مجلة الرسالة/العدد 469/على هامش النقد
→ شعر علي بن أبي طالب | مجلة الرسالة - العدد 469 على هامش النقد [[مؤلف:|]] |
مطالعات في الأدب الغربي ← |
بتاريخ: 29 - 06 - 1942 |
كتب وشخصيات
للأستاذ سيد قطب
1 - (عبقرية محمد) للعقاد
العقاد رجل متعب بالقياس إلى النقاد وبخاصة في كتاب (عبقرية محمد)، فالناقد لا يحس بلذة عمله إلا حين يجد مجالاً لمشاركة المؤلف في عملية الإنشاء والخلق. حين يجد مجالاً لمناقشة الفكرة، والزيادة عليها في بعض الأحيان، أو التعرض لها من زاوية غير التي تعرض لها المؤلف. . . وبالإجمال حين يجد له عملاً آخر بجانب المؤلف غير مجرد الاستعراض
والعقاد - وبخاصة في كتابه الأخير - يحرم الناقد هذه اللذة، ويكاد يقعده عن الكتابة. . . وما جدوى أن يكتب الناقد ليقول: (هذا جيد. . . وهذا جيد كذلك. . . وهذا كذلك جيداً أيضاً!) حتى ينتهي من صفحات الكتاب وفصوله، وهو يكرر جملة واحدة أو ما في معناها؟ إنها إذن تحية وليست نقداً كما يشاء النقاد!
الرجل موهوب - هذا ما لا شك فيه - ثم هو لا يقنع بهذه الهبة الضخمة - كما يقنع مع الأسف كثير من شبابنا المتطلعين إلى الشهرة في هذه الأيام لمجرد إحساسهم بنوع من الهبة الطبيعية - إنما هو كذلك قارئ عظيم، وقارئ يعرف كيف يقرأ وكيف يفيد من هذه القراءة؛ قارئ يحس أن القراءة وظيفة له في هذه الحياة، لا يجوز أن تعوقه عنها وظيفة أخرى، حتى وظائف كسب العيش، ووظائف الخدمة العامة
ومن الموهبة الضخمة والقراءة الكثيرة، كان هذا الذي يلاقيه الناقد من العنت والتعب حين يتعرض لأدب العقاد ولنثره خاصة، فشعره لإجماله ولأنه تعبير عن النفس الإنسانية، فيه مجال للشرح والتحليل واستخلاص ملامح النفس من خلاله، وفي هذا كله إرضاء لشعور الناقد، وإشعار له بأنه يعمل شيئاً بجوار الشاعر!
جالت في نفسي هذه الخواطر وأنا أقرأ كتاب (عبقرية محمد) للمرة الثالثة، عسى أن أجد ما أقوله غير (هذا جيد، وذاك جيد؛ وذلك كذلك جيد. . .) ثم عدت لأرى أن الاستعراض أس طريق.
ما موضع هذا الكتاب في مكتبة (محمد) وما وظيفته التي يؤديها ولا تؤديها المؤلفات الكثيرة والأخبار المروية، عنه عليه السلام؟
موضع هذا الكتاب أنه خلاصة لهذه المكتبة ولكنها خلاصة (مكيَّفة) تكاد أن تكون شيئاً آخر غير ما استخلصت منه (خلاصة ماهر) والعقاد يقول في أحد أبياته:
ليست خلاصة كل شيء غنية ... عنه وإن كانت خلاصة ماهر
ولكنها في هذه المرة خلاصة تغنى من يريد أن يعرف من هو محمد على وجه التحقيق، لأن فيها من التعليقات والتوضيحات والتحليلات ما يجعلها غنية وافية كل الوفاء، وليس بالقليل أن تستعيض من مكتبته كتاباً
ووظيفته التي يؤديها وينفرد في أدائها، أن كل من عرف (محمداً) من قبل في جميع الروايات والسير والأسانيد والشروح وكل من لم يعرفه كذلك، كلاهما في حاجة أن يعرف (محمداً) مرة أخرى في هذا الكتاب! وأن يرى صورته في هذه المرآة الوضيئة، وإنه لواجد حتماً في الصورة عامة، وفي كثير من جزئياتها جديداً لم يره من قبل في أية مرآة. . . وسينظر ويتأمل ثم يقول المرة بعد المرة: ويْ. . . إن هذا القسم من الصورة لم يكن هكذا في ضميري؛ أو يقول: نعم. . . كنت أعرف ذلك ولكن ليس على هذا النحو الذي أره الآن!!
ومع هذا وذلك، فليس في (عبقرية محمد) خبر غير مروي من قبل، ولا حادثة لم تكن كذلك معروفة، ولا جزئية واحدة لم يتعرض لها الرواة والمحدثون؛ وهذا ما يجعل البعض يقول لأول وهلة: كل ما في الكتاب معروف! وما قد يجعلهم يحسون بالسهولة واليسر في الجهد الذي بذله المؤلف!
والحقيقة أن هذا شعور خدَّاع، وأن عبقرية العقاد ونضوجه في هذه الأيام هما اللذان يهيئان ذلك؛ وإنها لعبقرية - لاشك - ونضوج أن تصنع من المادة الميسرة للجميع شيئاً لم يتيسر من قبل للجميع!
وإن العقاد لمحق حين يرى في مقدمة الكتاب أن الثلاثين عاماً التي مضت بين مولد هذه الفكرة في نفسه وبين تنفيذها، كانت لازمة لفسح نفسه، حتى تستطيع أن تستوعب انفساح (عبقرية محمد). . . وإن في الكتاب للفتات نفسية وفكرية لا تتيسر لكل إنسان، ولعلها لم تكن تتيسر للعقاد نفسه قبل هذا الزمان. . . وإنه ليقول:
(أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟
(إنها مسافات في عالم الفكر والروح، لو تمثلت مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار، وامتداد النظر بغير قرار)
والذين يعرفون طبيعة العقاد وانفساحها وتوفزها والتهامها لكل جديد، وتجددها حيناً بعد حين، وازدحامها بالخواطر عدد الثواني واللحظات، هم الذين يعرفون حقيقة هذه المسافات في عالم الفكر والروح، ويعرفون أنه يعني ما يقول حين يقول: (لو تمثلتْ مكاناً منظوراً، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار)!
قلت في التمهيد لهذه الكلمات: إن العقاد دارس شخصيات وإن كل إنسان يدرسه العقاد تستطيع أن تعرف (من هو) وإن لم يستوعب كل صفاته وكل ما وقع له في حياته؛ وهذا ما تجده في (عبقرية محمد) في نضج واستواء؛ وإنه ليبدأ بعد المقدمة مباشرة في ص 16 فيرسم بخطوط سريعة التصميم الأولى للصورة تحت عنوانات: (عالَم. أمة. قبيلة. بيت. أب. رجل). . . فتحس بعمل الريشة الماهرة المتيقظة لما تريد، العليمة بقواعد التصميم والتلوين؛ فإذا انتهى إلى ص 26 أحسست أن التصميم كله قد تهيأ على اللوحة، وأن صورة محمد وعصره ووظيفته في هذا العصر قد برزت من خلال هذه الخطوط السريعة، فلم يبق للريشة المدربة إلا التلوين، وملء الفجوات، وتوضيح القسمات، وذلك هو بقية فصول الكتاب!
وسنحاول أن نعرض هنا بعض لمسات هذه الريشة المدربة في تخطيط التصميم الأولى السريع:
يقول في ص 26 و27: (عالم يتطلع إلى نبي، وأمة تتطلع إلي نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي. . . ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقوماته، ولا يدانيه رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة: في المدينة، وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره
(نبيل عريق النسب، وليس بالوضيع الخامل فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب (فقير وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار
(يتيم بين رحماء، فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة الطموح وفضيلة العطف على الآخرين
(خبير بكل ما يختبره العربي من ضروب العيش في البادية والحاضرة: تربى في الصحراء وألف المدينة، ورعى القطعان واشتغل بالتجارة وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة ولم يبتعد من الفقراء
(فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية، وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه، فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا هو يغامسها كل المغامسة فيغرق في لجتها.
(اصلح رجل من أصلح بين في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة على غير علم من الدنيا التي ترقبها
(ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام. . .)
وذلك جانب من التصميم الأولي للصورة البارعة التي تأخذ هذه الريشة المدربة بعد ذلك في ملئها وتلوينها بما هو أبرع من هذه البراعة، وبما يتفق للألوان المنتقاة وللريشة الدقيقة في اليد البصيرة من الإبداع
وليس من المستطاع بطبيعة الحال أن أنقل هنا أكثر من هذه الفقرات، فهنالك أشياء أخرى لا بد أن تقال
قلت: إن كل الحوادث والأسانيد والروايات التي وردت في (عبقرية محمد) مروية معروفة وليس فيها من جديد. إنما الجديد هو عرضها واستخدامها واستخلاص النتائج منها. وهو اختيار الحادثة المناسبة في موضعها المناسب. ومن هذا كله تبدو الحوادث والروايات والنصوص في مواضعها وكأنها جديدة هناك، يطالعها القارئ لأول مرة، ويخطر له من معانيها في مواضعها هذه ما لم يخطر له قط وهو يراها من قبل مرة ومرة.
فسرية عبد الله بن جحش وأخبارها معروفة مكرورة ولكنها هناك تدل على (عبقرية محمد العسكرية) كأحسن ما تكون الدلالة بغير تعسف ولا عنت. وعهد الحديبية وأخباره معروفة كذلك مكرورة، ولكنها هناك تبرز بوضوح ويسر (عبقرية محمد السياسية) كأوضح ما تكون العبقرية السياسية بأي ميزان وزنتها به في جميع الأزمان. وقصة الإفك مذكورة في كل كتب السيرة والتفسير مشهورة عند المسلمين وغير المسلمين ولكنها هناك تصور (سماحة محمد) وتلمس النفس الإنسانية فتدرك حقيقة هذه السماحة ومداها الرفيع. وقصة المتاع وأزواج النبي التي ترويها الآية: (يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها. . . الخ) متداولة في السيرة والتفسير ولكنها هناك دليل نفسي وعقلي لا يرقى إليه الشك، ولا يجادل فيه إلا المكابرون على كذب ما افتراه المفترون من استغراق لذات الحس لمحمد عليه السلام
وهكذا وهكذا من حسن الاختيار ووضوح العرض، وبراعة التعليق، وعبقرية التحليل، ووضاحة التدليل.
(البقية في العدد القادم)
سيد قطب