الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 45/القصص

مجلة الرسالة/العدد 45/القصص

البلبل والزهرة
The Nightingale and the Rose

القصص
أوسكار وايلد
البلبل والزهرة هي قصة قصيرة بقلم أوسكار وايلد نشرت عام 1888 في مجموعة "الأمير السعيد وقصص أخرى". نشرت هذه الترجمة في العدد العدد 45 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 14 مابو 1934


البلبل والزهرة

لأسكار ويلد

ترجمة الأستاذ محمود الخفيف

صاح الطالب الشاب قائلا (وعدت أنها سوف تراقصني إن أنا أحضرت لها ورداً أحمر، ولكن ليس في حديقتي كلها وردة حمراء).

فسمعه البلبل وهو في عشه على شجرة السنديان وتطلع إليه في دهشة من خلال الأوراق وأردف الفتى قائلاً وقد اغرورقت بالدمع عيناه الجميلتان (لن توجد وردة حمراء في حديقتي كلها! آه. كم تكون السعادة رهينة بأتفه الأمور! لقد قرأت كل ما كتبه العقلاء ووقفت على أسرار الفلسفة ومع ذلك أرى حياتي يكتنفها الشقاء من أجل وردة حمراء)!

وعندئذ قال البلبل (ها قد لقينا في النهاية محبا صادقا. لقد طالما تغنيت بذكره الليلة تلو الليلة ولو لم أكن أعرفه. ولقد طالما تحدثت عنه إلى النجوم. وهأنذا أراه الآن! إن شعره فاحم كزهرة الخزامى، وان شفتيه لتمثلان في حمرتها الوردة التي يطلب، ولكن تواجده قد أحال لون وجهه إلى لون العاج المصفار، كما أن الأسى قد ترك طابعه فوق جبينه).

وتمتم الطالب قائلا (سوف يقيم الأمير حفلا مساء غد وستكون عشيقتي هناك، فان أنا أحضرت لها وردة حمراء فإنها ستراقصني حتى مطلع الفجر، وسوف تسند رأسها إلى كتفي، وتضع يدها في قبضة يدي. ولكن ليس في حديقتي وردة حمراء، وإذا فسوف أنزوي وحيدا، وستمر بي عشيقتي فلا تأبه لي، وإذ ذاك يتحطم قلبي!) وعاد البلبل إلى حديثه قائلا (ها هو ذا محب وفي حقا! انه يشقى بما أترنم أنا به، وان هذا الذي بعد مبعث الجذل عندي أراه عنده مبعث الهم والألم. حقا ان الحب لشيء عجيب! أانه أغلى ثمناً من الزمرد، وأندر من تلك الجواهر المعروفة بعين الهر، ولا يمكن أن يقوم باللآلئ، كما انه لن يعرض في الاسواق، ولن يوجد عند تاجر أو يوزن في ميزان الذهب)

وقال الفتى (سوف تجلس جوقة الموسيقى في البهو، وسوف يعزف أفرادها على آلاتهم، وعندئذ سوف ترقص عشيقتي على نغمات العود والقيثار، وسترقص في خفة حتى لن تمس قدماها الأرض، وسيجتمع حولها رجال الحاشية في ثيابهم الزاهية. أما أنا فإنها لن تراقصني، فليس لدي وردة حمراء أقدمها إليها)، وعندئذ ألقى الفتى بنفسه على العشب وغطى وجهه براحتيه واستسلم للبكاء فتساءلت حرباء خضراء، كانت تجري إلى جواره رافعة ذيلها في الهواء (ما الذي يبكي هذا الشاب)؟ وشاركها في تساؤلها فراش كان يرف في شعاع الشمس. حقا ماذا يبكيه؟ (وأعقبتهما أقحوانة، فهمست إلى جارتها في صوت خافت ناعم قائلة (فيم هذا البكاء)؟

وأجاب البلبل قائلا (انه يبكي من أجل وردة حمراء)

فصاح الجميع في دهشة (من أجل وردة حمراء؟!. يا له من أمر مضحك، وصاحت الحرباء الصغيرة ضاحكة منه وفي عينيها معاني التهكم.

ولكن البلبل كان يفهم سر هذا الحزن فجلس صامتاً على شجرة السنديان مفكرا في الحب وما يكتنفه من أسرار.

وبينما كان غارقا في تفكيره، إذ بدا له فنشر أجنحته ذات اللون البني، وارتفع في الهواء، وعبر الحديقة كما يعبر الطيف حتى وقع بصره على شجرة ورد جميلة، فحط على غصن من غصونها، وصاح بها قائلا

(أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني)

ولكن الشجرة هزت رأسها قائلة (إن وردي كله أبيض، كزبد الموج في بياضه أو هو أشد بياضاً من الثلج الذي يكلل فتن الجبال. اذهب إلى أختي هنالك حول المزولة وستعطيك ما تطلب)

وطار البلبل حتى أتى تلك الشجرة فصاح بها

(أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني)

ولكن الشجرة هزت رأسها قائلة (إن ورودي كلها صفراء، تحكي في صفرتها شعر الجنية التي تجلس على عرشها الكهرماني، أو هي اشد صفرة من زهرة النرجس التي يسطع لونها في المرعى قبل أن يأخذها المنجل. ولكن اذهب إلى أختي هنالك تحت نافذة الطالب، وربما منحتك طلبتك، فانطلق البلبل إلى تلك الشجرة فخاطبها بقوله:

أعطني وردة حمراء فأغنيك أحسن أغاني.

فهزت الشجرة رأسها قائلة (إن ورودي حمراء، كقدم الحمامة في حمرتها، أو هي أشد حمرة من مراوح المرجان الهائلة التي تتماوج في جوف الخضم، ولكن الشتاء جمد عروقي، والصقيع نثر براعمي، والعاصفة قصفت غصوني، ولذلك فسوف لا ألد وردة هذا العام)

فقال البلبل (ان كان ما أطلبه وردة حمراء واحدة، وردة واحدة فقط. أو ليس من سبيل إلى تلك الوردة)؟

وأجابته الشجرة قائلة (هناك وسيلة إلى مبتغاك، ولكنها جد مخيفة حتى أنني لا أقوى على ذكرها).

ولكن البلبل رد بقوله (هات ما عندك فلن أخاف شيئا)

وحينئذ قالت الشجرة (إذا كنت تريد وردة حمراء فعليك أن تبغيها بألحانك في ضوء القمر ثم تفرغ عليها دم قلبك. عليك أن تغنيني، وصدرك مسند إلى شوكة من أشواكي، وعليك أن تقطع الليل كله صادحاً على أن تدع الشوكة تنفذ إلى قلبك حتى يتدفق دم حياتك في عروقي ويصبح لي)

وصاح البلبل قائلا (كثير أن أقدم حياتي ثمناً لوردة حمراء، وحياة كل مخلوق غالية عنده. لشد ما يبهجني أن أجلس في الغابة الخضراء وأرقب الشمس تجري في مركبها الذهبي، والقمر في مخدعه اللؤلؤي. ما أجمل منظر الزهور في عدوتي الوادي وعلى سفوح التلال، وما ألذ النسيم ينشر في الجو عطره الفياح. على أن الحب أحسن من الحياة، وما قيمة قلب طائر اذا قورن بقلب رجل)؟

ونشر البلبل أجنحته البنية وارتفع في الجو وعبر الحديقة كما يعبر الطيف، حتى أتى الطالب فوجده حيث تركه لما يزل مستلقيا على العشب، ولم تجف الدموع في عينيه الجميلتين، فوجه إليه الخطاب قائلا: (أبشر أيها الفتى ولا تحزن فسآتيك بالوردة الحمراء. سوف أبغيها بأغاني ضوء القمر، وسوف أصبغها بدماء قلبي، وكل ما أطلبه منك في نظير ذلك أن تظل وفياً في حبك، فان الحب أكبر عقلاً من (الفلسفة) وان اشتهر بالحكمة، وأشد سلطانا من القوة وإن اشتهرت باليأس. ان أجنحته حمراء كاللهب، وان جسده مشبع الصبغة من ذلك اللون المتوهج، أما شفتاه فحلوتان كالشهد، وأما أنفاسه فعطرات كالعنبر المتضوع.

ورفع الطالب رأسه مصغياً ولكنه لم يفهم ما قاله البلبل لأنه لا يفهم إلا ما يقرأ على صفحات الكتب.

ولكن شجرة السنديان فهمت ما أعيا الطالب فهمه، فاشتد حزنها لأنها كانت تحب هذا البلبل الصغير الذي بنى عشه في أحضانها، ثم توسلت إليه أن يغنيها أغنيته الأخيرة قائلة إنها سوف تعاني آلام الوحشة والعزلة لفقده.

فغناها البلبل أشجى ألحانه، وكان صوته العذب كصوت الماء ينصب من إبريق فضي، ولما فرغ من غنائه نهض الطالب وقد أخرج من جيبه ورقاً وقلما وحدث نفسه وهو يسير في ممرات الحديقة قائلا

(أما ان لهذا البلبل طريقة في لحنه فهذا ما لا سبيل إلى إنكاره، ولكن ليت شعري هل يصحب هذا اللحن شعور؟ أخشى أن يكون هذا الشعور معدوماً، وإذا رجعت إلى الحقيقة فهو كمعظم الفنانين. إن له أسلوباً ولكنه ينقصه الإخلاص لفنه. وانه لن يضحي بنفسه من أجل الغير. ولن يفرك إلا في الموسيقى، وكل إنسان يعلم أن الفن والأنانية صنوان، وعلى أي حال فلن أستطيع أن أنكر عليه ألحاناً جميلة في صوته، ولكنها مع الأسف لا روح فيها وليس ثمة أية فائدة من ورائها).

ودخل الفتى حجرته واضطجع على سريره مفكراً في حبه وبعد هنيهة ظلله الكرى بجناحيه.

ولما أضاء البدر في السماء طار البلبل إلى شجرة الورد، وأسند صدره إلى الشوكة وجعل يغني طول ليلة والشوكة تنفذ في صدره رويداً رويداً، حتى تدفق الدم من عروقه والبدر ينصت إليه في هدوء.

غنى البلبل أولا عن الحب وكيف يولد في قلب كل صبي وصبية، وعند ذلك أسفرت وردة بديعة في أعلى أغصان الشجرة، وكانت تزداد ورقة في إثر ورقة كما كان يرسل البلبل ألحانه لحنا في اثر لحن. وكان لونها أول الأمر شاحبا كلون الضباب الذي يطفو على صفحة النهر، أو كقدم الصبح إذا تقدم يسعى، أو كجناحي الفجر عند طلوعه، كان كلامه حيال الزهرة في مرآة فضية، أو في صفحة بركة ساكنة. ولكن الشجرة أهابت بالبلبل أن يضغط بصدره على رأس الشوكة قائلة: (أقبل بصدرك على الشوكة أكثر مما تفعل أيها البلبل الصغير وإلا أسفر الصبح ولما تتم الوردة.

وأطاع البلبل فاشتد ضغطه على الشوكة، وكانت ألحانه تعلو شيئاً فشيئاً إذ أخذ يغني عن العاطفة، وكيف تنشأ في نفوس الفتيان والأوانس. وهنا تمشت حمرة خفيفة في الوردة، حمرة أشبه بتلك التي تصبغ وجنة العروس عندما يطبع أول قبلة على شفتي عروسه! ولكن الشوكة لم تكن حينذاك قد وصلت إلى قلبه، فبقي قلب الوردة أبيض، فلن يصبغه بالحمرة إلا الدم المنبعث من صميم قلب البلبل ولذلك صاحت الشجرة بالبلبل قائلة: أقبل بصدرك على الشوكة أيها البلبل الصغير وإلا طلع النهار ولما تتم وردتك).

وزاد البلبل الشوكة ضغطا حتى مست قلبه فاشتد ألمه، وكان غناؤه يزداد ارتفاعا كلما اشتدت حدة الألم، كانت ألحانه تتجه اتجاها غير متزن، إذ كان حينذاك يغني عن الحب كيف يصل به الموت إلى الكمال وكيف يضمه القبر، فلا سبيل إلى تغيره في هذا المثوى الأخير.

وهكذا اكتست الوردة لونا قرمزيا، سرى في جميع أجزائها، وكان صوت البلبل المسكين يتضاءل، وكانت أجنحته ترف وقد مرت غشاوة أمام بصره حتى وصل لحنه إلى صوت خافت وأحس بحشرجة في حنجرته.

وأطلق البلبل آخر نغماته فسمعها القمر الوضئ، فنسى مطلع الفجر وتلكأ في صفحة السماء، وسمعته الوردة الحمراء فاهتزت اهتزاز الغبطة، وفتحت أوراقها لنسيم الصباح، وحمل الصدى هذا اللحن إلى الكهف القائم على سفح التل فبدد أحلام الرعاة وأيقظهم من سباتهم، ثم سبح هذا اللحن خلال اليراع المتمايل على ضفة النهر ومن ثم اتخذ سبيله إلى البحر.

وخاطبت الشجرة البلبل قائلة، ها هي ذي الزهرة قد تمت، انظر بعينك إليها ما أجملها، ولكن البلبل لم يجب فقد لفظ أنفاسه وسقط جثة هامدة بين الحشائش، والزهرة مغموسة في صدره. وعند الظهيرة فتح الطالب نافذته وألقى ببصره إلى الحديقة فصاح قائلا (ياله من حظ سعيد ها هي ذي وردة حمراء. لعمري ما رأيت وردة كهذه في حياتي. إن جمالها ليميل بي إلى الاعتقاد بأنه لابد أن يكون لتلك الوردة اسم لاتيني طويل) ثم ذهب إليها فقطفها.

ولبس الفتى قبعته، وجرى إلى بيت الأستاذ والوردة في يده وكانت ابنة الأستاذ جالسة لدى الباب تلف خيوطا من الحرير الأزرق وكلبها الصغير نائم عند قدميها فخاطبها الفتى قائلا:

(لقد وعدت أنك سوف تراقصيني إذا أحضرت لك وردة حمراء، انظري إلى هذه الوردة إنها أشد الورود في العالم حمرة سوف تضمينها هذه الليلة على صدرك في موضع قلبك، وعندما ندور معاً في رقصتنا ستحدثك هذه الوردة عن مبلغ حبي لك)

ولكن الفتاة عبست قليلا ثم قالت

(أخشى ألا يلائم لونها لون ملابسي، وزيادة على ذلك فقد أرسل إلى ابن أخي رئيس الحجاب بعض الحلي الثمينة وأظنك تعرف أن الحلي أغلى من الزهور).

وصاح الفتى مغضباً:

(لعمري انك ناكرة للجميل، ثم رمى بالزهرة في الشارع فمرت فوقها عجلة فتلاشت وأجابت الفتاة

(ناكرة للجميل)؟ يا لك من فظ! ولكن قبل كل شيء خبرني من أنت؟ إن أنت إلا طالب فحسب، وما أظنك قد اتخذت يوما رباط حذائك من فضة كما فعل ابن اخي رئيس الحجاب، ثم نهضت واقفة ودخلت المنزل.

وقال الطالب وهو يبتعد عن دارها، ما أسخف الحب، أين هو من المنطق وفوائده؟ إنه لن يحقق شيئاً ما، ولن يحدثنا إلا عما لا يمكن حدوثه، وزيادة على ذلك فهو يجعل المرء يعتقد في أشياء لا ظل لها من الحقيقة، إنه في الواقع أمر غير عملي، وما دامت النزعة العملية هي كل شيء في هذا العصر، فإني سوف اتجه ثانية إلى الفلسفة وأدرس العلوم العقلية.

وعلى ذلك اتجه إلى حجرته وتناول كتاباً كبيرا قد علاه التراب، ففتحه وانكب عليه قارئا.

محمود الخفيف