مجلة الرسالة/العدد 493/الشعب الحبشي
→ في الأدب المقارن | مجلة الرسالة - العدد 493 الشعب الحبشي [[مؤلف:|]] |
أطوار الوحدة العربية ← |
بتاريخ: 14 - 12 - 1942 |
للدكتور فؤاد حسنين
إذا تحدثت لقراء الرسالة عن الحبشة فإنما أتحدث عن بلاد تربطها بالشعوب العربية روابط عديدة اذكر منها على سبيل المثال إلى جانب الجنس واللغة، الدين والجوار. الشعب الحبشي في مجموعه سامي حامي، ولفظ حبشة إن دل على شيء، فإنما يدل على تلك القبائل التي استوطنت بلاد العرب الجنوبية ولعبت دوراً هاماً في التاريخ المعيني السبائي. والتاريخ يحدثنا أن هذه القبائل، اعني قبائل حبشة، هاجرت من بلاد العرب الجنوبية حوالي القرن العاشر قبل الميلاد واستوطنت الجزء الشمالي من بلاد الحبشة فأطلق على ذلك الجزء اسمها. ومن ثم عمم العرب هذه التسمية فأطلقوها على هذه البلاد الواقعة بين خطي عرض 4 و15 شمال خط الاستواء. فسكان البلاد الذين أطلق اسمهم على تلك البلاد عرب وعرب خلص نزحوا من بلاد معين وسبأ في عصر كان يطلق فيه بحق على بلاد اليمن بلاد العرب السعيدة حيث المدنية زاهرة والحضارة زاخرة. نزحت تلك القبائل إلى القارة السوداء فحملت معها كثيراً من معالم الحضارة العربية الجنوبية من دين وكتابة وعلم وأدب، فغزت العقول كما غزت البلاد، وأقامت هناك الدعائم الأولى للحضارة الأثيوبية وأزالت العقبات التي كانت تعترض تقدم العقل الإفريقي ومهدت للديانات السامية السماوية كاليهودية والمسيحية والإسلام بفتح تلك البلاد وتثبيت إقدامها. نزلت قبائل الحبشة ذلك الصقع الإفريقي فوجدت فيه عنصراً إفريقياً وأخر حامياً انفصل عن أرومته السامية الأصلية فامتزجت بهما وتكون من هذا المزيج الشعب الحبشي الحالي، فهو إذاً شعب مركب من عنصر إفريقي قديم، وأخر حامي أو كوشي، وثالث سامي. فنحن نرى من هذا أن سكان البلاد ينتمون إلى جنس هو جنسنا، ولسانهم، قديمه وحديثه، ينتمي إلى الأسرة السامية الحامية التي تضم كثيراً من اللغات كالعربية والمصرية القديمة. وقد عرضت لإثبات هذه العلاقة بين الأحباش والساميين أسطورة حبشية قديمة تتصل عناصرها بقصة من قصص الكتاب المقدس والقران الكريم اعني قصة ملكة سبأ وسليمان. فالأسطورة الحبشية ككثير من الأساطير تتحدث عن تنين عظيم كان يحكم البلاد قروناً عديدة وكان على جانب عظيم من البشاعة والشراهة إذ كان يفترس يومياً ما لا يقل عن عشرة بقرات ومثلها من الثيران وألف رأس من المعز ومائة من الضان وكثيراً من طيور السماء إلى جانب ما يقدم له من العذارى، فضاق السكان به ذرعاً فلجئوا إلى شخص اشتهر بالقوة يسمى (انجابو) وفاوضوه في أن يقتل التنين ويتولى هو الملك عليهم، فقبل (انجابو) وقتل التنين وتولى الملك وانجب ابنة تسمى (ماكدا) وهي التي تعرف في التاريخ باسم ملكة سبأ ودخلت ملكة سبأ في حرم سليمان، وفي طريقها إلى بلادها وضعت غلاماً أسمته (ابن حكيم) أو ابن سليمان، وهو المعروف في التاريخ الحبشي باسم (منليك الأول) مؤسس الأسرة السليمانية التي جلست على عرش الحبشة من (950 ق. م إلى 1855 م.). فمن هذه الأسطورة تعرف العلاقة بين الفرعين الساميين من ناحية، ونفهم الحكمة في أن نجاشي الحبشة يعتبر نفسه أسد سبط يهوذا الذي رمز إليه في العلم الحبشي بأسد متوج شاهراً بيمينه صولجان القوة والجبروت.
وكما أن بلاد الحبشة هي الملتقى لهذه العناصر السامية الحامية، فهي الأرض التي نجد من بين سكانها الوثنيين واليهوديين والمسيحيين والمسلمين. فالوثنيين يدينون بوثنية تحمل إلى جانب طابعها الأفريقي طابعاً أسيوياً يمنياً، فإلى اليوم ما زلنا نقرأ في الكتب الحبشية والآثار الأدبية كثيراً من الألفاظ الوثنية القديمة مثل (محرم) اله الحرب، و (عستر) اله السماء، و (مدر) اله الأرض، و (بحر) اله البحر. والى اليوم أيضاً ما زال أصحاب هذه الديانة يلعبون دوراً هاماً في التنافس القائم بين المسيحية والاسلام، فمن بين العشرة ملايين نسمة التي يتكون منها الشعب الحبشي نجد نحو ثلاثة ملايين يدينون بالمسيحية التي ادخلها المبشرون البلاد في القرن الرابع الميلادي، وأصبحت دين الأسرة الحاكمة الرسمي عام 350 م عندما اعتنقها الملك (عزانا). أما البقية الباقية من السكان فكثرتها تدين بالإسلام ولا يقل معتنقوه عن خمسة ملايين نسمة. ومن الجدير بالذكر هنا أن قبائل كثيرة مسيحية ووثنية أخذت تسارع إلى الدخول في الإسلام في السنوات الأخيرة حتى أزعج ذلك كثيراً من الدول الأوربية فسارعت إلى مكافحته والوقوف في وجهه. وهذا التنافس بين الإسلام والمسيحية ليس حديث عهد في الحبشة. فالتاريخ الحبشي نفسه يحدثنا أن تاريخ المسيحية هناك عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من الكفاح لتثبيت قدمها ومقاومة انتشار الإسلام. ولعل أهم عصر يتجلى لنا فيه هذا الصراع الديني هو الزمن الممتد ما بين عامي 1541 و1543؛ ففي ذلك الوقت ظهر قائد حبشي مسلم يسمى أحمد بن إبراهيم، اشتهر ببسالته ومهارته الحربية، فبعد أن كان جندياً بسيطاً اصبح أميراً على هرر. وفي عام 1527 هاجم بقية الولايات الحبشية واستولى عليها وأخضعها لسلطان المسلمين، وهرب الملك المسيحي (لبنا دنجل) واعتصم بالجبال، ولولا أنه استعان بالبرتغاليين الذين خفوا لمساعدته ما استطاعت المسيحية أن تعود ثانية إلى الحبشة. لكن هذا النفوذ الأوربي الذي استعانت به المسيحية في ذلك العصر عاد على الحبشة بأوخم العواقب؛ فمنذ النصف الثاني من القرن السادس عشر أخذت تعنى بعض الدول الأوربية بالحبشة وظهرت في عالم السياسة المسالة الحبشية التي كانت سبباً قوياً من أسباب انقسام أوربا إلى معسكرين عظيمين لن يحل السلام بلادهما إلا بعد أن تتقوض انظمة، ويعم الخراب، ويكثر الدمار. وبيان ذلك الاهتمام بالمسالة الحبشية أن أوربا منذ ذلك الحين أخذت تبعث الجمعيات التبشيرية إلى جانب بعض الرحالة والعلماء. وفي القرن السابع عشر اخذ المستشرقون الألمان يعنون بتاريخ الحبشة ولغتها. وفي القرن الثامن عشر نجد الرحالة والمستشرق الإنجليزي (بروس) يدخل الحبشة عن طريق مصر مكتشفاً منابع النيل. وفي عام 1855 نجد أحد قطاع الطريق من الأحباش الذي كان راهباً هرب من الدير يشن الغارات على سائر الأمراء وينتزع السلطان من أيديهم ويكلف (أبونا) أن يتوجه (نجوس نجست ذَ إيتيوبيا) أي ملك ملوك إيتيوبيا وتسمى باسم (تيودور الثاني) واخذ يقوم بإصلاحات داخلية كبيرة، فألغى الرق وحرم تعدد الزوجات وضم إليه إقليم (شوا) واصبح ذلك الملك الذي كان في صباه فقيراً مشرداً والذي كان يسمى (كسا) والذي كانت أمه تبيع في أسواق (جندار) غنياً قوياً وحد الحبشة واخذ يخلق من شعبه أمة قوية مهيبة الجانب، فاصطدم ببعض الأجانب المقيمين في بلاده، فأرسلت إنجلترا عام 1867 اللورد (نابيير) على رأس حملة تأديبية للحبشة استولت بدون كبير عناء على حصن (مجدلا)، ولما أيقن الملك بالهزيمة انتحر، فكان موته سبباً في تفكك الوحدة الحبشية أيام خلفه الملك (يوحنا الرابع) الذي توجه الإنجليز عام 1872. وفي أيامه قام ابن والي إقليم (شوا) وطالب بإعادة إقليمه إليه فمنحه واصبح ملكاً عليه وتسمى باسم (منليك)، ومن حسن حظه أن يوحنا قتل في حربه مع الدراويش عام 1889 فأعلن (منليك) نفسه ملك ملوك واخذ يعمل جهده لجمع صفوف أفراد شعبه فهاجمته إيطاليا فهزمها شر هزيمة في موقعة عدوة عام 1896. وقد كان منليك هذا محبوباً من شعبه، حتى أنه يقسم به إلى اليوم، كما تم في أيامه الخط الحديدي من جيبوتي إلى اديس ابابا. وفي عام 1908 مرض مرضاً أقعده عن القيام بمهام الحكم، فتنازل عن الملك لامرأته (تيتو) وتوفي هو في 12 ديسمبر عام 1913، وتولى الملك بعد وفاته حفيدة (ليدو يسوع) وكان يميل إلى الإسلام فلما ظهرت ميوله إلى الإسلام والمسلمين اجتمعت عليه عوامل مختلفة خارجية وداخلية وخلعته وزجت به في السجن عام 1917، وتولت بعده الأميرة (زوديتو) ابنة (منليك) والى جانبها الرأس (تفاري) ابن عم (ليدو يسوع) حاكما على البلاد، وبقيت السلطة في يد (زوديتو) حتى 7 أكتوبر 1928 إذ نودي بالراس (تفاري) ملكاً فقط. وبعد وفاة القيصرة عام 1930 اصبح ملك ملوك في 2 نوفمبر 1930 ولقب بلقب (هيلا سلاسي) أي قوة الثالوث. وما كاد يجمع عزيمته للعمل على رفع مستوى شعبه علمياً وأدبياً وعسكرياً حتى انقضت عليه إيطاليا الفاشستية واغتصبت منه عرشه. لكن هذا النصر الإيطالي لم يكن في الحقيقة إلا انتصار الحديد ووسائل القتال الحديثة التي لم تكن متوفرة عند الحبش على الشجاعة والبطولة والإيمان بالقول المأثور (النصر مكتوب لأسد سبط يهوذا) الذي تحقق أخيراً بفضل تعاون الأسدين اليهوذي والسكسوني.
فؤاد حسنين
مدرس بكلية الآداب - جامعة فؤاد الأول