الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 46/الزلة الأولى

مجلة الرسالة/العدد 46/الزلة الأولى

بتاريخ: 21 - 05 - 1934


للكاتب الفرنسي لامنيه

بقلم احمد حسن الزيات

قطعة رائعة التمثيل جليلة المغزى للامنيه، وهو علم من أعلام الأدب الفرنسي، وفيلسوف من فلاسفة المذهب الكاثوليكي، وخطيب بليل اللسان من خطباء الدين والسياسة، ولد سنة 1782 في بلد زعيم البيان الفرنسي (شاتوبريان)، ثم طار في جوه، فنشأ مثله لطيف الوجدان، خصب المخيلة، وثاب الفكر، صحيح الرأي لا يخضع لنظام، ولا يستكين لحادث. دخل الكنيسة راهبا، ثم الجمعية العمومية نائبا، فنصر الله في الأولى والحرية في الثانية. ثم صبا في سياسته إلى الاشتراكية، وفي عقيدته إلى الأرثوذكسية، وحاول أن يقيم المسيحية على دعائم جديدة من الوضوح والبساطة. فلقى في سبيل هذه الآراء الحرة سخط البابا وغضب الكهنوت وعنت الساسة.

أما أسلوبه فخطابي شعري يعتمد على الصور الحية والتشابيه القوية، ويسلك فيه مسلك (بوسويه) في احتذاء الإنجيل، واقتباسه منه أسلوب الرمز والتمثيل.

وهذه القطعة التي ننشرها اليوم تمثل شبق الإنسان إلى شهوة البهيمية وحاله بعدها، فمثل الشهوان كمثل الظمآن يتحرق إلى اللذة الآثمة، كما يتحرق هذا إلى الكرمة اليانعة، ودون هذه اللذة آثام وأجرام ورجس، كالمستنقع الذي يحول بين الظمآن وبين عصير العنب. وهنا يتصارع العقل والهوى، وتوازن النفس بين نتانة الوحل وبين برودة العنب، فيستخف الشهوان بالخطيئة اعتمادا على التوبة، كما يستخف الظمآن بالوحل اعتماداً على الغسل، ولكن هيهات! لابد للجرح من اثر. وللنتن الخبيث من ذفر

قال لامنيه:

برح به أُوار القيظ، وبلغ منه سُعار العطش، فأرسل طرفه في الفضاء، فرأى في حضيض الأكمة كرما تهدلت أغصانه وتدلت عناقيده. فهفا قلبه من الفرح، وتاقت نفسه إلى بلوغ الكرم لينقع بثمره أوامه، وينضح بشرابه كبده، ولكن بينه وبين الأكمة مستنقعا لا مناص من خوضه، وقف موقف الحائر لا يدري أيقدم أم يحجم؟ فتارة تدفعه حرارة الظمأ، وتغريه برودة العنب وطراءة الكرم، وتارة تقعد به وخامة الطين ونتانة الوحل.

فلما لاحه العطش سولت نفسه إليه أن المستنقع قد يكون قريب الغور سهل المعبر، فما الذي يمنعه أن يجرب ما يفعله كثير من الناس؟ على انه لا يلوث غير قدميه، وذلك أذى في جانب ما يبغيه قليل.

أطاع هواه واستجر لشيطانه، فوضع قدميه في النقع حتى غاص فيه إلى ركبتيه. فوقف مترددا مرتابا يداور الأمر في نفسه ويقول: لعل الرجوع أخف مئونة وأحمد مغبة، ولكن الكرمة وعناقيدها أمامه، والريق قد عصب من الظمأ فاه. . . فقال في نفسه: أما وقد بلغت ما بلغت فليس من الرأي أن ارجع فيذهب ذلك العناء باطلا، لا ينبغي بعد هذا أن اكترث لما ألقى من الوحل قل أو كثر، فسأعود نقي الجسم طاهر الثوب إذا ما اغتسلت في أول نهر أجده.

أمضى على هذه الفكرة عزمه وتقدم، فبلغ الطين صدره، ثم عنقه، ثم شفتيه، وما لبث أن طم فوق رأسه، فضاق صدره وحشرجت أنفاسه، وكاد يصرعه الخُناق لولا أن استجمع قواه ونهض نهضة بلغت به جانب الأكمة.

خرج والحمأ المسنون يسيل من أعضائه، فأكل من الشجرة التي اشتهاها حتى اكتظ، ثم نظر إلى نفسه فأخجله ما رأى من بشاعة منظرة وقبح زيه، فخلع ثيابه وطفق يبحث عن ماء رائق يطهر به نفسه، ويذهب عنه رجسه ولكن هيهات أن يتم له ما يريد! انه مهما فعل فان الرائحة الخبيثة باقية تسطع في الأنوف وتدفع في الحلوق.

لقد نفذت أبخرة المستنقع في لحمه وعظمه، ثم أخذت تفوح وتنشر، فكونت من حوله جواً فاسداً عفناً لا يطيق الصبر عليه إنسان، ولا يستطيع الدنو منه أحد.

لقد أراد أن يكون مع الزواحف فليكن كما أراد!