مجلة الرسالة/العدد 476/أوهام تخلق متاعب
→ الصدق في الأدب | مجلة الرسالة - العدد 476 أوهام تخلق متاعب [[مؤلف:|]] |
سيكولوجية إدلر ← |
بتاريخ: 17 - 08 - 1942 |
للدكتور زكي مبارك
في صدر هذه الليلة عانيتُ متاعب كادت تقصهم ظهري، وكدت أخشاها على حياتي، ثم لطف الله فتبددت بعد ساعات كانت أطول من الآبادَ
فما تلك المتاعب؟
هي متاعب خلقتها أوهام في غاية من السخف، ولكن النص عليها واجب لمنفعة القراء، فقد يكون فيهم من تعتريه مثل تلك الأوهام في بعض الأحوال
التفتّ بغتةً فرأيت نفسي تراجع طوائف من الذكريات الموصولة بمعاملاتي مع جماعات من المعارف والأصدقاء، فانقبض صدري أشد الانقباض، وتجسمت أمام خيالي ألوان الأوهام بصورة لم أشهد مثلها من قبل، صورة مروَّعة قاسيتُ منها ما تقاسي النار من الريح العَصُوف
وفي فورة تلك الكروب جاء لطف الله فرأيتني أقول: ومَن أولئك وهؤلاء حتى أعاني في العتب عليهم مثل هذا العذاب؟ إذا غدر بك القريب فليس بقريب، وإذا تجنى عليك الصديق فليس بصديق، ومن واجبك أن تحفر قبراً تدفن فيه من لا يرعى حق القرابة، ولا يحفظ عهد الإخاء. ما اهتمامُك بمن يرضيهم أن تَشقَى نفسك؟ وما عتبُك على من يسرهم أن تزلّ قدمك؟ وما حزنُك على ضياع مودّة كان يجب أن تضيع لأنها في رعاية الضائعين؟! أمن أجل خلائق مِراض القلوب تُمرض نفسك؟ أمن أجل إخوانٍ غَدَرة تؤذي قلبك؟ أهؤلاء وأولئك يستحقون أن تفكر فيهم ساعةً من ليل؟ وهل أكرموا أنفسهم حتى يكرموك؟ وهل أعزوا حياتهم حتى يُعزوك؟ إن حزنك لما صنعوا معك دليلٌ على أنك دائم الإشفاق عليهم، وقد نصحك الشاعر صادق رستم حين قال:
شرُّ البليَّة إشفاقٌ على فئةٍ ... لو كنت تؤكل ما عفُّوا ولا شبعوا
تبيتُ تبكي لَصرف الدهر يفجعهم ... ولو رأوك على الأعناق ما دمعوا؟
لا تشفق عليهم، وأشفق على نفسك أيها الغافل عن حقائق الخلائق؛ فلو أنك استبقيت ما أنفقت من الوقت في صحبتهم لتنفقه في تربية الخنازير، لكنتَ اليوم من كبار الأغنياء. . . وقد نصحك المثل المصري فما انتصحت، المَثل الذي يقول: (كلُّ ما تزرع ينفعك، إلا أبن آدم تزرعه فيقلعك)! وهؤلاء يحققون صدق هذا المثل أفظع تحقيق، فهم يقوّلونك ما لم تقل، ويذيعون عنك أغرب الأحاديث، وقولهم فيك مسموع، لأنهم عرفوك، ومن حق من عرفك أن يقول فيك ما يشاء
وما ضرَّني إلا الذين عرفتُهم ... جَزى الله خيراً كلَّ من لست أعرفُ
ما جزعك من غدر صديق؟ وما حزنُك من لؤم أليف؟ أنتَ أنتَ، ولن يكون بلاؤك بأولئك وهؤلاء غير سحابة صيف، ثم ترجع إلى إسباغ نعمائك على الجاحدين
تذكر يا غافل فضل الله عليك. تذكر أنه عصمك من الجحود حين أغناك عن الناس، والجحود رذيلة لا يتعرض لها غير المبتَلَيْن بتقبل إفضال المفضلين من أهل الكرم المطبوع أو المصنوع
أنت تتحدث كثيراً عن التأدب بأدب الله، فهل تأدبت بذلك الأدب الجميل؟
إن الله يسبغ نِعمه على الكافرين بعزته السامية. إن الله يعطي الملحدين أضعاف ما يعطي المؤمنين، كما يفعل الأب الرحيم حين يؤثِر الابن السقيم على الابن السليم، فما أنت وذلك الأدب الرفيع؟
وأراك تبدي وتعيد في أحاديث البر بأصدقائك، ولو ناقشوك لأفحموك، فما قبِلوا برِك إلا حين اطمأنوا إلى أنك رجلٌ كريم، والكريم غير منَّان
وما الوقت الذي تقول إنك أغدقته على الجاحدين من إخوانك؟ لقد دفعوا ثمن المعروف أضعافاً مضاعفة، لو كنت تنصف، دفعوه تحيات وابتسامات، وهي معان تفوق كرائم الأثمان، ودفعوا ما هو أعظم، لو كنت تعقل، فقد أشعروك بلسان المقال أو لسان الحال أنك رجلٌ نفَّاع، وذلك أعظم ما يوصف به أكابر الرجال
أنت تمن على أصدقائك؟ فماذا أبقيت للمتجرين بالأخلاق؟!
كان الظن أن تنسى جميلك إن كنت من أصحاب الجميل، ولكنك. . .
وهنا أفقتُ قليلاً فسألت نفسي عن سبب التفوه بذلك المن السخيف:
ماذا أكلت اليوم من الطعام؟ ومن لقيت من الناس؟
يجب أن أعرف ما وقع في يومي هذا، لأعرف سبب السخف الذي وقعت فيه حين مننت على معارفي وأصدقائي في عصرية اليوم - وهو الخامس من شهر آب - كنت أهنئ فلانة بعيد ميلادها السعيد، وفي لحظة من لحظات الصفاء حدثتها أني ولدت في مثل هذا اليوم، فهتفت بحماسة مصحوبة بالحنان:
نعم، يا سيدتي، وثمرات الأعناب في شهر آب
ثم قُلقِلتْ نفسي قلقلة عنيفة حين تذكرت أني لا أحتفل بعيد ميلادي كما يحتفل أكثر الناس، وكيف يتيسر ذلك وأنا أخلَق في كل لحظة خلقاً جديداً، باعتبار ما يَرِدُ على عقلي وروحي من شتيت الآراء والأهواء؟
وسألتني عما أستظرف من هدية الميلاد فأبيت الإفصاح عما أريد، وإن كنت أشرت إلى أني معجب بدالية مسلم بن الوليد!
وغفلة فلانة عن مدلول هذه الإشارة لم تزعجني، لأنها قليلة المعرفة بقصائد صريع الغواني!
فما السبب الأصيل لاضطرابي وانزعاجي في هذا المساء؟
لعل السبب يرجع إلى أني قضيت صباحية اليوم بوزارة المعارف، وهي مملوءة بالمراوح، ولتفصيل ذلك أقول:
في مكاتب كبار الموظفين بوزارة المعارف مراوح كهربائية تدور من جانب إلى جانب، ليقلَّ خطرها فيما يقال، وأنا رجلٌ يؤذيه البرد الطبيعي أشد الإيذاء، فكيف يتحمل البرد الصناعي وهو ثقيلٌ ثقيل؟
أنا لا أخاف المراوح الثابتة، لأن تجنب تيارها مستطاع، وإنما أخاف المراوح الدوارة، المراوح التي تغزو الصدور والمفاصل برغم التحرز والاحتراس
وهذه المراوح كثيرة في وزارة المعارف، وأنا منها في شقاء وعناء، ولا سيما المروحة الجاثمة بمكتب تفتيش اللغة العربية، ومن أجل هذا أوصي زائري بمقابلتي في مكتب الأستاذ علي أدهم سكرتير الرجل النبيل شفيق بك غربال، لأنه مكتبٌ مضنونٌ عليه بالمراوح ليساير الطبيعة في أمان
وآه ثم آه من المراوح في وزارة المعارف! إنها تخلق تيارات عنيفة الإيذاء، وهي السبب في بلبلة بالي في هذا المساء
وأعجب العجب أن المراوح الدوّارة تحتل جميع المكاتب الحكومية، وكأنها النمائم المبذولة بغير حساب، فأين من يرجمنا من تلك الرياح الباغية؟ وأين من يعرف أن القيظ في أحر أحواله أروح من البرد؟
عرفتُ بالضبط والتحديد سبب اعتكاري في هذا المساء، فما عن لؤم أو حقد غمزت معارفي وأصدقائي، وإنما هي جناية المراوح بوزارة المعارف، وسيأتي يومٌ قريب أو بعيد تُرفَع فيه تلك الآصار الثقال
إن قوماً يعجبون من ثورتي على الناس والزمان، فهل يعرفون أن المراوح تلفح وجهي في كل مكان؟
لو صفا دهري لصفوت، ولو عدل زمني لعدلت، واختلال الموزون يُخلْ الميزان
بمن أثق؟ وعلى من أعتمد؟ وما اطمأننت إلى صديق إلا رأيته بعد حين أو أحيان وصولياً عديم الروح والوجدان
ومع هذا أصفح عن أبناء زماني، لأنهم أبناء الزمان
ومع هذا أيضاً أبتسم حين يلقاني فلان وعلان
فضحتكم يا جماعة المنافقين، فالتمسوا قلباً غير قلبي، وجيباً غير جيبي، وانتظروا غضب الله على جميع المرائين
ثم ماذا؟
ثم أشير إلى غربتي في وطني بالفكر والروح، غربة قاسية لا ترحم ولا تلين، غربة أتوحُّد بها توحُّد الليث في العرين.
زكي مبارك