مجلة الرسالة/العدد 476/الصدق في الأدب
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 476 الصدق في الأدب [[مؤلف:|]] |
أوهام تخلق متاعب ← |
بتاريخ: 17 - 08 - 1942 |
الصدق هو جُمَّاع الصفات الجوهرية للأدب الصحيح. هو مطابقة الخير للواقع، ومجانسة الشيء للطبيعة، ومشابهة المثال للأصل، ومجاوبة العمل للعقيدة، وموافقة الأسلوب للقاعدة، ومناسبة الكلام للمقام، وملاءمة اللفظ للمعنى، ومواءمة الموضوع للكاتب. فلو ذهبت تتقصى أسباب ما تجد في العمل الأدبي من النقص أو الخطأ أو العبث أو الزيف أو الفساد أو التعمّل، لما وجدتها في غير الإخلال بالصدق في واحد أو أكثر من مدلولاته التي ذكرتُ. فالصفة التي لا تدل على شيء من حقيقة الموصوف، والكلمة التي لا تقع في وضعها من المعنى ولا في موضعها من الجملة، والصورة التي لا تتألف من خطوط الحاضر وألوان البيئة، والصناعة التي لا تقوم على أساس من الطبع والذوق، والحِلْية التي لا تساعد الأسلوب على التأثير والإبانة، والموضوع الذي لا يسفر عن جانب من الجمال أو الحق أو الخير، والكاتب الذي لا يقف عند ما يحسن من فنون القول؛ كل أولئك تزوير على الطبع، وافتئات على الفن، وتلفيق من الهراء لا يدخل في الأدب ولو دفعوه دفعاً في أوسع أبوابه
إذا حكَّمت الصدق في رأيك أمِنتَ التناقض؛ فلا يخالف ظاهرك باطنَك، ولا يعارض آخرك أولك. وإذا حكمتَ الصدق في أسلوبك أمنت الفضول؛ فلا تؤدي معنى بغير لفظه، ولا تضع لفظاً في غير موضعه. وإذا حكمت الصدق في نيتك أمنت النفاق؛ فلا تقول ما لا تعتقد، ولا تعتقد ما لا تؤمن بصحته. وإذا حكمت الصدق في كفايتك أمنت المجازفة؛ فلا تعالج ما لا تعلم، ولا تنقد ما لا تفهم، ولا تدَّعي ما لا تثبت. وإذا استحالت مراعاة الصدق في بعض فنون الأدب كالقَصص المتخَّيل، وجبتْ عليك مراعاة احتماله
على ذلك أسوق إليك إذا سمحت جملة من إحدى افتتاحيات الرسالة لأطبق عليها شرط الصدق في الشكل والموضوع والغرض. ولم أختر هذه الجملة لأنها من نوابغ الجمل، ولكنني اخترتها لغرض لا يشق عليك أن تلحظه فيما بعد
موضوع الجملة طفولة مجرم بالغريزة لم تفارقه نية الإجرام منذ درج إلى أن أكتهل. نشأ هذا الطفل في (قريتنا) وفي (حارتنا)، فأنا أصف حاله كما كان، وأقص أمره كما وقع. الحارة ساحة فسيحة تستدير عليها البيوت، فكأنها صحن دار كبيرة. والأطفال - وأنا منهم - يلعبون في بُهرتها شتى الألعاب في مرح وبهجة؛ فإذا طلع عليهم هذا الصبي الشرير من داره انقطع اللعب وخبّأ كل طفل لعبته ثم لا يلبث الشجار أن ينشب بينه وبين الأطفال بنين وبناتٍ بغير رفق؛ فالقوي يثبت له فيضربه، والضعيف يفر منه فيقذفه، والبنت ترتاع فلا تدفع عن لعبتها يده. والبيوت على الحارة مفتحة الأبواب لا يحرس أمتعتها غير الأمانة؛ ولكن المجرم الصغير ينتهز غفوة الأمانة في نفسه فيدخل هذه البيوت ليسرق حبلاً أو وتداً أو كرة صبي أو بيضة دجاجة. فلما أيفع دخل (صبياً) في خدمة (جدعان) القرية؛ وهم في الريف كالفتوات في المدن، دأبهم الشجار والسرقة والفجور. كان لهؤلاء الجدعان ليال مذكورة بالسطو واللهو؛ فكانوا إذا فرغوا من تدبير الجريمة وتنفيذها، أقاموا لزملائهم (وعملائهم) ولائم يكثر فيها اللحم والخمر والحشيش، ويقوم عليها أحداث المجرمين مقام الخدام والنُّدُل، كما يقومون في تدبير الجرائم مقام الطلائع والرُّسل. ولا أطيل عليك فقد صغَّرت هذه الصورة في هذه الجملة:
(نشأ من لِداته من أطفال القرية كما ينشأ الزنبور بين النحل أو الثعبان بين الحمام؛ فكان لا ينفك ضارباً هذا بعصا؛ أو قاذفاً ذاك بحجر، أو خاطفاً لعبة من بنت، أو سارقاً شيئاً من بيت! فلما جاوز حد الطفولة دخل في خدمة الفجًّار والمجَّان، فكان يخدم أولئك في تدبير الجرائم، ويخدم هؤلاء في إعداد الولائم. . .)
فأنت ترى هذه الجملة على إيجازها قد صورت نشأة هذا الطفل على الإجرام بالمعنى الذي لا تزيد فيه، وباللفظ الذي لا بد منه، وبالبيان الذي لا بأس به؛ وإذا سلمت الجملة الفنية من اللغو والخطأ والغثاثة سلم فيها عنصر الصدق وهو جوهر الأدب
ولكنك مع ذلك لا تعدم ناقداً يزعم أنه يضع (الميزان الجديد) للنقد في (الثقافة)، ثم يجازف باستخدام علمه بالأدب الغربي، في الحكم على أساليب الأدب العربي، فيعتسف الرأي اعتسافاً لا يتسع له فيه عذر. فهو ينكر منطق العقاد، ويظلم شعر علي طه، ويغمز أسلوب طه حسين، ويحكم على سائر الأساليب المعروفة بمجافاة (الموسيقى والإيحاء والطبيعية)
هذا الناقد الفاضل قد اختار الجملة التي اخترتها ليبرهن بها على كذب الأسلوب لا على صدقه! فهو يقول أن أسلوبها أشبه بأسلوب (المقامات) (كذا والله!) وأن القارئ يقرأها (فلا يتصور أن مثل هذا الرجل موجود) ودليله على ذلك أن وجوده لو كان ممكناً ما سألني القراء عن حقيقته. والواقع أن الذي سأل في الرسالة طالبٌ في المعهد الجنائي، وما كان سؤاله إلا عن مكان المجرم لا عن حقيقته. ثم يمضي الناقد على أن القطعة من الأدب المصنوع فيقول: (يا لله! ولم لا يخطف لعبة من ولد وهو مجرم كبير؟ (كذا!) ولم لا يسرق من جامع وذلك أيسر من السرقة من بيت؟ وهل هو حقيقة لم يخطف إلا من بنت؟ ولم لا يسرق إلا من بيت؟. . . وهو يخدم المجرمين بتدبير الجرائم، ولكن لم لا يخدم المجان بأعداد المقاصف؟ وهل الوليمة أشهى من المقصف؟) فالناقد لا يرى بأساً في أن نضع الولد بدل البنت، والجامع بدل البيت، والمقصف بدل الوليمة، لأننا في ظنه لم نقصد إلى معاني هذه الكلمات وإنما قصدنا إلى المزاوجة والسجع! هذا النقد أعوزَه الصدق فصدر عن هوَى أو جهل. وأي الآفتين كانت المصدر فإنها ورَّطت الرجل في نقد كلام لا يصدُق نقده إلا على افتراض الكذب فيه!!
أحمد حسن الزيات