مجلة الرسالة/العدد 46/مدينة سبأ
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 46 مدينة سبأ [[مؤلف:|]] |
الزلة الأولى ← |
بتاريخ: 21 - 05 - 1934 |
للدكتور طه حسين
كان الأديب الفرنسي ملرو نائماً كاليقظان، أو يقظان كالنائم، ولا تجد في ذلك شيئا من الغرابة، فنوم الأدباء البارعين يقظة، لأنه مملوء بالأحلام التي قد تكون من الصدق والدقة، ومن الخصب والإنتاج بمنزلة لا يبلغها الحق نفسه في كثير من الأحيان. ويقظة الأدباء نوم، لأنهم يشغلون فيها عما يحيط بهم من هذه الحقائق الممكنة الواقعة بما يملأ رؤوسهم من هذه الخيالات والأوهام التي تدنو من نفوسهم حتى تصبح كأنها جزء منها، وتبعد عن متناولهم حتى تصبح كأنها النجوم وهم يعجبون بقربها منهم فيطمعون فيها ويطمحون إليها، وهم يشفقون من بعدها عنهم فيحلون في طلبها ويجدون في إدراكها، ويكلفون في بلوغها أعنف الجهد وأشق العناء.
كان الأديب الفرنسي ملرو إذن نائما كاليقظان، أو يقظان كالنائم. كان في ساعة من هذه الساعات الحلوة التي يقضيها الأدباء مستمتعين بلونين من الحياة، أحدهما مختلط مضطرب شاحب، وهو لون الحياة الواقعة. والآخر واضح جلي ناصع، وهو لون هذه الحياة التي يحيونها بين الخيالات والأوهام. وانه لفي ذلك وإذا غانية حسناء رائعة الحسن، جميلة بارعة الجمال، غريبة الزي، لم ير مثلها قط فيمن رأى من غانيات باريس، وفاتنات غير باريس من المدن الأوربية التي زارها بل لم ير مثلها فيما رأى من الصور والرسوم التي تنقل للناس ما حفظته ذاكرة التاريخ القديم والمتوسط والحديث من ملامح الغانيات وأشكالهن وأزيائهن، وكانت تتراءى له من بعيد لا يكاد يراها حتى يفقدها، ولا يكاد يفكر فيها بعد فقدها حتى تتراءى له من جديد، فلا يكاد ينظر إليها حتى تستخفي، ولا يكاد يستأنف التفكير فيها حتى تبدو. وكانت إذا تراءت له ملأت الجو من حوله عبيراً وعرفا لم يحس مثلهما قط فيما أحس من الأعطار المصنوعة ومن الاعطار الطبيعية، ومن شذى الرياض وعرف الغابات، وكانت إذا استخفت ذهب معها هذا العبير، إلا بقية ضئيلة تضطرب في الجو، كأنها البقية الضئيلة من شعاع الأمل. فكانت نفس الأديب الفرنسي ملرو تتعلق بهذه البقية الضئيلة من العبير، كما تهيم بهذا الشخص الجميل الرائع الذي كان يبدو ويستخفي في سرعة كوميض البرق. ولو أن هذا الخيال عرض لرجل مثلك أو مثل على هذا النحو وهو نائم لأيقظه، أو عرض له وهو يقظان لذاد عنه كل وهم أو خيال، ولدفعه إلى حياة عنيفة متنبهة تشبه الجنون. ولكنه لم يعرض لك ولم يعرض لي، وإنما عرض للأديب الفرنسي ملرو. ولهذا الأديب قوة ساحرة فيما يظهر، تمكنه من مقاومة الحق الذي يوقظ النائمين، ومن مقاومة الوهم الذي ينيم الإيقاظ، وتمسكه في حال بين الحالين، ومنزلة بين المنزلتين، فإذا هو نائم كاليقظان ويقظان كالنائم. وقد دعا إليه سحره هذا، فأعانه السحر على أن يظل على الحدود بين المملكتين مملكة اليقظة، ومملكة النوم. مملكة الحقيقة الباطلة التي يضطرب فيها مثلك ومثلي من الناس، ومملكة الخيال الصادق التي يضطرب فيها الأدباء والشعراء، وظل في مكانه يرى هذه الجنية، ويتنسم عبيرها إذا ظهرت له، ثم يتعلق بما بقى من نشرها ويهيم بخيالها إذا غابت عنه، وكأن هذه الجنية كانت تريد أن تعبث بالكاتب الأديب ساعة من نهار أو ساعة من ليل، وما أكثر ما تعبث الجن بأبناء الإنسان. ولكن الأديب الفرنسي ملرو، كان من البراعة والمهارة، ومن السحر واللباقة، بحيث استطاع أن يعبث بهذه الجنية الماكرة الماهرة، وأن يكرهها على أن تبيح له سرها، وتلقي عنه ما بينها وبينه من الأستار. واكبر الظن أن الأديب الفرنسي ملرو، إنما تعلم هذا الفن الذي يستغوي به الجن من رياضة بسيطة، ما اجدر أدباءنا وشعراءنا أن يتكلفوها ويأخذوا أنفسهم بها، وهي رياضة الصيد في الأنهار والغدران. فهذه الرياضة تحتاج إلى صبر طويل، طويل جداً، والى لباقة ودقة قلما تحتاج إليهما الرياضات الأخرى، وقد يمكث الصائد على شاطئ الغدير ساعات طوالا جداً، ينتظر الصيد فيصيبه أو لا يصيبه، ولكنه لا ييأس على أية حال.
ظل الكاتب الأديب ملرو، في حالة هذه بين الحالين، وفي مقامة هذا بين المملكتين، وظلت الجنية تبدو له فيستقبلها، وتغيب عنه فيتبعها، حتى سئمت منه هذا الصبر، وضاقت منه بهذا الثبات، واستيأست من ترويعه والعبث به، فوقفت منه غير بعيد وحدقت فيه تحديقا طويلا، لو حدقته في رجل مثلك أو مثلي لملأت قلبه رعبا، ولدفعته إلى الجنون دفعا، ولكن الأديب الفرنسي ملرو ثبت لمنظرها الجميل، وتحديقها الطويل، مبتسما في هدوء، ينظر إليها ولا يقول لها شيئا. وأخذت هي تدنو منه وتطيل النظر فيه، وهو ثابت لا يضطرب، ومستقر لا يريم، حتى إذا كانت منه بمكان النجى، سألته في لغة غريبة لم يسمع لفظها قط، ولكنه فهم معناها كما يفهم معاني اللغة الفرنسية حين تلقى إليه. سألته في هذه اللغة الغريبة، وفي ابتسام ليس اقل منها غرابة قائلة من تكون؟ لقد عرضت لكثير مثلك من الناس منذ عشرات القرون، فروعتهم ترويعا على اختلاف أجيالهم وبيئاتهم، وتفاوت درجاتهم في العلم والجهل، وفي الغفلة والذكاء، حتى اتخذت ترويع الناس لذة من أهون اللذات، إذا فرغت مما أنا فيه من أعمال الجد التي تحملني كثيرا من الألم والعناء. حدثني من تكون؟ ولا بأس عليك من أن تجيبني باللغة الفرنسية فسأفهمها عنك، كما تفهم أنت عني الآن هذه اللغة الحميرية، التي لا يتكلمها أحد من الناس في هذه الأيام، والتي يجد علماؤكم في قراءتها وتفسيرها، واستنباط قواعدها وأصولها. حدثني من تكون أيها الفتى الذي عجزت عن ترويعه والعبث به؟ قال الأديب الفرنسي ملرو، وهو ينظر هادئا مبتسما إلى هذه الجنية: بل حدثيني أنت من تكونين؟ فإني لم اعرض لك، وإنما عرضت لي، وإني لم احفل بك، وإنما حفلت بي، وإني لم ادن منك، وإنما دنوت مني، وإني لم أحاول سحرك بلحظ ولا لفظ، ولا حركة ولا عبير، فما ينبغي لك أن تسأليني، وإنما ينبغي لي أن أسألك. ومع ذلك فإني لم أسألك حتى بدأتني بالسؤال، ومع ذلك فإني قادر على أن أعفيك من الجواب وعلى أن أدعك تمضين في طريقك، فما اكثر من يعرض لي من أمثالك، وما اكثر ما أتحدث إليهن وما يتحدثن إليّ، ولئن فاتني أن أعرفك واسمع من أنبائك فقد عرفت من قبلك خيالات أخرى، أستطيع أن أستأنف لقاءها متى شئت، وان أقص عليها من أنباء الأحياء، وتقص على من أنباء الأموات. قالت الجنية أو قال الخيال: ما شد طغيانكم أيها الناس، إنكم لضعاف أشنع الضعف، ولكن المكر يجعل ضعفكم قوة، وذلكم عزة، وجهلكم علما. حدثني يا فتى من تكون؟ وإلا فإني قادرة على أن أسوءك، قال بل حدثيني أنت من تكونين، واستيقني انك لا تقدرين من الإساءة إلي على شيء، بل أنا قادر إن شئت على أن اغلق بيني وبينك الباب، واقطع بيني وبينك الأسباب. وأي شيء ايسر من أن امضي إلى هذه الناحية، فإذا أنا في مملكة اليقظة التي لا وهم فيه ولا خيال، والى هذه الناحية فإذا أنا في مملكة النوم العميق التي لا تستطيع الأحلام أن تدنو منها أو تجد إليها سبيلا. قالت فإني أراك على قوتك ذكيا ماهرا، تحسن الحوار وتعرف كيف تقطع الطريق على خصومك ومحاوريك. ما أرى ألا انك جني قد اتخذت شكل إنسان، وما أرى إلا إننا نستطيع أن نتفق فنعبث بالناس جميعا، ونكيد لهم جميعا، ونخدعهم جميعا ساعة من نهار، أو يوما من أسبوع. قال بل أشهرا كاملة من عام كامل، بل عاما كاملا من أعوام طوال، فحدثيني من تكونين أحدثك من أكون. واعلمي منذ الآن إني اكره ترويع الناس والعبث بعقولهم، فان الرجل الممتاز حقا هو الذي يحسن العبث بعقول معاصريه، فان استطاع مع ذلك أن يعبث بخيالهم وآمالهم وأيديهم وجيوبهم، فهو الرجل العبقري حقا. فحدثيني من تكونين أحدثك من أكون. فقد يخيل إلي أن سيكون لهذه الساعة في حياة الناس شأن. قالت وهي تبتسم ابتساما عريضا، وأنا أيضا أرى هذا. فهل سمعت شيئا من حديث تلك المملكة التي امتلأت بذكرها كتب القصص والتاريخ؟ قال أي مملكة تريدين؟ فما اكثر المملكات اللاتي ملأ ذكرهن كتب القصص والأدب والتاريخ. قالت في شيء من الدل، وهذا العرف الذي يملأ الجو من حولك، والذي يكاد يذهلك، لولا انك رجل ممتاز لا يعرف الذهول إليه سبيلا، ألا يدلك على شيء؟ قال بلى! انه يدلني على انك قد سريت من الشرق، فهذا العرف لا عهد لي بمثله إلا في كتب القصص والتاريخ. ألا تكونين قد أقبلت من بلاد اليمن، تلك التي تحدث عنها القدماء والمحدثون؟ قالت قد عرفتني، فأنا جنية من ارض اليمن، أقبلت اعبث ببعض أهل الغرب، وابحث للجن اليمانيين عن بعض الفرائس، فظفرت بك، قال بل وقعت في يدي، فمن أي بلاد اليمن أقبلت؟ قالت من تلك المدينة العظيمة التي كانت تملكها تلك الملكة القديمة العظيمة. قال ملكة سبأ؟ قالت هي هي!: قال وعلام نستطيع أن نتفق؟ قالت على أن نعبث بالناس شيئا. ثم نهدي إليهم بعد ذلك ما يعوضهم من هذا العبث احسن تعويض. ثم اتصل الحديث بينهما وانقطع، ثم اتصل مرة أخرى وانقطع، ثم اصبح الناس وإذا الأديب الفرنسي ملرو يمر بالقاهرة في طيارة قد أنشئت له، فيقيم في القاهرة يوما وبعض يوم، ثم يفارقها، ثم تمضي أيام ثم يخفق البرق بأنه قد استكشف مدينة سبأ في اقل من تسع ساعات!. طار من جيبوتي فعبر البحر ثم مضى حتى انتهى إلى الربع الخالي، وكانت صاحبته الجنية قد سبقته وضربت له موعدا في تلك العاصمة الجميلة، ورسمت له الطريق التي يجب عليه أن يسلكها رسما دقيقا صادقا، فلما انتهى إلى موعده صور من المدينة ما صور، لم يهبط إلى الأرض، ولكن جنيته صعدت إليه، ودلته على اجمل المناظر واجدرها أن يخلب الناس ويسحر ألبابهم. ثم عاد إلى باريس وقد سبقته إليها الأنباء. والناس من أمره بين الشك واليقين، فكتب المقالات، وألقى الأحاديث ونشر بعض الصور، فأما العلماء فأنكروا، وأي شيء ايسر على العلماء من الإنكار؟ وأما غير العلماء فصدقوا وأي شيء ايسر على غير العلماء من التصديق؟
ثم تنتقل الأنباء من أوربا إلى أمريكا عابرة إليها المحيط، فيضطرب العالم الجديد اضطرابا، وإذا البرنامج كله قد تحقق، دهش الناس ثم اضطربوا، ثم صدقوا، ثم اندفعوا، فكان العبث بالعقول، ثم بالخيال ثم بالأيدي، ثم بالجيوب، فإذا كان شهر نوفمبر، فان البعثة ستعبر المحيط، ثم تعبر البحر أيضا، ثم تمضي في الصحراء، وما اكثر ما في الصحراء العربية الجنوبية من بقايا المدن القديمة التي عرفها الناس والتي لم يعرفوها، ومن يدري!،! لعل هذه الجنية التي تراءت للأديب الفرنسي ملرو، أن تبر بالوعد، وتفي بالعهد، وتهدي إلى العلماء المنكرين وغير العلماء المصدقين، مدينة قديمة فيها من الآثار ما يعوضهم من هذا العبث الذي يخضعون له في هذه الأيام تعويضا حسنا.
لا ينبغي انم ننكر على الأدباء حياتهم هذه التي يمضون فيها مع الخيال والوهم، ويسمعون فيها لأحاديث الجن والشياطين، ويتبعون فيها آمالهم وأمانيهم، فان هذه الحياة لذيذة في نفسها بالقياس إلى الأدباء أنفسهم، وبالقياس إلى الناس حين يسمعون أنباءها. ثم هي في كثير من الأحيان خصبة منتجة، تبدأ بالحلم والوهم والأمل، وتنتهي إلى اليقظة والحق واليقين. لا ينبغي أن ننكر على الأدباء حياتهم هذه وإنما ينبغي أن نتمنى لأدبائنا وشعرائنا حياة مثلها يملؤها الوهم والخيال والأمل، ويملؤها النشاط والجد والعمل والصبر على احتمال الجهد، وعلى احتمال السخرية والاستهزاء بنوع خاص.
طه حسين