مجلة الرسالة/العدد 46/سبيل الخلاص من الامتيازات الأجنبية
→ الزلة الأولى | مجلة الرسالة - العدد 46 سبيل الخلاص من الامتيازات الأجنبية [[مؤلف:|]] |
لا غالب إلا الله. .! ← |
بتاريخ: 21 - 05 - 1934 |
للدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري
أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق
- 2 -
ذكرنا في العدد السابق المقترحات الخاصة بالتشريع في المعاهدة التي تعرض الحكومة المصرية على الدول ذوات الامتيازات إبرامها. فننتقل بعد ذلك إلى القضاء ثم إلى الإدارة.
2 - القضاء
نقترح أن تنص المعاهدة على إنشاء محاكم مصرية جديدة تحل محل المحاكم المختلطة، ويتناول اختصاصها ما يأتي:
(1) القضايا المدنية والتجارية فيما بين الأجانب المتمتعين بالامتيازات الأجنبية دون غيرهم، بما فيها قضايا الأحوال الشخصية، وكذلك القضايا المدنية والتجارية ما بين مصري وأجنبي متمتع بالامتيازات الأجنبية. ويستثنى من ذلك القضايا العقارية فتكون من اختصاص المحاكم الأهلية مطلقا، حتى لو كان الخصوم جميعا من الأجانب وتكون العبرة في الاختصاص بشخصية الخصوم الحقيقية، فلا ينظر إلى الصالح المختلط، ولا يعتد بتحويل الحق إلى أجنبي تحويلا صوريا. وينص على جواز الاتفاق مقدما فيما بين الأفراد على التنازل عن اختصاص هذه المحاكم الجديدة، كما ينص على جواز التنازل عن هذا الاختصاص باتفاق الخصوم فيأية حالة كانت عليها الدعوى، ويكون الاختصاص في هذين الفرضين للمحاكم الأهلية.
(2) القضايا الجنائية التي يكون المتهم فيها أجنبيا متمتعاً بالامتيازات، وإذا تعدد المتهمون وكان فيهم مصري كانت القضية من اختصاص المحاكم الأهلية حتى بالنسبة للمتهمين الأجانب، منعا لتضارب الأحكام -
أما تشكيل المحاكم الجديدةفيكون على الوجه الآتي:
(1) محكمة استئناف يكون نصف عدد المستشارين فيها مصريين والنصف الآخر من الأجانب. وتشكل في هذه المحكمة دوائر مدنية وجنائية يكون عدد أعضاء كل دائرة منه ثلاثة (بدلا من خمسة)، ولا يكون تشكيل الدائرة صحيحا إلا إذا كان أحد أعضائها على الأقل مصريا.
(2) ثلاث محاكم ابتدائية في القاهرة والإسكندرية والمنصورة، ويكون نصف القضاة في كل محكمة من المصريين والنصف الآخر من الأجانب، وتشكل الدوائر في هذه المحاكم على الوجه المبين في تشكيل دوائر محكمة الاستئناف. والمحاكم الابتدائية جائزة للمصريين وللأجانب على السواء، فإذا انتخب أجنبي للرياسة وجب انتخاب مصري للوكالة. وإذا جلس في الدائرة اكثر من عضو مصري تكون رياسة الدائرة حتما لمصري. ويكون أعضاء النيابة العمومية كلهم مصريين، عدا النائب العام أما لغة هذه المحاكم الجديدة فتكون اللغة العربية للدوائر التي يرأسها مصري، وإحدى اللغتين العربية أو الفرنسية للدوائر التي يرأسها أجنبي على أن تقرر الدائرة أي اللغتين تستعمل في القضايا المختلفة.
وقد لا حظنا في هذه المقترحات إن بعضها قد أقرته إنجلترا في مفاوضاتها مع مصر، كما في المذكرة البريطانية التي سبقت الإشارة إليها (أنظر الكتاب الأخضر ص9 - ص10) وكما جاء في مشروعات هرست المعروفة. والعض الآخر تحتمه العدالة، ويستوجبه تقدم مصر في مدى ستين عاما انقضت منذ إنشاء المحاكم المختلطة الحالية، مما يقتضي تمصير المحاكمالجديدة مع الاحتفاظ بالعنصر الأجنبي فيها. والفكرة الأساسية في هذه المقترحات أن ينقل اختصاص المحاكم القنصلية إلى المحاكم الجديدة، فلا يعود يوجد من المحاكم في مصر إلا ما كان مصريا. وفي الوقت الذي يتسع فيه اختصاص المحاكم الجديدة على حساب المحاكم القنصلية يضيق فيه هذا الاختصاص لحساب المحاكم الأهلية. فنسترد لاختصاص محاكمنا الأهلية القضايا العقارية، وقد قدمنا أن الامتيازات الأجنبية لا تمنع من ذلك، وان الأجانب لم يسمح لهم بتملك عقارات في البلاد العثمانية إلا بشرط أن يخضعوا لقوانين البلاد ومحاكمها فيما يتعلق بهذه العقارات. ونسترد أيضا ما انتزعته المحاكم المختلطة من اختصاص المحاكم الأهلية من طريق التوسع في التفسير توسعا يصطدم مع النفق القانوني الصحيح. فنقصر كلمة (الأجنبي) على من كان تابعا لدولة متمتعة بالامتيازات، حتى يدخل في اختصاص المحاكم الأهلية قضايا الأجانب غير المتمتعين بالامتيازات وقد اصبحوا الآن كثيرين. وهذا حقنا، لا يجوز إنكاره علينا، ومع ذلك فقد أنكرته المحاكم المختلطة الحالية، ولم يجد في إقناعها تعديل المادة 15 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية بما يتفق مع هذا الحق. ثم نقضي على نظرية الصالح المختلط التي استطاعت المحاكم المختلطة الحالية من ورائها أن تمد اختصاصها إلى قضايا فيها كل المتقاضين مصريين، بدعوى إن هناك مصلحة لأجنبي في الدعوى، ولو كانت هذه المصلحة ليست هي بالذات موضوع النزاع. وطبقت هذا المبدأ على الشركات ولو كانت مصرية، فأدخلتها في اختصاصها مادام فيها مساهم أجنبي. وطبقته كذلك على حجز ما للمدين لدى الغير، فقضت باختصاصها ولو كان كل من الدائن الحاجز والمدين المحجوز عليه مصريا مادام المحجوز لديه أجنبيا. وليس للمحاكم المختلطة في كل هذا سند قانوني إلا نص المادة 13 من لائحة ترتيبها، وهذه لا تعرض إلا لحالة استثنائية لا يجوز التوسع في تفسيرها، ومن باب أولى لا يجوز القياس عليها. ثم نضع حدا للاحتيال على جعل قضية من اختصاص المحاكم المختلطة من طريق تحويل الحق المتنازع فيه إلى أجنبي تحويلا صوريا. ونفسح المجال لاتفاق الخصوم على اختصاص المحاكم الأهلية حتى لو كان بينهم أجنبي، سواء أوجد هذا الاتفاق وقت رفع النزاع أم كان قد تم قبل ذلك، وبهذا نمهد السبيل لمد اختصاص المحاكم الأهلية إلى الأجانب الذين يرتضون هذا الاختصاص.
وراعينا بعد ذلك أن تكون المحاكم الجديدة، وهي مصرية، غير مقصورة في مصريتها على الشكل دون الجوهر، كما هو شأن المحاكم المختلطة الحالية. فطلبنا أن يكون نصف قضاة المحاكم الجديدة مصريين حتى نضمن بذلك أن تكون هناك دوائر، غالبية القضاة فيها مصريون ورئيسها مصري ولغتها العربية، وان يكون نصف أعضاء الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف - ولها اختصاص تشريعي كما قدمنا - من القضاة المصريين. واجزنا رياسة المحاكم للمصريين وحتمنا أن تكون الوكالة لهم إذا كان الرئيس أجنبيا وبذلك يكون العنصر المصري في المحاكم الجديدة معادلا للعنصر الأجنبي وهذا هو العدل، فان المصالح المصرية التي تقضي فيها هذه المحاكم لا تقل في الأهمية والخطر عن المصالح الأجنبية إن لم تزد عليها. هذا إلى أن المحاكم مصرية، تجلس في ارض مصرية، وتحكم باسم مليك البلاد، وتتقاضى نفقاتها من خزينة مصر، وتنفذ السلطات المصرية أحكامها فإذا طلبنا بعد كل هذا أن يكون نصف القضاة مصريين فلا نكون قد ارتبكنا شططا بل نحن معتدلون، فما زلنا نفسح المجال واسعا للعناصر الأجنبية: نصف القضاة منهم، ولهم أن يرأسوا المحاكم والدوائر، وللدائرة التي تتشكل من غالبية أجنبية أن تتخذ الفرنسية لغة للتقاضي، وهذه الغالبية الأجنبية مكفول توافرها في نصف الدوائر. أليس في كل هذا ضمان كاف نقدمه للأجانب حتى يطمئنوا إلى قضاة المحاكم الجديدة؟
3 - الإدارة
نرى أن تنص المعاهدة على إلغاء كل القيود التي تضعها الامتيازات الأجنبية على سلطة الإدارة المصرية. فيصبح لرجال الإدارة السلطة في القبض على المجرمين الأجانب وتفتيشهم وتفتيش منازلهم ومحال أعمالهم دون تدخل القناصل. ويكفي ضمانا للأجانب أن يجعل هذا من اختصاص رجال ضبطية خاصة تلحق بالمحاكم الجديدة، وتوضع تحت إشراف النائب العام أمام هذه المحاكم، ولا بأس من اختيار هذا النائب من بين الأجانب مادمنا قد نقلنا الاختصاص الجنائي للمحاكم القنصلية إلى لمحاكم الجديدة، على أن يكون النائب العام وحده هو الأجنبي دون سائر أعضاء النيابة، هؤلاء يجب أن يكونوا مصريين كما قدمنا. وإذا كان لابد من تقديم ضمانات أخرى. فلا بأس من إدخال عنصر أجنبي لا يزيد على النصف بين رجال الضبطية القضائية الخاصة التي أشرنا إليها.
ومادمنا قد جعلنا اختصاصات الضبطية القضائية بالنسبة للأجانب في يد هيئة خاصة فيها عنصر أجنبي وهي تحت إشراف النائب العام الأجنبي فانه لم تعد هناك حاجة للضمانات التي تطلبها إنجلترا مما جرت على تسميته (بالبعثة الإنجليزية) في البوليس المصري، وهي البعثة التي ورد ذكرها في المفاوضات التي دارت بين البلدين. كذلك لا حاجة إلى وجود مستشار قضائي ومستشار مالي، فإذا كان لابد من وجودهما وجب تحديد اختصاصهما والمدة التي يبقيان فيه تحديدا ضيقا، بحيث لا يتنافى وجودهما مع سيادة الدولة، ولا يؤيد دعوى الإنجليز في حماية المصالح الأجنبية، ولا يتعارض مع المسئولية الوزارية.
وغنى عن البيان أن الإدارة المصرية تستبقي حقها مطلقاً في إبعاد الأجانب غير المرغوب فيهم عن مصر، فان هذا هو حقها في الوقت الحاضر لم يؤثر فيه وجود الامتيازات الأجنبية ولا قيام المحاكم المختلطة. كذلك يكون للإدارة المصرية وللهيئة التشريعية اتخاذ التدابير اللازمة لمنع التدابير اللازمة لمنع المهاجرة إلى مصر أو تقيدها إذا استلزمت مصلحة البلاد ذلك. وللحكومة المصرية الحرية الكاملة في عقد معاهدات مع الدول بشأن تسليم المجرمين الفارين. كل هذا نذكره لا لأن هناك شكا في الحكومة المصرية تملكه، فانه لا يوجد أحد ينكر عليها هذه الحقوق التي لم تتأثر بالامتيازات الأجنبية، وإنما نقرره هنا لأنه ورد ذكره في مشروعات هرست المعروفة، وكان يراد تضيق سلطة الحكومة المصرية فيه فنرجع إلى الوراء بدلا من أن نتقدم إلى الأمام. هذه هي أسس المعاهدة التي نقترح أن تعرضها الحكومة المصرية على الدول ذوات الامتيازات. وقد راعينا في وضعها ألا تتضمن من المبادئ والأحكام إلا ما أقرته إنجلترا نفسها في المفاوضات التي دارت بينها وبين الوزارات المصرية المختلفة، وإلا ما كان متفقاً مع العدالة وما تستدعيه حالة البلاد من تعديل النظم القائمة. وهذه الأسس هي الحد الأدنى لما تطلبه البلاد في الوقت لحاضر، على أن تسترد الدولة المصرية سيادتها كاملة متى حانت الظروف المناسبة. وإذا كنا في حاجة إلى إقناع أحد بصلاحية هذه الأسس فليست هي الدول ذوات الامتيازات التي تحتاج إلى ذلك، وهي تعرف حق المعرفة أن هذه المطالب، عادلة معتدلة، وإنما حاجتنا هي إقناع الجانب المصري نفسه بالاقتصار على هذه المطالب، بعد أن دوت صرخة الرأي العام تنادي بإلغاء الامتيازات الأجنبية دون الإبقاء على أي اثر منها. على أننا إذا كنا استبقينا بعض هذه الآثار في المعاهدة المقترحة، فإنها لا تبقى إلا في فترة الانتقال من حالتنا الحاضرة إلى حالة أخرى تعود فيها إلى مصر سيادتها الكاملة. ولذلك جعلنا المعاهدة مؤقتة، وأعطينا لمصر حق إلغائها بإعلان يصدر من جانبها. وقد تكون فترة الانتقال هذه ضرورية في الوقت الحاضر، حتى لا نباغت البلاد بتغيير فجائي طفرة واحدة.
فإذا عرضت هذه الأسس على الدول ذوات الامتيازات، فقد تقبلها هذه الدول جميعها، أو قد يقبلها عدد كبير منها (والعبرة بعدد الرعايا لا بعدد الدول) وفي هذه الحالة تعقد المعاهدة مع الدول التي قبلت، ولا نعتد بالأقلية التي لم تقبل، فهذه لا تلبث أن تنضم إلى المعاهدة، كما فعلت فرنسا في سنة 1876. وينتهي الأمر عند هذه الخطوة الثانية. أما إذا لم تقبل الدول هذه الأسس، فعلى الحكومة المصرية أن تخطو في التدابير التي تتخذها الخطوة الثالثة وموعدنا بتفصيلها العدد المقبل.
عبد الرزاق السنهوري