مجلة الرسالة/العدد 476/سيكولوجية إدلر
→ أوهام تخلق متاعب | مجلة الرسالة - العدد 476 سيكولوجية إدلر [[مؤلف:|]] |
شعر علي بن أبي طالب ← |
بتاريخ: 17 - 08 - 1942 |
تلخيص وتبسيط
للأستاذ محمد أديب العامري
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
مجتمعنا اليوم في الشرق قلما يضع الفرد في موضعه المناسب في الحياة. ولذلك يلازم المرء شعور الوحشة مما يجده في نفسه من نقص ومما يجده في المجتمع من عدم إفساح الطريق له ليعوض بالبروز في ناحية منه شعوره بالنقص. وليس المجتمع في الغرب أحسن بكثير مما هو في الشرق؛ ولكن إدلر يرى أن المجتمع الراقي لا يتخلف عن إسداء كل فرد منه ما يستحقه بالنسبة لكفايته. وهذا يفسح المجال للمواهب. فإذا فحصنا عباقرة التاريخ وجدنا في كل واحد منهم نوعاً من النقص. فضعف البصر ضعف شائع في العظماء. وبعض العظماء والناس ضعفاً في معدهم وأمعائهم. وفي الأطفال والناس من يكون أيسر فلا يستطيع أن يستعمل يده اليمنى، ومنهم من يكون غبياً يتلعثم، ومنهم من يكون بالغ القصر الخ. . . كل هذه عوامل تولد الشعور بالنقص
فإذا أثر النقص في الإنسان تأثيراً شديداً تولد فيه (مركب النقص)، وظهرت لذلك بوادر كثيرة مختلفة. فبعض الناس تراهم في حركة دائمة، فإذا مشوا ضربوا الأرض بأرجلهم، وإذا تحدثوا رفعوا أصواتهم ليسمعهم الناس، ولهم أمزجة حادة وانفجارات عاطفية فجائية. ومن الناس من يتناقض في آرائه وأعماله، ومنهم من يتردد تردداً عظيماً، فلا يستطيع أن يحزم في أمر. كل ذلك من علائم المرء وقد أصيب بشعور بالنقص. ومما يدل على شعور النقص في إنسان، الوقوف المعتدل المتوتر الذي يدفع المرء فيه برأسه إلى الأعلى على شكل ملحوظ، أو طأطأة الرأس إلى الأرض أثناء المشي، أو الاعتماد المستمر على الطاولة أو الجدار أو العصا حين الوقوف. والطفل الذي يحب الاستناد إلى أمه أو يخاف من مواجهة الناس فيظل متهيباً منفرداً طفل يحس بالنقص. والرجل الذي يتجافى عن المجتمع ويتحاشاه إنما يفعل ذلك في الغالب لأنه يتملكه شعور بالنقص. والخوف صفة من هذا القبيل كذلك. وهنالك نوع من الجرأة لا يختلف عن الخوف، فالإنسان أحياناً يتملكه ته فجائي نادر يدفعه إلى الهلاك
ويرى إدلر أن الخوف والشجاعة مرتبطان بالإيمان بالقضاء والقدر. وهو يقول: (أن الإيمان بالقضاء والقدر مخرج يخلص به الإنسان من الجهاد والبناء المفيد في الحياة. إن هذا الإيمان دائماً دعامة واهية يستند إليها الإنسان)
والغيرة باعتدال صفة عادية معروفة، ولكنها إذا اشتدت كانت من علامات الشعور بالنقص. أما الحسد فدليل مركب نقص شديد عميق. ويوافق علم النفس الفردي على أن (الحسود لا يسود) وأنه لا يمكن أن يكون الحسد مفيداً على أي شكل من الأشكال.
التحليل النفسي
تصبح بذلك طريقة التحليل النفسي عند إدلر واضحة. إن هذه الطريقة تعتمد على فهم الشخصية الإنسانية المحللة، وترمي بشكل خاص إلى النفاذ إلى هدف هذه الشخصية في الحياة، وعلى أساس من ذلك يوصف العلاج النفسي. وللوصول إلى هذا يجب أن يفهم (طراز الحياة للإنسان المحلل. وأن تدرس التذكارات القديمة، والأحلام التي يحلمها. (وطراز الحياة) هذا هو الشكل الذي تكون شخصية المرء قد استوت عليه بعد نموها خلال السنوات الأولى. ويمكن أن يفهم هذا الطراز من دراسة أوضاع الإنسان وخاصة في حالاته غير الطبيعية؛ فالإنسان السوي هو الإنسان الذي يستفيد المجتمع منه، والذي يكون له من الإقدام والجهود ما يتقوى به على مشكلات الحياة. إن الرجل الذي ينحرف عن هذا لا يكون سوياً، ويمكن مراقبته ومعرفة دائه، ومن ثم معرفة طريقة إصلاحه
ويروي إدلر حكاية رجل كان من صفاته أنه خجول شديد الشك في أصدقائه. فمثل هذا الرجل لا يمكن بشكه أن يكون ذا أصدقاء، ولا يمكن لشدة خجله أن يخالط الناس. ثم إنه كان شديد الخوف من الفشل في عمله؛ فحمله ذلك على شدة العمل حتى أنهك نفسه. ويعتبر هذا الرجل فاشلاً في علاقاته الاجتماعية كما يعتبر فاشلاً في عمله. إنه يحس إحساساً عميقاً بالضعف. وقد لوحظ أنه في مشكلة الحياة الثالثة - الحب - كان شديد التردد. فإنه كان يتنقل في حبه من فتاة إلى أخرى، ثم لم يتزوج قط. وكان هذا الرجل بكر أبويه. وبكر أبويه في نظر إدلر يتعرض في الغالب للحرمان كله أو بعضه من جراء العناية بالطفل الثاني التي يشاهدها البكر. وهذا الحرمان يولد في نفسه الشعور بالنقص. ومثل هذا الرجل إذا أردت أن تمكنه من أن يتغلب على شعوره بالنقص وجب أولاً أن توضح له أنه يقدر نفسه دون ما تستحق، كما يجب أن توضح له تزمته في ملاقاة الناس ووجه خطئه في تخوفه من أن يفضل عليه أحد من الناس
وأما عن ذكريات الإنسان القديمة، فإن المرء يتذكر ما له أهمية في نفسه. ولا عبرة بأن تدل ذكريات الإنسان على نموذجه الأول الذي تقدم ذكره)، لأنها تشير إلى ما وقع من أمر هام، وإلى ما يقع على أمثاله، لأن شخصية الإنسان الأساسية لا تتغير. ويصلح هذا الموضوع للمقارنة بما اكتشف عن الإنسان بوسائط أخرى. وللحصول على الذكريات القديمة يطلب إلى الإنسان أن يرتد بذاكرته إلى حداثته وأن يتذكر من حداثته وأن يتذكر من ذلك ما يتذكره
وقد يجد المحلل صعوبة في هذا، لأن المريض قد يقول إنه لا يذكر شيئاً. ولكن الإلحاح عليه يثمر دائماً ثمرة طبية، فيذكر المريض شيئاً. إن ما يذكره الآن له أهمية لأنه يدل على وصفه الأول - الحالة التي نشأ عليها. والذاكرون من الناس يذكرون أشياء كثيرة مختلفة بالطبع، ولكن براعة المحلل تردها إلى أصول محدودة
فبعض الناس مثلاً يقول إنه يذكر أنه سمع صوت قاطرة، وبعضهم يذكر أنه أكل أكلة لذيذة، وبعضهم يذكر أشياء تتعلق بأمه وأبيه، وبعضهم يذكر حالات مرضية أصابته، وبعضهم يذكر شيئاً يتعلق بملابسه أو أنه خرب أو حرم. . . الخ فوظيفة المحلل هنا أن يرد هذه الأشياء إلى أصولها، ليجد منها شخصية المرء الأولية وليربط ذلك بشخصيته الحاضرة على اعتبار أن شخصية الإنسان لا يتغير بتقدم السن
يذكر الإنسان مثلاً من قديم ذكرياته أن أمه ضربته وعنفته حتى فر منها هارباً، وضل الطريق حتى خاف على نفسه الموت. فمثل هذه الذكرى تشير إلى عامل قوي من عوامل التخوف، لا بد وأن يكون قد دخل في تكوين شخصية الإنسان، وهذه الحالة تقرب من الواقعية، فإن صاحبها حين دخل الجامعة ليتعلم ظل خائفاً من الرسوب في الامتحانات الجامعية بالرغم من ذكائه. فلما تخرج قتل نفسه اجتهاداً في الحياة لئلا يفشل فيها، فهو يلعب في حياته من حيث الأساس دور الرجل الخائف، وهذا هو شعور النقص الأساسي في نفسه ونموذج الحياة الأول للإنسان يظهر منه شيء في الأحلام، فالحلم عند إدلر لا يخرج عن كونه قسماً من طراز الحياة. والنموذج الأول دائماً منطو فيه. ومن هنا كانت معرفتك لإنسان مؤدية إلى معرفة نوع أحلامه، ومعظم أحلام الناس أحلام خوف، لأن النوع البشري جبان. ويحلم المرء أحلاماً مخيفة، لأنه في يقظة، دائماً يتوجس من الفشل، ويحاول أن يتخلص من الحياة بالهرب من مشاكلها. هو يبحث عما يجنبه متاعبها، هذا هدفه، والحلم يؤيد له هذا الهدف، ولا فاصل عند إدلر بين النوم واليقظة، فإن طرف أحدهما منساب في طرف الآخر، فنحن في النوم نسمع ونفكر ونحس احساسات عامة، وتستهدف أحلامنا - على العموم - هدفاً من العظمة يخلصنا مما نحس به من شعور بالنقص، ولكن في الأحلام نوعاً من التشويش أو الغش والتمويه على النفس؛ ولذلك فالذين يفكرون تفكيراً منطقياً ويواجهون حقائق الحياة لا يحلمون إلا قليلاً، أو لا يحلمون قط. إن المرء يضع أحلامه، فأحلامه تتجه في محتوياتها إلى ما يتجه هو إليه في الحياة، ومن أحلامه يتضح لك شيء من هدفه فيها
فأنت تستطيع إذن بمختلف هذه الأساليب أن تتصل بمعرفة (النموذج الأول) الذي ينشأ عليه الإنسان و (طراز الحياة) الذي يتبعه. ونستطيع من ذلك أن نعرف النقطة المركزية التي يدور عليها شعوره بالنقص، والطريقة التي يحاول أن يعوض بها عن هذا النقص. وإن النقطة المركزية على كل حال نوع من النقص. وهذا الضعف نفسه يحمل المرء رجلاً، كما حمله طفلاً على التزام جانب المجتمع والشعور بحاجته إليه.
فطريق الإصلاح الأساسي لأي إنسان أصبح شعوره بالنقص مركباً أنه يؤثر في حياته فيدفع به إلى نواح غير مفيدة، هو تعديل مركز الفرد في المجتمع وتسويته. ومرة أخرى يتلخص هذا التعديل في تحسين موقف المرء من الناس ومن مهنته ومن مسألة زواجه
ولا أقصد أن أطيل أكثر مما قد فعلت؛ فالطريقة التي يمكن أن ينشأ بها طفل لكي يكون إنساناً سوياً هي أن يعامل بعدل واحترام. ولكن الشاب الذي يتم تكوين طراز حياته على صورة معوجة يجب أن يدرس وأن تعرف مزاياه وأن يوجه نظرة إليها. فإدلر يعتقد أن (كل إنسان يصلح لكل شيء). فإذا فتحت للشاب آفاق جديدة وسوعد في التغلب على ضعفه، اندفع في الحياة من جديد. وقد عولجت عملياً حالات كثيرين من المرضى العصبيين ومن حالات قريبة من الجنون على هذا الأساس فنجحت طريقة العلاج
أما في ناحية المهنة فيحذر إدلر من الاستعلاء الذي يجده كل شاب في نفسه حين يعمل مع غيره. هذا الاستعلاء يحمله على الفوضى وعدم الطاعة للرؤساء. وليس من السهل إيجاد عمل لمبتدئ لا يرأسه فيه أحد. فإذا لم يعرف كيف يتلقى الأمر من رئيس له لم يقدر على التقدم. وإذا لم يحسن التصرف مع الناس على اعتبار أنه رجل اجتماعي فلا سبيل إلى نجاحه ولا يعني إدلر فيما اطلعت عليه من كتاباته إلى اليوم، بمظالم عميقة تقترفها البشرية في حق نفسها ولا تفيد فيها نصائحه، ولكنا نغض النظر عن ذلك الآن
وحل مشكلة الحب عند إدلر يدخلنا في بحث يختلف عما تثيره حياتنا الاجتماعية في الشرق من مشكلات في هذا السبيل. ولكن مما لا ريب فيه أن الرجل المصاب بداء الشعور بالنقص قد يحجم عن الزواج خوفاً من تبعات الحياة الجديدة. وضعف الإنسان عامة عن مواجهة إنسان من الجنس الآخر ينتج عن إحساس بالنقص يحمل صاحبه على التردد والحياء
(السلط)
محمد أديب العامري