الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 469/شعر علي بن أبي طالب

مجلة الرسالة/العدد 469/شعر علي بن أبي طالب

بتاريخ: 29 - 06 - 1942


للأستاذ السيد يعقوب بكر

هل كان شاعراً؟

لعلنا في حاجة قبل كل شيء إلى أن نصل إلى رأي في هذه المسألة: وهي هل كان علي شاعراً أم لم يكن؟ ذلك لأنه قد ثارت حول هذه المسألة مجادلات؛ فذهب قوم إلى أن علياً كان شاعراً، وذهب آخرون إلى أنه لم يكن كذلك، وإنما كان كاتباً وخطيباً. أقول إننا في حاجة إلى أن نصل إلى رأي في هذه المسألة قبل كل شيء. والواقع أننا لسنا في حاجة إلى شيء بعد ذلك لأننا قد وصلنا إلى رأي في هذه المسألة: هو أن علياً كان من الشعراء. ولقد وصلنا إلى هذا الرأي بعد أن خطونا ثلاث خطوات:

1 - وجود الموهبة الشعرية عند علي

ونقصد بالموهبة الشعرية هنا تلك الموهبة التي تولد مع الشاعر وتنمو بنموه وتنضج بنضوجه، وتدفعه إلى قول الشعر ونظم القصيد. نقصد بها ذلك الاستعداد لقول الشعر واصطناعه وسيلة من وسائل التعبير عن النفس والتصوير لخلجات الوجدان ونوازع القلب

هذه الموهبة الشعرية يكفي في الدلالة عليها حياة النفس، ويقظة القلب، وتنبه الضمير، والتأثر السريع العميق بما من شأنه التأثير السريع العميق. يكفي في الدلالة عليها اتقاد العواطف وحرارة الانفعالات

ولقد كان علي بن أبي طالب موهبة شعرية على هذا الأساس. فلقد كان حي النفس، يقظ القلب، مُتنبِّه الضمير، يتأثر تأثراً سريعاً عميقاً بما من شأنه التأثير السريع العميق؛ ولقد كان متقد العواطف حار الانفعالات

ويكفي في التحقق من ذلك قراءة ما صح من خطبه وكتبه، ففي هذه الخطب والكتب نلمس الشعور الفياض ونحس به سارياً في أثناء الكلام. فنحن إذا قرأنا الخطبة الشقشقية شعرنا بما يضطرم في صدر علي من الألم لظفر أبي بكر ثم عمر ثم عثمان بالخلافة دونه، مع أنه - في نظره هو - أحق منهم بها لقربه من الرسول وتحدره من بيته. وهذا الألم الذي يضطرم في صدر علي ألم قوي شديد، ينفث في الكلام مرارة يستشعرها القارئ، وشكوى مفعمة بالأسى، وظلالاً من الشعور بالحرمان

ونحن إذا قرأنا جوابه عن كتاب معاوية إليه شعرنا بإيمان صاحب الحق بما له من حق، وحرصه عليه، وثورة نفسه على من يسعى لاغتصابه منه أو حرمانه إياه أو الاستئثار به دونه

وهكذا تنتظم خطب علي وكتبه نفسه الحماسية ووجدانه الثائر وعواطفه الجياشة، وتقوم دليلاً على أنه شاعري الروح عظيم الحظ من الموهبة الشعرية

ولقد أحسَّ بروكلمان هذه الموهبة الشعرية عند علي فقال في خلال حديثه عن الديوان المنسوب ج1 ص43: (ليس من شك في أن علياً كان ذا ملكة شعرية. . .)

2 - نسبة أشعار إليه في بعض المراجع العربية المعتمدة

(1) جاء في عيون الأخبار لأبن قتيبة (ج 3 ص 5 ط دار الكتب): (وقال علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:

أخوك الذي إن أحوجتك ملمّة ... من الدهر لم يبرح لها الدهرَ واجما

وليس أخوك الحقُّ من أن تشعّبت ... عليك أمور ظل يلحاك لائما

(ب) جاء في معجم الأدباء لياقوت (ج 5 ص 263 ط مرجليوث): (قرأت بخط أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي في كتاب التهذيب له قال أبو عثمان المازني لم يصح عندنا أن علي بن أبي طالب تكلم من الشعر غير هذين البيتين:

تلكم قريش تمناني لتقتلني ... ولا وَجدِّك ما بروا ولا ظفروا

فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر

قال ويقال داهية ذات روقين وذات ودقين إذا كانت عظيمة

وجاء فيه أيضاً (ج 5 ص 266): (وما يروي أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن لي فضائل: كان أبي سيّدا في الجاهلية وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول الله ﷺ وخال المؤمنين وكاتب الوحي. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أبا الفضائل تفتخر على يا ابن آكلة الأكباد؟ أكتب إليه يا غلام:

محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن عمي وبنت محمد سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها ... فأيكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طراً ... صغيراً ما بلغت أوان حلمي

فقال معاوية أخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب

(ج) جاء في مقاتل الطالبين لأبي الفرج الأصفهاني (ص 14 ط المطبعة الحيدرية بالنجف الأشرف): وكانت فاطمة بنت أسد أمُّه لما ولدته سمته حيدرة فغير أبو طالب اسمه وسماه علياً. وقيل إن ذلك اسم كانت قريش تسميه به. والقول الأول أصح، ويدل على ذلك خبره يوم خيبر وقد برز إليه مِرْحب اليهودي وهو يقول:

قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرَّب

إذا الحروب أقبلت تلهَّب

فبرز إليه علي عليه السلام وهو يقول:

أنا الذي سمتني أمي حيدرهْ ... كليث غاب في العرين قسورهْ

أكيلكم بالصاع كيل السندرهْ

(د) جاء في العمدة لأبن رشيق (ج 1 ص 14 ط الخانجي):

(ومن شعر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان مجدداً قال له يوم صفين يدكر همْدان ونصرهم إياه

ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا ... نواصيها حمرَ النحور دوامي

وأعرض نقع في السماء كأنه ... عجاجة دجن ملبس بقتام

ونادى ابن هند في الطلاع وحمير ... وكندة في لخم وحيّ حذام

تيممت همدان الذين همُ همُ ... إذا ناب دهر جنتي وسهامي

فجاوبني من خيل همدان عصبة ... فوارس من همدان غير لئام

فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها ... وكانوا لدى الهيجا كِشرب مدام

فلو كنت بواباً على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وهو القائل بصفين أيضاً:

لمن راية حمراء يخفق ظلها ... إذا قلت قدمْها حصين تقدما فيوردها في الصف حتى يَرِدْ بها=حياض المنايا تقطر الموت والدما

(هـ) جاء في ديوان الحماسة للبحتري (ص 61 ليدن): وما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:

من أي يوميَّ من الموت أفرْ ... أيوم لم يقدر أم يوم قُدِرْ

وقال عليه السلام أيضاً:

أعلىَّ يقتحم الفوارس هكذا ... عني وعنهم خبروا أصحابي

اليوم تمنعني الفرار حفيظتي ... ومهنَّد بالكف ليس يناب

آلي ابن عبد حين شدَّ أليَّة ... وحلفت فاستمعوا من الكذاب

ألا يصد ولا أهلل فالتقى ... بطلان يضطربان كل ضراب

فصددت حين تركته متجدلاً ... كالجذع بين دكادك وروابي

وكففت عن أثوابه ولو أنني ... كنت المجدَّل بزني أثوابي

(و) جاء في الكامل للمبرد (ص 544 من الطبعة الأوربية): (ومن شعر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي لا اختلاف فيه أنه قاله وأنه كان يردده أنهم لما ساموه (يعني الخوارج) أن يقر بالكفر ويتوب حتى يسيروا معه إلى الشام؛ فقال: أبعد صحبة رسول الله عليه السلام والتفقه في الدين أرجع كافراً:

يا شاهد الله عليَّ فاشهد ... أني على دين النبي أحمد

من شك في الله فإني مهتدى

(ز) جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه (ج 3 ص 123): (. . . ومن قول علي كرَّم الله وجهه بصفين:

أمن راية سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حصين تقدما

فيوردها في الصف حتى يردَّها ... حياض المنايا تقطر السم والدما

جزى الله عني والجزاءُ بكفه ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما)

فهو غير قليلاً في ألفاظ البيتين اللذين ذكرهما ابن رشيق، وزاد بيتاً ثالثاً

هذه جملة أشعار وجدناه منسوبةً إلى علي في هذه المراجع العربية المعتمدة، وهي بطبيعة الحال ليست كل ما في هذه المراجع، فإننا لو بحثنا فيها أكثر مما بحثنا، لوجدنا جملة أخرى من الأشعار المنسوبة إلى علي؛ ولكننا نستطيع أن نقول واثقين: إن هذه الأشعار التي وجدناه هي معظم ما في هذه المراجع من الشعر المنسوب إلى علي، وهي تكفينا على كل حال في هذا البحث

3 - هذه الأشعار مما يمكن صدوره عن علي وفي عصر

علي

هي مما يمكن أن يصدر عن علي، لأنها تشف عن شخصيته وتصور ما ألم به من الأحداث. فأنت إذا قرأت البيتين المذكورين له في عيون الأخبار طالعتك صورة الحكيم المجرب الذي يرى أن صداقة الصديق لا تكون إلا إذا حزن لحزنك وبكى لبكائك ووجم لوجومك ومن ينكر أن علياً كان حكيماً مجرباً؟ وكذلك إذا قرأت البيت المذكور له في ديوان الحماسة طالعتك صورة العاقل الذي يرى ألا فرار من الموت في أية حال من الأحوال، ومن ينكر أن علياً كان عاقلاً؟

وأنت إذا قرأت الرجز المذكور له في مقاتل الطالبين، والأبيات الستة المذكورة له في ديوان الحماسة، طالعتك صورة الشجاع المغوار الذي يعمل جاهداً في نشر الإسلام بالسيف بعد أن لم تُجدِ الحجة؛ ومن ينكر أن علياً كان شجاعاً مغواراً؟

وإذا قرأت الأبيات الخمسة المذكورة له في معجم الأدباء، طالعتك صورة صاحب الحق يدلِّل على ما له من حق، وكذلك كان علي طيلة حياته، فقد كان يشعر بمقر هذا ويألم لإغضاء أبي بكر وعمر وعثمان عنه ثم لتنكر معاوية آخر الأمر له.

فهذه الأبيات كلها تشف عن شخصيته، وتصور نوازعه وخوالجه وروحه. ثم إنك إذا قرأت سائر الأبيات وجدت فيها صوراً من الأحداث التي ألمت به؛ فالبيتان المشهوران المذكوران له في معجم الأدباء يصوران رغبة قريش في قتاله وقتله، تلك الرغبة التي ظهرت في سير طلحة والزبير وعائشة إليه ووقوع وقعة الجمل بعد ذلك. والرجز المذكور في الكامل على قِصَره يعطينا صورة عن خروج الخوارج عليه واعتقادهم كفره ثم استتابتهم إياه. والأبيات التي قالها في صفين تصور هذه الواقعة أجمل تصوير وأقواه

فأنت ترى إذن أن هذه الأبيات التي وجدناها له مما يمكن صدوره منه لأنها تصور شخصيته وحوادث عصره

ثم هي أيضاً مما يمكن صدوره في عصره، ونقصد بذلك أنها تتسم بالطابع الذي يطبع آداب هذا العصر وهو طابع القوة والصدق. فنحن نعرف أن هذا العصر عصر عربي خالص لم تشبه بعدُ شوائب العجمة، فهو إلى البداوة أقرب منه إلى الحضارة. ونحن نعرف أيضاً أن الروح العربية الخالصة روح قوية صادقة لم يُغَشِّها شيء ولم يلبسْها شيء. ولذلك وجدنا آداب هذا العصر العربي الخالص متسمة بهذه الروح العربية الخالصة بما فيها من قوة وصدق. وليست هذه الأشعار التي نقرأها لعلي ببعيدة عن هذا الطابع الذي يطبع آداب هذا العصر الذي عاش فيه علي. ويمكن لكل ذي ذوق أن يحس ذلك إحساساً واضحاً

هذه هي الخطوات الثلاث التي خطوناها فأدت إلى الرأي الذي قدمناه في أول هذا القسم من البحث وهو أن علياً كان من الشعراء. وليست الخطوة الواحدة من هذه الخطوات بقادرة وحدها على أن تؤدي بنا إلى هذا الرأي، وإنما هي تؤدي بنا إليه إذا تعاونت مع أختيها وانضمت إليهما

ونحن نحب بعد أن أثبتنا رأينا هذا أن نعود إليه فنقويه بأقوال بعض المؤيدين لنا من المتقدمين:

1 - يقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 70 ط الميمنية): (وأخرج عن الشعبي قال كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر الثلاثة)

هكذا يقول الشعبي وهو ثقة، ثم هو أيضاً من المتقدمين فقد كان معاصراً للحجاج وعبد الملك ابن مروان

2 - يقول ابن عبد ربه (ج 2 ص 123): (وقال سعيد ابن المسيب كان أبو بكر شاعراً وعمر شاعراً وعلي أشعر الثلاثة)

فسعيد بن المسيب يقول قول الشعبي، وهو ثقة فقد كان أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ثم هو متقدم فقد كان معاصراً لعبد الملك وتوفي بالمدينة سنة 98هـ

(للبحث بقية)

السيد يعقوب بكر