على خلق تلك التوجيهات. وفي العدد الأخير من مجلة المصور القاهرية كتب الأستاذ فكري اباظة يقول إن قصيدة ستالينجراد للشاعر علي محمود هزته هزاً، وهو يرجو أن يعود الشعراء المصريون إلى التغني بالقومية والوطنية، ولا سيما العقاد ومطران
وأقول: أن من رسالة الأديب أن يتجه إلى آمال وطنه من حين إلى حين، أو في كل حين، وفقاً لما يجيش بصدره من نوازع وميول، ولكن من العقوق للأديب أن نجحد فضله إذا لم يجعل الآمال الوطنية في جميع الأحايين
والقول الفصل في هذه القضية إن رسالة الأديب هي خلق ذوق الحياة، فمن الواجب إن تتجه مراميه جميعاً إلى ذلك الخلق في أي صورة، وعلى أي شكل. وقد قلت مرات: إن الأديب الحق هو الذي يستطيع بقلمه أن ينقلك من ضلال إلى هدى أو من هدى إلى ضلال. والمهم عندي إن يقدر الأديب على خلق الفتن الروحية والذوقية والعقلية، بحيث تخرج من صحبته بمحصول جديد من القلق أو الاطمئنان. ولو كانت غاية الأديب إن يرسم لنا خطط المستقبل لوجب أن نترك الشعراء القدماء، لان أدبهم يعجز عن توجيه الجيل الجديد، ولأنه من هذه الناحية أعجز من أدب شوقي وأدب جبران
أشعار المعري لا تنفع القومية بشيء، القومية في مدلولها الحديث، ولو شئت لقلت إنها كانت أذًى على قومية ذلك الزمان، لأن منحاها يتجه إلى الهدم لا إلى البناء، ولكن قراءة أشعار المعري تنفع في تقوية الذاتية، وتروض القارئ على الاعتداد بالنفس، وتثيره على الرياء الاجتماعي. وثمرات هذا الأدب الذي يرينا كيف نواجه مشكلات العصر الجديد
رسالة الأديب هي خلق ذوق الحياة، أو هي نصر الحياة على الموت، والقليل من هذه الرسالة في هذا الاتجاه يصنع الأعاجيب في إحياء الممالك والشعو كلام قد ينفع
صديقي. . .
لم يبق بدمن توجيه نظرك إلى أشياء خفيت عليك عدداً من السنين، واستوجبت أن أزهد في لقائك، برغم ما بيني وبينك من وداد عجزت عن محوه الأيام. هي أشياء تملني منك، فتصرفني عنك، وتجعل محضرك اثقل من الحديث المعاد
أنت يا صديقي مغرم بالسؤال عما لا يعنيك من شؤون الناس، ولا سيما الموظفين، كأنك تتوهم أن أعمالي تنحصر في استقصاء الدقائق والخفايا من أحوال الزملاء، وكان الحياة عندي وعندك قيل وقال، وبحث وسؤال، مع أنك تعرف جيداً أني لم أسألك يوماً عن شأن من شؤونك، الا أن تتلطف أنت فتستشيرني في بعض المعضلات من أحوال دنياك، ثم تكون النتيجة أن أنسى ما أفضيت به إلي بعد لحظات قصار أو طوال
يجب أن تكون شواغلنا الحقيقية مقصورة على ما ينفع، ولا نفع في استقصاء أحوال الناس، الا في حدود المتصلة بالمعملات، ثم يمضي كل إلى سبيله المرسوم في طلب الرزق أو المجد، بلا التفات إلى الفضول الذي لا يتشهاه غير صغار العقول
ومن أثقل ما يضجرني منك حرصك في كل لقاء على تذكيري بالتقصير في حق نفسي من الوجهة الدنيوية، وأنا أبغض من يبصرني بأمور دنياي، لأني رسمت لحياتي كلها خطة لا أحيد عنها في أي وقت، وهي الظفر بأكبر نصيب من أنصبة الفكر والرأي. وهذا هو السبب في أن تكون أوقاتي كلها مشغولة برياضيات ذهنية وعقلية وروحية، وهو أيضاً السبب في طول الخلوة إلى القلم، بحيث لا يمضي يوم يجوز نعته بالفراغ، ولو كان من أيام الأعياد
والغريب أنك لا تساجلني فيما أكتب، ولا تحاول تنبيهي إلى ما يغيب عني، وإنما تسأل دائماً عما ساجني من الأدب، وتحاول بالتصريح أو التلميح أن تفهمني أن كل شيء ما خلا المال ضياع في ضياع!
وأنا لا ازهد في المال ولا أدعو إلى الزهد فيه، ولكني أفهم أن الغني بالنسبة إلى أهل العلم والأدب غني محدود، وينبغي أن يظل كذلك، لتبقى لأهل العلم والأدب أشواق إلى المعاني، وليتحرروا من أسر الغنى الفضفاض، فله شواغل تحد من وثبات العقول، وسبحات الأرواح، وخطرات القلوب
ليس لي بصديق من يختار لي غير ما اخترت لنفسي، وأنت تخذلني تخذيلاً فضيعاً كلما لقيتني، لأنك تحاول تهوين نعمة الله في قلبي، وأنا اعتقد أني من الله عليهم بنعمة التوفيق، فله الحمد وعليه الثناء
أتريد الحق؟
الحق أنك تحاول الدفاع عن كسلك بأسلوب ملفوف، فأنت تهون من شأن الجهاد الأدبي بحجة أنه قليل الربح، وتلك حجة واهية، فللجهاد الأدبي أرباح أيسرها الشعور بقيمة الجهاد، ولو كان لي أمل في تقويمك لذكرتك للمرة الأولى بعد آلاف بأن حياتك صارت غاية في الهزال، وأنك لا تستحق اللقمة التي تاكل، ولا الخرقة التي تلبس، وما أنفقه أهلك وأنفقته الدولة في تعليمك وتثقيفك قد ضاع إلى آخر الزمان
عندك ألقاب علمية، وبيدك وظيفة رسمية، ولكنك على نفسك وعلى الوطن بلاء
كيف يجوز أن تمر أيام وأسابيع وشهور وأعوام ولا تقرأ لك بحثاً جيداً أو غير جيد، ولا نسمع من أخبارك غير البراعة في تسقط أخبار الناس، ولا نلقاك الا في القهوة أن أردنا أن نلقاك، ولا نأخذ عنك غير المعلومات السخيفة عن الدرجات والترقيات؟ وكيف يكون كل همك أن تسألني عما بيني وبين الرؤساء من صلات، ولا يخطر في بالك أن تسألني عما بيني وبين الله من صلات؟
وتعيب علي أن اقضي أيامي في نضال وصيال، فما الذي غنمت أنت من قضاء دهرك في التلطيف والتظرف، بمصانعة هذا ومجاملة ذاك؟
ما تذكرت ماضيك إلا تحسرت وتفجعت، فقد كنت فتى مرجو المخايل، وكان جهادك في طلب العلم مضرب الأمثال، فكيف وقع حجر الخمود فوق رأسك فشطره شطرين، شطراً للنميمة وشطراً للاغتياب؟
وأنا مع هذا أحبك وأحفظ عهدك، ولكن كيف أتقي شرك، يا شرير؟
أن لقاءك يؤذيني أعنف الإيذاء، لأنه يربيني في العدل، فما يجوز لمن يكون في مثل حالك من تعطيل مواهبه الأساسية أن يجد القوت
ارتع والعب، فأن الرزق لا يفوت السوائم المهملات! صديقي
لا تفكر في لقائي بعد اليوم، الا أن تغير ما بنفسك، فترجع فتى كالذي عهدت، فتى يعتمد على الله لا على الناس، ويؤمن بأن الله لا يرفع أحدا بغير حق، لأنه يضع الموازين في جميع الشؤون، بحيث يمكن القول بأن المصادفة لا يمكن لها في الوجود
أتراني ألقاك مع الرجاء لا مع الخوف؟
أنا أخاف من لقائك لأنك تخذلني وتعوقني، أيها العالم الجبان!
لطف الله بي وبك، وهداني وهداك!
الخلوة إلى القلب
لا أدري كيف صرت إلى ما صرت إليه من الزهد في لقاء الناس، أو لعلني ادري، فقد صرت لا أفكر ففي لقاء صاحب أو صديق الا إذا وثقت بأن لقاءه يوحي إلى القلب أشياء
وهل يتسع الوقت لمسامرة من لا يوحون بشيْ؟
أن الحياة أقصر من أن نضيعها في مصاحبة الموسومين بالغباوة والجهل
الصديق الذي أجالسه فيثير في نفسي الشوق إلى امتشاق القلم لتدوين بعض المعاني هو الصديق، وأنا أرحب بلقائه في كل حين
والأصل في الصديق أن يكون على مثال القلب، فتحاوره كما تحاور قلبك ولا احتراس، عندئذ يتفتح القلب عن مكنونات يبدعها الحوار اللطيف
ومن أدبي في حياتي أن أحرص أشد الحرص على أصدقائي، وأن أتعصب لهم بحق وبغير حق، وأن أنتهز الفرص للحديث عنهم ولوفي صورة الملام، وكان ذلك لأني أومن بأن من حق من وثقوا بنا فصادقونا أن نبذل في البر بهم ما نملك من كلمة الخير، وهي كلمة لا يضن بها غير المفطورين على الشح اللئيم
والخلوة إلى القلب، أو إلى الصديق الذي بمنزلة القلب، هي فرصة الوحي الأدبي، وهذه الخلوة كانت السبب الأصيل في تفوق الأدباء القدماء
وهل ننسى أن الأنبياء لم يتلقوا الوحي الا في أعقاب الخلوات إلى القلوب؟
أقول هذا لأشرح السبب في قلة الشعر بجميع البلاد في هذا العهد، فالشعر لا يكون الا بالغناء، ولا يتيسر الغناء مع الضجيج أن أحلام القلوب لا تجمع بسهولة، وكيف وهي في شرود الأوابد؟ أن القلب أعماقاً أبعد غوراً من أعماق المحيط، وستكتشف جميع المجاهيل قبل أن تكتشف سرائر القلوب
يجب على الكاتب أن يخلوا إلى قلبه لحظات من كل يوم، عساه يعرف بعض الملامح من سريرة القلب والروح
لا يفرح برؤية الناس والأنهار والبحار والمزارع والبساتين إلا من يعجز عن رؤية الخلائق فوق ساحة القلب
فمتى نكون من أرباب القلوب؟
متى؟ ثم متى؟
أن انتظارنا سيطول!
زكي مبارك