مجلة الرسالة/العدد 449/من مذكرات عمر بن أبي ربيعه
→ على ذكرى الهجرة | مجلة الرسالة - العدد 449 من مذكرات عمر بن أبي ربيعه [[مؤلف:|]] |
هجرة في سبيل الله ← |
بتاريخ: 09 - 02 - 1942 |
أيام حزينة
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة. . .):
وجاء ابن أبي عَتيقٍ (هو عبد الله ابن محمد أبي عتيق ابن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق)، فوالله لأن كنتُ بين ضِرْسين من الجبل يدوران عليَّ دَوَرانَ الرَّحَى، أهونُ عليَّ من أن أكون لقيتُ هذا الرجلَ الحبيبَ!
كانَ رجُلاً ضربْاً خفيفَ اللَّحم أحمر طِاهِرَ الدَّم كأنّ إهابه شُعْلةً تشبُّ وتتلهَّب، أفرعَ فينَانَ الشَّعر، مخروطَ الوجه، أزهر مُشرقاً كأنّ بين عينيه نجماً يتألق، يُقْبل عليك حُرُّ وجْهه بعينين نَجْلاوين قد ظَمِئ جفْناهما حتى رقَّا، يرسلُ إليك طرَفةُ فترى الضحك في عينيه خِلقَةً لا تكلّفاً. ما احسبني رأيته مضرةَّ إلا خلْتُه دعابةً قال لها الله: كوني! فكانتهُ. وكأني به قد دَخل على أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وهي تَكيِد بنفسها - في مرضها الذي ماتت فيه - يقول: كيف أصبحت يا أمّاهُ؟ جعلني الله فِداكَ! فتقول عائشة: أجَدُني ذاهبةً يا بُني! فيقول: فلا إذنْ يا أم المؤمنين!! فتتبسم عائشة وتقول: حتى على الموت يا ابن أبي عتيق!! فيقول: أرضاكِ الله يا أماَّه! لو جَاءني الموتُ كأكرهِ ما يأتي على حيِ، ما تركتُ له دعابتي حتى يستضحك، فيرحل بي عن الدُّنيا بوجهْ غير الذي جاء به!
فلو أنّ أمراً من عرضْ الناس لا أعرفه، جاءني فزعم أن نجماً في السماء بكى، وأن القَمرَ مدّ إليه مثلَ اليَد فكفكف من عَبَراته، لكان أقرب إلي منْ يأتي آت يقول هذا ابنُ عتيق في الناس بعينين ضارعتين خاشعتين ذاهلتين يعرفُ فيهما البُكاء!
رجل صالح تقي خفيف الروح نشوان القلب، قد انحدر من جده (عبد الرحمن بن أبي بكر الشاعر)، حنين الشاعر حين يرى الدنيا كالغانية المنعّمة تتصبيّ له وتتقتَّل، فيحن إليها بصبَوات الشباب المتوهج. . . وآب إليه من جده (أبي بكر الصديق) حنان التقي وهو يرى الدنيا كالناشئة الغريرة لا تزال تنشُدُ تحت جناحه دِفء الأبوّةِ فتأوي إليه وتتضوّرُ، فهو يخفض لها من رحمة الوالد المتحنن. . . فابن أبي عتيق من هذين الأبوين كالربيع: جمال وشباب، ورقة وحنان، وفرح ل وكنتُ أجدهُ فيما يتوقَّدُ علىَّ من الكُربِ كالغمامة الغادية: ظِلٌّ ورِيٌّ، ثم لا يزال بي حتى أَنام إلى دعَابته، فإذا آلاميٍ تطوف بي من بعيدٍ كأنها أَحلام، بعد أن كانت في دمي جمرة تتلذّع. ولقد أكون مما أستعصي عليه بأحزاني، فأريدُ أذهب عنه نافراً أبتغي أن أعكُفَ على آلامي كما يعكُفُ العابد على بُدّه، فما هو إلا أن يأخذَ ينشد:
مَتى ترَعْينيْ مالكٍ وجِرَانه ... وجنبَيْه، تعْلَم أنه غيرُ ثائِر
حِضَجْرٌ، كأمَّ التَّوْأمَينِ توكَلتْ ... على مَرْفقَيْها مسْتهِلَّةَ عاِشر
فينشد أغرب إنشادٍ وأعجبه، ولا يزال يجرك ويشير ويمثَّل، فوالله ما من ساعة أنشدنيها هذين البيتين، وأقبل عليَّ يريني ما يأتي به، إلا نبع الضحك من قبلي دفعة حتى ما أتماسك معه
فكيف به اليوم وقد سكن كأنه دمعة خافتة تئنُّ تحت الزفراتِ، يمشي إلى كأن أيامه تطوفُ به ثاكلاتٍ نائحات، يغض طرفه كأنما يمسك عبرة همَّتْ من هاربة من الأسر، يطأطأ هامته كأنما يقول للزمن: تخطَّ، فلم يبق بيني وبينك عَملٌ أيها الجبَّار، يستكين حتى لأخاله يجمعُ أطراف نفسه لا يزاحمُ أفراح الناس بما يريد أن يتنفَّسَ من أحزانِه
لك الله يا ابن أبي عتيق! لقد كانتْ لك كالجدول النَّامي
النمير: هو سرٌّ الأرض، وسرُّ العود، وسرُّ الزُّهر، وسرُّ العطر؛ فلما جَفَتْ عنك همدت أرضك، وظمئ عودك، وصوَّحَ زَهرك، وتهارب عطرُك. . . زوجةٌ كانت تستودع روحك مع كل شارق، ما تتملَّى به أفراحِك ولهوك ودُعابتك، فتخرج إلى أحبابك لتحمل عنهم همومهم فتغرقها في ذلك البحر الخِضَمَّ من الفرح والابتسام والرضى!
ودخل ابن أبي عتيق فسلَّم سلام الذاهل المتوَله، ثم جلس كأنما هو يلقي عبئاً ثقيلاً كان يمشي به، ثم نَظر في عينيَّ بعينين ندَّيتين ترى في غورْهما ذلك التنُّور المتضرمَّ يتقاذف شُعَلَه في ثنايا النفس وفي مسارب العاطفة. وأدام النَّظر لا يرفعه عني كأنما يقول: انظرْ واعرفْ ولكن لا تتكلَّم! فأشهد أني افتقدتُ ما أقول أعزَّيه به أو أرفه عنه، بل كأنما أفرغ بعينيه في عينيَّ من أحزانه، حتى أراني أجد مسَّ النار في صدري وهي تستعر ولكني خفتُ على صاحبي ورفيقي إن أنا سكتُّ له، أن أكون قد خلَّيت بينه وبين همه، وإن أحدنا لو قَعَد يمارسُ أحزانه يوماً بعد يوم لصرعتْه. أجل وإن الحزن ليهجُم على النفس كالَسُبع الضاري، حتى إذا عَبرَ إليها وقف يستأنس متلفَّتاً يريد ما يختلج أو يتحرَّك، فما هو إلا أن يُهويِ إليه فيبطش به، أو ينشب فيه براثنه ينفضه ثم يقضقضُه حتى يهمد. وإذا خُلَّى السبع لا يُذَاد يُطْرد بقي يتأبَّد ويستوحش. ولا يزال على عادته يستمرئ كل ساعة فريسته يغمس في دمها أو يَلغ، ثم لا يطفُّ حتى تكفُّ الحياة عما ينبض أو يتنفس.
وأخذتْ أزورَّ له الأحاديث في نفسي. فلما هممت بها لم أقل إلا ما يقول الناس: عزاءك يا أبا محمد! فوالله كأنما بها الطير الجثوم، وظل وجه ابن أبي عتيق يروح الدم فيه ويغدو، وجعلت عيناه ترسلان على نظراتهما الدمعَ الذي لا يسفح، والعَتْب الذي لا يتكلم، وظلّ صامتاً، وراحت نفسي تنخزل عما أقدمت عليه، ولكنه لم يلبث أن زَفر إليَّ زفرةً خلت في نفثاتها شرراً يتطاير. ثم قعد يتململ حتى قال:
إن أيامي - يا أبا الخطاب - قد استحالت تيهاً أمشي فيه على مثل هذه الجَمَرات، ولقد كنتما عَهِدتُني، والأيام من حولي عُرْسٌ لا أعدم فيها ما أطربُ له. كَنت إذا ما حزن بعض أيامي، أجد من أفراح الماضي ما أهرب إليه بالذكرى، وأتوهَّم من نشوة الآتي ما أترامي إليه بالأمل، فكنت أعيش بفرحةٍ أحضرُها أو تحضرني لا أخاف ولا أجزع ولا أتوهم في الحياة إلا الخير. فأنا وقد أبت بغتات القدر إلا أن تنتزع منِ كفَّيَّ ما كنت أضنَّ عليه، فهيهات لها بعد اليوم أن تطيق انتزاعه من فكري. آه. . . آه يا عمر! كانت ملئ عيني وروحي وقلبي. كنت أعيش تحت نسيمها كالنشوان ذاهلاً عن الألم مهما أمضَّ، مستصغراً للكبير وإن فَدحَ، راضياً باسماً متحفَّفاً. . . إذ كانت هي هي الأماني تتجدَّدْ مع أيامي علىّ علىَّ وتتبلّج مع كل فجر في قلبي، ما كنت جزوعاً ولقد جزعت! كيف قلت: عزاءً يا أبا محمد! ها الله يا أبن أبي ربيعه
كيف صبري عن بعض نفسي! وهل يصبِرَ عن بعض نفسه الإنسان؟
كانت بيني وبين الدنيا، وكانت آية الرفق والفرح، فكنت أرى الدنيا بعينها مشرقةً من تحت غياهب الأحداث، فالآن إذ نامت عني، كيف أرى إلا قِطعاً من الليل تغتالني من كل وجه، أو أشلاءً من الدياجي تجثم لي بكل سبيل؟
ثم رأيت في عينيه المَلل وهو يطوي على نظراته ما نشرتْهُ الحياة من همه النفس؛ وتخيلته - حتى كدت أتبينه - شبحاً ينساب في ظُلمة الليل فرداً قد انخلع من الحياة وأسبابها، فهو يضرب في حشا الظلماء بسآمةٍ لا تهتدي ولا تريد أن تهتدي، وقد كدت مما شجيتُ له أن أدع إليه الحديث حتى يَستِتمَّه، ولكني أعرف في قلبه الرَّقةَ، فخشيتُ أن يمضي به الحزن على غَلْوائه، فقلت له:
مَهْ مَهْ يا أبا محمد، والله ما أنكرتك منذ عرفتك، ولكني اليوم منكر لك أو كالمنكر. أليس لك في إيمانك وإيمان آبائك معتصم أيها الشيخ؟ ما إسلامك النفس للجزع وما غلوُّك فيه؟ إن امرأً يؤمن بالله واليوم الآخر لخليق أن يستكين إلى قضاء الله استكانة الوليد إلى أمه. وإن أمراً يختاره الله لامرئ هو أهدى سبيليه لا ريب، شَقِي بذلك أم سَعِد، وما يمسك النفس على أحزانها للأمر من قدر الله إلا الشيطان. خبرنَّي يا أبا محمد! هل ابتُلِىَ الناس فيما ابتلُوا به بما هو أفضع من فجيعتهم برسول الله ﷺ؟ كلا! فقد حزن الناس حتى أخذتهم آخذة، وحتى أنكر أحلمهم حلمه، وحتى إن بعضهم ليوسوس، فقام إليهم جدَّك الصديق فرد الناس إلى أحلامهم، وهو أشدهم حزناً على صاحبه ورفيقه؛ فعلم الناس أن الحزن للقلب وحده، وأن العقل والجوارح إنما هي للعمل، وأن هذا هو طريق الإيمان بالله وبقضائه: خيره وشره، أفأنت من يجوز عن سنة الله وسنة المهتدين من آبائه يا أبا محمد؟ كنتَ المرءَ الصالح الذي يرى الدنيا بعينيْ زائل، فما بالك اليوم تراها بِعَيْني متشبث قد أنشب فيها أمثال البراثن من عقله وفكره، فهو يتأَّبى أن يدور في وهمه أنه مفارقها؟
قال ابن أبي عتيق:
حنانيك يا عمر! فوالله ما تعلمين يا ابن أبي ربيعه إلا ما علمت. لقد عَجمت مني الحوادث صخرة مُلمْلمة لا تضرع. كم سحرْت من الدنيا وأحداثها، فجعلت أطويها في دعابتي طيَّ المُلاءة! كنت أتخففُ منها بنشوة أحْدثها في قلبي، فلو كان عليه مثل الجبل من الهمَّ لطار فيها كما تطير خافية من جناح. ولكني اليوم. . آه! لقلَّ ما جرَّبتَ يا عمر! أسلمت لله مُقَبِل أمري ومُدْبرَه يصرَّفه شاء. ولكني أجدُ هذا القلب المعُني لا يزال يخفق بالذكرى؛ أفأنت منكرٌ علىّ يا عمر أن أذكرها نسيماً رَفرفَ بين الجوانح والقلب؟ أني لي أن ألوِيَ النفس عن آثارها، وما أكاد أرى شيئاً إلا خلته يحدثني حديث الثاكِل: أنينٌ وحنين؟ فأين المهرب؟ دع عنك يا أبا الخطاب! أأراك تَلْحاني على اَلَجزَع، وما على ظهرُها أشقى ممنُ يصبح ليفتقد في نهاره حُلماً ضَلَّ عنه مع الفجر؟ كم خلوت إلى هذه النفس ألومها كالذي تلوم؟ وكم وقفت على هذا القلب أذكره ما يذكرُ الناس مني، فإذا الذي كان بالأمس قد اصبح وكأنه أديم مرقوم قد تفَرَّى عاثَ البلى فمحاه. أريد، ويا لضلَّتي فما أريد! أنا كالساري في لجَّة الليل يلطم في سوادها، قد أضاع لؤلؤة يبحثُ عنها بين الحصى والرمال!. . . لن أعودَ إلى الناس حتى أجد لؤلؤتي يا أبا الخطاب. . . لن أعود
ورأيت الرجل ينتفض انتفاضة المحموم من هول ما يجد، فرَحَمْته، ولكني آثرت أن أدور على بُنَيَّاته، عسى أن يأوى لهن فيؤوب إلى كبعض ما كان، قلت:
ظلمت نفسكَ يا أبن أخي فظلمت من لا يلوذ إلا بظلك. صغيراتٌ ضعيفات ضائعات: فمن لهن بعدك؟ لو كنتَ وشأنك لها الأمر، ولكنك استُحْفظتَ من لا يحفظه بعد الله إلا رحمتك، ومن لا يغذوه بعد الطعام إلا حديثك، ومن لا يضئ له وجه الدنيا بعد النهار إلا ابتسامك، ومن إذا أهمل ضاع عليك ضيعة الأبد. إنهن بناتك منها وبناتُها منك، فوالله ما تذكرها ذكراً في شيء هو أكرم واحب وأرضى عندها منهن. أجمل يا أبا محمد، أجمل! فرفع إليَّ رأسه ونظر، ربا صدره بالزفرات وهو يقول:
لقد كنت أخشى لو تمليتِ خشيتي! ... عليك الليالي كرَّها وانفتالها
فأما وقد أصبحت في قبضةِ الرَّدَى ... فشأن المنايا، فلتُصِب من بَدَالها
. . . لولا علمتَ يا عمر! كيف - بربك - كنتَ تراني أحبوهنَّ من قلبي خفقات لامعات باسمات؟ كنتُ لو أطقتُ أن أجعل قلبي بينهن لهواً يتلَعَّبْنَ به لفعلت! فانظر إليك ماذا ترى؟ ما شيء أجتلب به على قلبي ألماً كنوافذ الإبر إلا رؤية هؤلاء الصغيرات الضعيفات الضائعات؛ وإن إحداهن لتعدوا إلي تستأوى فأحملها؛ فكأن قد والله حملت بها صخرة مسرفة يعي حملها، لولا بقية من رحمةٍ - يا عمر - عنهن نفرةً واحد لا أراهن ولا يرينني
أفزعني والله الرجل، ولكني فهمت عنه ما يأتي به. إنه لا يزال يراها بعينيه تحول بينه وبين صغاره. إنه يريدها ويريدهن جملة واحدة، فإذ ذهبت هي، فكأنما ذهب منهن الذي كان يراه فيهن. يرحمك الله يا أبن أبي عتيق! فأما إذ بلغ به حبها هذا المبلغ من اليأس، فلا والله ما ينجيه إلا أن يحتال، فقلت له:
أأراك أنسيت ذكر ربك يا أبا محمد! أتُرانا نعيش في هذه الأرض إلا بما نرجوه عند الله في غيب الله؟ فلولا ما نمثله في أنفسنا من الرجاء، ما نبض لامرئ عرقٌ مما يأخذه من السَّأم. وأنت، أفيغبى على امرئ في مثل عقلك أن يجعل من مفقودٍ يحبه رجاءً يستمسك به؟ أنظرها يا ابن أبي عتيق بين عينيك، ولا تدع البدن الراحل يغلبُك على ما يحركُ من روحها. إنك بعينها ما عشت، فلا تحسبنَّ أحزانك التي تبتغي أن تنسلّب بها في حياتك، تجعلها تنظر إليك راضية مطمئنة
لا تشكّنَّ يا أبن أخي، فوالله إن الجسد ليذهب إلى البلى، وإن الرُّوح ليخلد، فما ترضى من يحبُّك بأمثل من أن تكون في غيْبهِ ما كنت في محضَره: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول ما يغضب ربنا) وصدق رسول الله. وما ذلك إلا أن نقصر الحزن، وأن نجعل أقوالنا وأفعالنا مرضاة لمن نحب وطاعة. ولا تستطيلنَّ ما بين الحي والميت؛ فإنما هي ساعات قلت وإن أطلت لها. يا أبا محمد أرض ربك وأرض صاحبتك، واجهد أن تكون كما أحبت لك، فإنك عن قليل تلقاها، فلا يلقها منك إلا ما تعرفه دون ما تنكره. . .
محمود محمد شاكر