مجلة الرسالة/العدد 493/أطوار الوحدة العربية
→ الشعب الحبشي | مجلة الرسالة - العدد 493 أطوار الوحدة العربية [[مؤلف:|]] |
خزانة الرؤوس ← |
بتاريخ: 14 - 12 - 1942 |
عوامل ثورة العرب
للأستاذ نسيب سعيد
أظنك لا تزال تذكر أني وعدتك في حديثي الماضي أن افصل لك ما أجملت من الأسباب المباشرة لثورة العرب الكبرى. وقد رددت هذه الأسباب إلى عوامل أربعة، وهي: العامل الشخصي، والإقليمي، والديني، والقومي. وهاأنا الآن - برا بالوعد الذي قطعته على نفسي - اشرع بالإسهاب والتفصيل فأقول:
1 - العامل الشخصي
يذهب الباحثون إلى القول أن في مقدمة العوامل المباشرة للثورة العربية اعتقاد زعيمها (الحسين بن علي) بأن رجال الدولة العثمانية قد انتزعوا كل ثقة منه ومن انجاله، وانهم يتحينون الفرص للقبض عليه وإقصائه ونفيه إلى أقاصي البلاد. ولا يخفى عليك أن الغاية الأساسية للترك من إرسال وهيب باشا القائد التركي العام إلى الحجاز وتزويده بما زود به من سلطة واسعة، هو لأجل القضاء على كل ما (للحسين) من نفوذ وشوكة في البلاد العربية. ويعترف جمال السفاح في مذكراته أن وهيب باشا هذا طلب من الحكومة إرسال فرقة من الجند لتنفيذ مشروعه، ولولا مفاجأة الحرب العظمى - وقد جاءت على حين غرة - لنفذ ذلك المشروع الظالم، ولقضوا على (الحسين) قضاء أبدياً، بل لقضوا على كل حركة أو نهضة قومية في بلاد العرب
ويضاف إلى ذلك ما يردده البعض من المؤرخين وهو أنه كان (للحسين) عيون في ديوان حكومة مكة، وفي مكتب برقها، وفي الباب العالي أيضاً يوافونه بكل ما يدور بشأنه من مكاتبات بين الأستانة ومكة، ويطلعونه على جميع الخطط والتدابير. وما كان باستطاعة الاتحاديين الترك معرفة شيء من إسراره وخططه لأنه كان حذراً، شديد التكتم؛ وقد ظل يجاملهم ويلاطفهم، حتى اضطرهم إلى استبدال وهيب باشا بغالب باشا في أوائل زمن الحرب الماضية، فارتاح من خصم شديد المراس، وخلا له الجو في العاصمة العربية فتصرف كما أراد وتسنى له أن يستأثر بمقادير كبيرة من السلاح في خلال سنت الأوليتين، كما استطاع الحصول على مبلغ كبير من المال لا يقل عن 60 ألف ليرة عثمانية ذهب من جمال السفاح. ولعل خوفه من الانتقام هو الذي جعله يشترط على الترك في خلال المفاوضات التي دارت بينه وبينهم جعل الأمارة العربية وراثة في أنجاله لأنه كان يخشى إقصاءه في أول فرصة تسنح، فأراد لذلك أن ينال من الدولة العثمانية عهداً باستبقاء الأمارة في بيته وذريته فيطمئن ويرتاح، فأبى عليه رجال الترك ذلك
2 - العامل الإقليمي
ويأتي العامل الإقليمي أو الاقتصادي بعد العامل الشخصي، ويجب أن يحسب حسابه أيضاً؛ وقد نشأ عن مركز الحجاز الاقتصادي وعن حالته الاستثنائية. فالحجاز قطر مجدب أو واد غير ذي زرع كما وصفه التنزيل العزيز. وقد اعتاد سكانه أن يعيشوا مما يدره عليهم موسم الحجيج. ولا يخفى أن الحرب العظمى أعلنت في شهر رمضان عام 1332 أي قبل موسم الحجيج بثلاثة اشهر تقريباً، فضرب الحصار البحري على سواحل الحجاز في البحر الأحمر فتعطل بذلك موسم الحج، وشعر سكان الحجاز بالضائقة الاقتصادية الخانقة، وشعروا كذلك بألم الجوع، فكاتب الشريف (حسين) الحكومة وبسط لها الموقف الاقتصادي في القطر المقدس بسبب تعطيل موسم الحجيج فاعتذرت بسوء الحالة، وبحاجة الجيش إلى القوت، ولم ترسل شيئاً يهون على العرب هناك أمرهم وما هم فيه من ضنك وضيق فجاءوا الحسين يتوسلون إليه أن يعمل لإنقاذهم، والوسيلة الوحيدة للخلاص من تلك الضائقة المستحكمة الحلقات كانت بمحالفة البريطانيين، والاتفاق معهم على إلغاء الحصار البحري فتعود السفن والبواخر إلى زيارة الحجاج حاملة الميرة والحجاج والأموال والخيرات
3 - العامل القومي
وخلاصة ما يقال فيه أن الحسين، وقد كان العرب ينظرون إليه كأكبر زعيم عربي في ذلك العهد كبر عليه أن تساق الحرائر من أبناء أمته إلى الأناضول سبايا تحت ستار النفي والإبعاد، وإن يقتل كبار قومه، ويقبلوا ويمحوا من الأرض ويشتت شملهم لا لذنب جنوه ولا لاثم اقترفوه، وإنما لأنهم طالبوا الدولة العثمانية بإصلاح بلادهم العربية خوفاً من أن يؤدي الإهمال فيها إلى تدخل الدول الأجنبية في شؤونها باسم الإصلاح - كما جره من قبل في البلقان - ولذلك لم يجد الأمير العربي بداً حينما وقعت الواقعة، واصم الترك آذانهم، من إجابة ملتمسة بالعفو عن زعماء العرب وأحرارهم من إعلان الثورة الكبرى انتقاماً لهم من الترك، وطلباً للثار، ولإنقاذ بقايا السيوف من أبناء العروبة الأحرار، وقد كانوا مهددين بالفناء والموت المحتم.
وهنالك شبه إجماع بين الباحثين في القضية العربية على أن إسراع (الحسين) في إعلان ثورة العرب بعد الفتك بالرعيل الأول والثاني من الشهداء الأبرار، ونفي الأسر الكبيرة العربية إلى أقاصي الأناضول، حمل الترك على تغيير سياستهم وأساليبهم كما اضطرهم إلى استقدام جمال باشا وتنحيته عن العمل في بلاد الشام، فعاد إلى عاصمة الترك يجر أذيال الخيبة والانكسار بعدما فشلت مساعيه، وخابت أماله في إنشاء عرش له في دمشق يتبواه ويورثه لأبنائه من بعده وعلى الباغي تدور الدوائر
هذا من ناحية واحدة، أما من الناحية الأُخرى فقد كان الاعتقاد سائداً بين العقلاء أن النصر في ختام الحرب سيكون للإنكليز وحلفائهم، فتدور الدائرة على الألمان وأنصارهم ومنهم الترك فتنقرض الدولة العثمانية، ويموت الرجل المريض، ويستولي بالتالي - الحلفاء على أراضي تلك الإمبراطورية الواسعة، وبلاد العرب من جملتها، وهكذا يقع العرب في أيدي الدول الغربية الكبرى؛ ولذلك كان لابد للحسين بصفته زعيم العرب الأكبر يومئذ من الاتصال بخصوم الترك والألمان، وعقد المواثيق معهم لإنقاذ دنيا العرب من أيدي الظلم والاستعباد، وإنشاء الدولة العربية الكبرى الموحدة، فتحل في الشرق مكان الدولة العثمانية المنقرضة، وتجدد مجد العرب الخالد، تبعث عزهم الطريف التالد، وتحيي دولتهم العظيمة
4 - العامل الديني
وأخيراً يجب إلا ننسى العامل الديني أيضاً، فقد كان الحسين، وهو صلب في دينه، شديد التمسك بأحكام الشريعة السمحاء، مغرقاً في المحافظة على التقاليد الإسلامية الحنيفة، يعتقد بكفر الاتحاديين الترك وخروجهم على الإسلام لإعمال بسطها بسطاً وافياً في المنشور الذي أذاعه على العالم الإسلامي يوم إعلان ثورة العرب، وقد تنتهي من هذه المقدمة السلبية إلى نتيجة إيجابية وهي فرض قتالهم على كل مسلم، والجهاد فيهم إنقاذاً للامة من شرورهم. وقد قام بهذا الواجب حين أعلن الثورة عليهم وقاتلهم قتالاً رهيباً. . .
تلك هي خلاصة العوامل التي عجلت في إعلان ثورة العرب الكبرى، ودفعت أميرهم (الحسين) إلى الصراع مع الترك وأنصارهم، والانضمام إلى البريطانيين وحلفائهم.
والباحث المدقق في هذه الثورة التي نشبت في الحجاز أولاً ثم امتدت إلى بلاد الشام وغيرها من أقطار العروبة يجد أنها تمتاز عن الثورات والحركات العربية القومية الأخرى، بكونها أول حركة استقلالية قام بها العرب مطالبين بالحرية والاستقلال، والانفصال عن الترك والإفلات من نير الدولة العثمانية الجائر لتأسيس ملك عربي مجيد، وتقلدوا السلاح لأجل ذلك. كما أنها كانت اعم ثوراتهم وأوسعها نطاقاً فقد اشترك فيها أبناء الحجاز، ومصر والشام والعراق واليمن ونجد والشمال الأفريقي فوقفوا جنباً إلى جنب يقاتلون الترك تحت راية العروبة الخفاقة، فأنقذوا الحجاز وحرروه من كل نفوذ أجنبي، ثم واصلوا السير نحو الشام فاستولوا على جنوب القطر الشامي ثم اخترقوه وبلغوا أقصى حدوده الشمالية، ولو ساعدتهم الظروف لواصلوا التقدم إلى العراق، ولاستولوا عليه أيضاً. على أن ما فاتهم في عام 1918 أدركوه في سنة 1920 فقد انشئوا حينئذ حكومة عربية برئاسة أحد أبناء (الحسين) في تلك الربوع
فهذا الطابع الخاص الذي طبعت به ثورة (الحسين) جعل لها مقاماً ممتازاً في نفوس العرب على اختلاف أقطارهم، وتباعد ديارهم، وجعلهم يكبرون شانها، ويحتفلون بذكراها، يضاف إلى ذلك أنها أنقذت الكثيرين من رجال سوريا والعراق من موت محتم أو من شقاء دائم، فقد كانت الخطة التي سار عليها الاتحاديون الترك في ذلك العهد المظلم تقضي بنفي الأسر العربية الكبرى إلى أقاصي الأناضول لتتريكها وإفنائها، واحتلال الأرمن محلها فيصبح الناس في الشام بلا سراة، كما أنها اضطرت الترك لإطلاق سراح كثيرين من الذين كانوا معتقلين في غياهب السجون، وكانوا ينتظرون صدور الأمر بإعدامهم من آن لآخر شان إخوانهم الشهداء الذين سبقوهم.
وسيقدر العرب الأبرار - كلما طال بهم الزمن وامتد - ثورة أجدادهم هذه حق قدرها ويكبرونها ويجلونها ويدركون أنها من أنبل الثورات وأشرفها، وإن الدعايات التي بثها الترك والألمان ضدها في أبان الحرب الماضية لتشويه سمعتها، ما كانت سوى أضاليل اقتضتها مصلحتهم السياسية؛ ورغم النقائص التي اقترنت بها أسدت للعرب يداً كبرى، وفتحت لهم باب الحياة القومية، وعلمتهم كيف يثورون على الظلم والاستبداد، ويقاتلون الظلام والمستبدين، وكيف يطلبون الثار والانتقام لأحرارهم وزعمائهم ومفكريهم الذين غدر بهم الترك، وسقوهم كاس الردى لأنهم نشروا (الفكرة القومية) المقدسة ودعوا إليها. أما كيف أعلنت الثورة، وأين كانت ميادين الصراع، فهذا سيكون موضوع حديثنا المقبل، فإلى اللقاء.
(دمشق)
نسيب سعيد المحامي