مجلة الرسالة/العدد 45/العُلوم
→ - الدوق دي لاروشفوكو | مجلة الرسالة - العدد 45 العُلوم [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 14 - 05 - 1934 |
4 - يسألونك عن الأهلة
للدكتور احمد زكي
(تتمة)
سطح القمر
ثم جاءت الفوتوغرافيا فمكنت الإنسان في ساعة قصيرة مما كان يتطلب منه أياما طويلة، وقدّرته بمجهود فني مركز قليل، على ما لم يكن يقدر عليه إلا بمجرد قاس منهك كبير، وكانت الفوتوغرافيا في منتصف القرن الفائت في أول نشأتها، فكانت الخدمات الأولى التي أدّتها إلى علماء الأفلاك منقوصة مقصورة. ولكن ما لبثت أن تقدمت هذه بتقدم تلك، ورقب بحاث السماء بحاث التصوير فاستفادوا من كل جديد، وغيروا وحوّروا من الطرق المستحدثة حتى تتفق مع حوائجهم، وزادت تلك الحوائج وتضخمت حتى انفردت بمبحث خاص أسموه الفوتوغرافية السماوية هي اليوم من أهم الوسائل وأقرب الوسائط في دراسة كل ما يحدث في العوالم الدوّارة والشهب السيارة، وللتصوير الشمسي في دراسة النجوم والأقمار ميزات غير الميزة الظاهرة ترجع إلى طبيعة العدسات وإحساس الأفلام. فعين الإنسان مثلا إذا حدّقت في شيء مباشرة أو بواسطة منظار فهي لا ترى من هذا الشيء إلا بعضاً صغيراً من كل كبير، لذلك كان الرسامون القدماء يرسمون القمر بأقلامهم من خلال المنظار قطعة قطعة، وخريطة خريطة، ثم يصلون بين هذه الخرائط لتتم الوحدة، وذلك لأن عيونهم لا تستطيع أن تُبَوئر من المنظور إلا منطقة قليلة، أما عين الكمرة فأوسع من عين الآدميّ واشمل، فنظرة واحدة منها تعدل نظرات المئات من الناس. وعين الكمرة يتراكم فيها أثر المنظور بتطاول الزمن، وليس هذا لعين الإنسان، فأنت تنظر الشيء القليل الضياء فلا تراه أبداً أو تراه مبهما، ولا تفيدك إطالة النظر إليه إلا تعب العين فزيادة الإبهام، أما الأثر في الكمرة فكيميائي فللزمن عامل فيه، فكلما زاد التعريض زاد الأثر فبان الخفي واتضح المبهم. وقد رأت الكمرة وترى في السماء أجراما عميت عنها النواظر. وعين الكرة تحس أضواءً من أنواع لا تراها العين، فالعين لا ترى إلا المرئيّ من الطيف، أما فوق البنفسجي وما دون الأحمر فلا ترى منهما شيئاً، وهي أضواء في دراسة السماء لها خطر كبير تضطلع به الكمرة بكفاية محمودة
والقمر أول أجسام السماء التي اتجه إليها البحاث في التصوير الفوتوغرافي، اقترح ذلك أراجوا عام 1840 ولكن انفذه الدكتور درابر في نفس العام، وكانت طريقة التصوير المعروفة عندئذ هي طريقة داجير يستخدمون فيها لوحاً من نحاس مُفضَّض يحسّسونه ببخار اليود والبروم، ونجح بها تصوير القمر لأول مرة نجاحاً خطيراً، ولم يكن خطره في حسن الصورة الناتجة وشدة وضوحها وكثرة تفصيلها، فهي لم يكن لها ذلك، وإنما كان خطره في ان القمر أمكن تصويره من ضوئه، فقد كان الناس في شك من احتواء هذا الضوء على أشعة الشمس التي تؤثر في أملاح الفضة
وجاءت طريقة التصوير بالكلّوديون وهو النتروسليولوز مذابا في كحول وأثير، يضاف إليه يودور الصديوم أو البوتاسيوم مع قليل من البرومور، ثم يُفرش على ألواح من زجاج تغمس في الظلام في حمام من أزوتات الفضة فيتكون عليها بذلك يودور الفضة وبروموره وهما الملحان الحسّاسان.، وكان لا بد من تجهيز اللوح قبيل التصوير مباشرة. استخدم هذه الطريقة كروكس وديلارو فجاؤا بصور أقصر زمنا وأوضح تفصيلا. ثم خطت الفوتوغرافيا خطوتها الثالثة في التقدم فصنعت الألواح من الجيلاتين بدل الكلوديون فخرجت إلى الأسواق ألواح جافة. ثم حلت الأفلام محل الزجاج. ولا دراك الفرق بين طرق التصوير الثلاث الفائتة نذكر أن متوسط المدة اللازمة لتعريض اللوح في طريقة داجير هي نصف ساعة، وفي طريقة الكلوّديون عشر ثوان إلى خمس عشرة ثانية، وفي طريقة الجلاتين ثانية إلى جزء من مائتين من الثانية. والزمن له قيمته في تصوير المتحركات ومنها الأجرام السماوية
وتتخلص نتيجة الفحص البصري والفوتوغرافي في تمييز أشياء ثلاثة على سطح القمر هي أظهر ما فيه
اما الشيء الأول فسلاسل من الجبال متباينة الأشكال، بعضها بالغ العلو طويل السلسلة، وبعضها مفرطح متصل يكون نجادا واسعة، وبعضها متقارب الجبال متجمعها، وبعضها كبير الميل عميق السفح رفيع القمة. وقد توجد في الوديان تلال كالاهرام منثورة مبعثرة، وقد تعلو وتميل بغتة حتى لتشبه أكثر مناطق الأرض وعورة، ومن أغرب ما في تلك السلاسل جسور قليلة العلو إلا أنها مسرفة في الطول تمتد بين الجبال فتربط الكبير والصغير والمجموع بالمنثور.
أما الشيء الثاني فجبال ذات فوهات كالبراكين هي في الواقع أخص مظاهر السطح، وهي فوهات أوسع كثيراً من فوهات البراكين الأرضية، فجبل كوبرنكس يبلغ قطر فوهته فوق الخمسين ميلا، وتختلف تلك الجبال الفوهية في مظهرها، فبعضها فوهته كالحائط المستدير، وبعضها تكسرت فوهته فظهر ما بقي منها كالجبال تجمعت في استدارة حول حفرة الفوهة، وبعضها عمقت حفرته أو ضحلت أو تقورت أو تقعرت، وبعضها انخفض قاع حفرته عن مستوى الأرض بظاهر الجبل، وبعضها قاربه أو علا عنه كأنه فنجان امتلأ، وتعزى أصول هذه الجبال الفوهية القمرية إلى مثل أصول البراكين الأرضية، ومنها ما يركب بعضه بعضا كما تعلو الحلقة الحلقة ولا تطابقها، فيقال إن الأوطأ كانت بسبب انفعال باطني أقدم
ويميز الإنسان على سطح القمر عدا ما فات أخاديد مستقيمة تستطيل في الوديان في اتجاه واحد فإذا انحرفت عنه فعلت ذلك بغتة وسارت في استقامة جديدة، فاذا اعترضها جبل فوهيّ قطعتهن فهي أجدُّ منه ولادة، وإذا اعترضها جبل عصى فقطع اطرادها ظهرت وراءه دون أن يختلف مسارها. أما طول الأخدود الواحد فقد يبلغ المائة ميل، وأما عرضه فقد يزيد على الميلين، وتعزى هذا الأخاديد فيما تعزى إلى انشقاقات حصلت في السطح وهو يبرد وينكمش
وتتميز على سطح القمر أيضاً شعاعات تخرج من فوهات الجبال فتمتد مئات من الأميال لم يهتد الفلكيون بعدُ كل الاهتداء إلى تفسيرها
وكلما تقدم البحث في القمر وزادت معرفة الإنسان بأحواله خاب الرجاء القديم في العثور على أثر من آثار أناسيّ مثلنا تسكن القمر. بالطبع لم يكن مرجواً أن نرى شخص إنسان على القمر لقصور أجهزتنا الضوئية عن إدراك ذلك، ولكن تلك الأجهزة تتبين على سطح القمر أشياء تقل أطوالها عن نصف ميل، وإذن فلو كان على القمر ناس يسكنونه وفاتتنا رؤيتهم فلا أقل من أن نرى آثارهم، فالمدن لابد أن تكبر عن نصف ميل، وهي لا شك تتغير خططها فتضيق وتتسع على الزمن، وتمتد إن شرقاً وإن غربا وإن شمالا وإن جنوبا وقد تطول وقد تستعرض، وقد فاتنا إدراك شيء من ذلك بأقوى المنظارات. هذا على افتراض أن الإنسان الذي يسكن القمر مخلوق على مثال إنسان الأرض في حجمه وجرمه، وهو افتراض لا تعززه طبائع الأمور. فانا نعرف إن الجاذبية على سطح القمر أقل منها على سطح الأرض، فهي تبلغ نحو الثمن، فالرجل منا إذا نط على سطح القمر ارتفع إلى نحو ثمانية أمثال ارتفاعه على سطح الأرض فمن اجل اتزانه يرجح أن يكون جرمه ثمانية أمثال جرمه على الأرض. وحكم مساكن الإنسان على القمر كحكمه، فهي إن كانت فلا بد أن تكون كبيرة ضخمة لتتوافق مع ساكن ضخم كبير ولتثقل فتتزن على سطح القمر فلا تندك من اهتزاز قليل. والمنازل الواسعة تؤلف لا شك مدناً كبيرة مديدة أكبر من مدن الأرض وهذا يسهل علينا مرآها، ولكننا لم نر شيئا. على أن كل الأدلة تقضي بخلو القمر من الماء ومن الهواء، وكلاهما لازم للحياة علت أو سفلت. والحياة كما نعرفها لا تكون إلا في درجات من الحرارة محدودة، فهي لا تزيد كثيراً على الخمسين، ولا تنزل كثيراً عن الصفر، والمعروف عن القمر أن نهاره بخمسة عشر يوماً من أيامنا، يظل فيه في مواجهة الشمس يأخذ من حرارتها فتعدو درجته المائة، يتلوه ليل بخمسة عشر يوماً من أيامنا يبرد فيه برودة دون ما تحتمله الحياة بكثير. فالحياة - كما نعرفها - لم يثبت وجودها على القمر، لا عياناً ولا استنتاجاً، بل ثبت النقيض.
احمد زكي