مجلة الرسالة/العدد 439/مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية
→ طموح الشباب | مجلة الرسالة - العدد 439 مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية [[مؤلف:|]] |
الشيخ عبد الوهاب النجار ← |
بتاريخ: 01 - 12 - 1941 |
(أيام) طه حسين
للدكتور زكي مبارك
تنبيه - حيرة وارتباك - المرحلة الثانية - عمائم وطرابيش وبرانيط - أسرار كتاب (الأيام) - أحزان الطفل الضرير - صور وصفية - أما بعد فهذا كتاب
تنبيه
في العالم الماضي تكلمنا عن الجزء الأول من (الأيام)، والمقرر للمسابقة في هذه السنة هو الجزء الثاني، وقد نشرته (مكتبة المعارف) بالقاهرة وثمنه عشرة قروش.
ويهمني قبل الشروع في الكلام عن الجزء الثاني أن أنبه إلى مسألة طال فيها عتب العاتبين في السنة الماضية، فقد عابوا علي أن أقول في صحيفة سيارة: إن الدكتور طه رجل ضرير؛ مع أني قلت بصريح العبارة: إن توضيح الدقائق من كتاب (الأيام) لا يتيسر بغير النص على أن المؤلف يعبر عن أغراض لا تتجسم لغير المكفوفين، والنقد يحتم هذا تحتيماً، ولو سكتنا عن هذه الناحية لضاع الغرض من شرح مواطن القوة والضعف في تلك المذكرات
أنا أريد أعاون طلبة السنة التوجيهية على فهم الكتب المقررة لمسابقة الأدب العربي، ولا يتم ذلك بدون إرشادهم إلى طريق الفهم المنشود، ومؤلف (الأيام) ضرير، ومراعاة هذا الجانب من شخصية واجب مفروض، لنعرف كيف واجه دنياه عن طريق السمع واللمس والإحساس
يضاف إلى هذا أن الدكتور طه أكبر من أن يتأذى بالنص على أنه ضرير، فهو يقول ذلك في جميع صفحات (الأيام)، وهو يعرف من أصول النقد الأدبي ما لا يعرف أولئك العاتبون، ويعرف أن الكلام عما في كتابه من محاسن وعيوب لا يتفق مع التغاضي عن تلك الحالة الشخصية، وهي حالة لا تغض من منزلية الأدبية بأي حال.
طه حسين ضرير، كما يقول، وقد سايرنا طفولته في السنة الماضية ونحن ننقد الجزء الأول، فكيف نراه في حداثته ونحن ننقد الجزء الثاني؟ حيرة وارتباك
في هذا الجزء بداية تقع في ست صفحات، وهي غاية في الضعف عند من يجهل، وغاية في القوة عند من يسرف، وربما كانت أعظم صفحات الكتاب، برغم ما فيها من غموض والتواء
وترجع عظمة هذه الصفحات إلى أنها تمثل ما يعاني الطفل الضرير من حيرة وارتباك، حين ينتقل من أرض إلى أرض، ومن مكان مألوف إلى مكان مجهول
كان الطفل يعرف داره بالريف، يعرفها بيديه، فلم تف عليه خافية من ملامح النوافذ والأبواب والسطوح، وكان يجد الأنس كل الأنس في حبس تلك الأشياء باهتمام والتفات، وسنرى كيف يفرح حين تسمح الظروف بأن يداعب الصندوق الذي أرسلته أمه إلى القاهرة لينتفع به أخوه، فسيكون ذلك الصندوق مراداً لسياحات كثيرة يتمتع بها الطفل حين يشاء، فيجلس عليه مرة، ويختبر أدراجه بيديه مرات، ولا يفوته في هذا الموقف أن يشير إشارة حزينة إلى أن أمه كانت تضع حُليها في هذا الصندوق يوم كان لها حُلي، فنعرف أن أمه وقع لها ما يقع لأمهاتنا في الريف من بيع (الصيغة) في بعض الظروف، ولأمهاتنا هنالك متاعب تستحق التأريخ
ترك الطفل داره بالريف، وأقبل على داره بالقاهرة، فكيف كان حاله في داره الجديدة؟ كيف؟ كيف؟
أقام أسبوعين وهو شارد اللب حيران: فهو يلمس جدراناً لا يعرف من أحوالها غير أوهام، ويسمع أصواتاً لم يكن له بمثلها عهد. ألم ينزعج للصوت المجهول؟ وأي صوت؟ صوت كريه بغيض لا يصل إلى أذنيه إلا بعد أن يلفح وهج النار وجهه من قرب، فما ذلك الصوت؟ سيعرف أنه قرقرة النرجيلة، فيهدأ ويستريح بعد أن مسه الخوف، وبعد أن طال تفكيره في السؤال ولم يصده غير الاستحياء
ولم يكن ذلك كل ما عاني في هذين الأسبوعين، فقد آذاه ما يحيط بداره الجديدة من روائح قذرة بغيضة لا تخلو من تعقيد. وسنعرف فيما بعد كيف صار يستبشر بهياج تلك الروائح، لأن هياجها أثرٌ من وقدة الشمس، وتلك الوقدة بشير بقودم الصيف، وهو في الصيف يرجع إلى داره بالريف، فيستريح من الأزهر والأزهريين، فقد نص بعبارة صريحة على أن سجنه في قفص الأزهر قد طال، وأنه يرجو الخلاص بالانتساب إلى الجامعة المصرية، عليها أزكى التحيات!
المرحلة الثانية
حين تكلمنا عن الجزء الأول من (أيام) طه حسين في السنة الماضية كنا نجاريه في المرحلة الأولى من حياته، وهي تبدأ باليوم الذي عرف فيه كيف يختزن الذكريات، وتنتهي باليوم الذي تأهب فيه لطلب العلم بالأزهر الشريف
وفي هذه السنة نجاريه في الجزء الثاني وهو المرحلة الثانية، وهي تبدأ باليوم الذي فرح فيه بدخول الأزهر وتنتهي باليوم الذي فرح فيه بالتحرر من الأزهر. وهو مع ذلك سيحدثنا في الجزء الثالث أن صلته بالأزهر بقيت إلى أن تقدم لامتحان (العالمية). وسنعرف أن اللجنة التي أدى أمامها امتحان العالمية قضت في أمره بما لا يحب، لأنها لم تستطع النفاذ إلى مواهبه العقلية، أو لأن الأخبار كانت تواترت بأنه لا يحترم الأزهريين، أو للسبب الذي حدثنا به في سنة 1927، فقد أخبرنا أن يداً أرادت أن يسقط في امتحان (العالمية)، وله على تلك اليد شهود جَبُن منهم من جبن، وشَجع من شجع، والأمانة للتاريخ توجب أن نقول إن الدكتور طه حدثنا أنه حين أراد الطعن في نزاهة لجنة الامتحان لم يجد من يجرؤ على الشهادة بالحق غير رجلين اثنين: سيد المرصفي ومحمد الابياري
وإنما تعجلنا فأشرنا إلى كلام سيكون بداية الجزء الثالث ليعرف القراء كيف يتبرم الدكتور طه بماضي الشيخ طه، وكيف رضي الانتقال من الشرق إلى الغرب بلا توديع ولا تسليم، لينتقم ممن ظلموه، أو ليصير رجلاً من طلائع الجيل الجديد، ومن دعاة المدنية الحديثة، بلا تحفظ ولا احتراس
عمائم وطرابيش وبرانيط
من واجب النقد الأدبي أن يبحث عن الأسرار المطلوبة في ثنايا الحروف، فما تاريخ طه حسين من الوجهة الفكرية والذوقية وهو يواجه دنياه في المرحلة الأولى والثانية؟
في الجزء الأول يرى المجد مصوراً في (العريف) وهو معلم الأطفال، ثم يراه مصوراً في (القاضي الشرعي) صاحب العمامة والجبة والقفطان وفي الجزء الثاني نراه على عهده الأول، نراه يحترم العمائم ثم ننظر في الصفحات الأخيرة فنراه يعلن أنه (ظفر بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش)
فما سر هذا الانتقال؟
كان يعرف أن أمور الدولة إلى أصحاب الطرابيش، ولعله سمع أن ناساً اقترحوا على الشيخ محمد عبده أن يلبس الملابس الأفرنجية ليمكن أن يصير من الوزراء، كما صار الشيخ سعد زغلول بعد ذلك من الوزراء
وقد صبر الدكتور طه على عمامته بعد فراق الأزهر بأعوام قصار أو طوال، فأدى امتحان الدكتوراه بالجامعة المصرية في سنة 1914 وهو معمم، وأقلته الباخرة من الاسكندرية إلى مارسيليا وهو معمم، ولكن ركاب تلك الباخرة قد التفتوا مندهشين إلى شيء يقع في البحر وقد ألقاه صاحبه بعنف، فما ذلك الشيء؟ هو عمامة طه حسين!!!
وقد تحدث الدكتور طه مع أحد الصحفيين بأنه لم يندم على شيء كما ندم على رمي عمامته في عرض المحيط؛ ولكن الواقع غير ذلك، الوقع أن الدكتور طه وُلد وعلى رأسه (برنيطة) وقد حدثني مرة أنه يرجح أن أسلافه القدماء كانوا من اليونان، فإن لم يصح ذلك فهو في نزعته اليونانية مَدين لرواية ألفها الشاعر أحمد شوقي واسمها (ورقة الآس) وفيها تمجيد لليونان.
ولهذا وذاك صلة بانتقال الرجل من حال إلى أحوال، فقد انحدر من أسرة أكثرها مشايخ، ولكنه مع ذلك يحيا حياة مدنية منقطعة عن حياة المشايخ تمام الانقطاع. والنص على هذا الانقلاب واجب، لأنه يفسر ما خفي من أسرار الوحي في اتجاهاته الأدبية والاجتماعية
ولكن هذا الشيخ اليوناني بقيت فيه ملامح من ذلك الشيخ الأزهري، فما شاع يوماً أنه يدعوا إلى اللغة العامية، كما يصنع بعض المتظرفين الثقلاء، ولا جاز عنده أن تكون العقيدة الإسلامية مجالاً للتشكيك والإيذاء، وإن وقعت في بعض مؤلفاته عبارات تغاير المألوف من التعابير الدينية.
هذا رجل بعيد الصلة بين حاضره وماضيه، لأنه سريع القفز والوثب، ولأنه على وفاق مع ضميره الفني والأدبي، فهو يسايره إلى حيث يريد. وكل شيء عنده جائز، إلا العدوان على اللغة العربية، أو التحرش بالعقيدة الإسلامية، فهما عنده في مقام القدسية والجلال! وفي كتاب الأيام سطور تفصح عن أسباب القلق في حياة الدكتور طه حسين، فهو يجزع من العزلة ويفزع من الانفراد، لأن الاتصال بالناس هو أداته في الاتصال بالحياة الخارجية، ومن هنا نجده حريصاً أشد الحرص على أن يكون لاتصاله بالناس ضروب من الضجيج والعجيج، لينجو من متاعب العزلة والانفراد، وهذا هو السر في انتقاله من رأي إلى رأي، ومن حزب إلى حزب، ومن ميدان إلى ميدان!
كان مع الدستوريين وهم يقاتلون الوفديين، وكان مع الوفديين وهم يقاتلون الأحزاب أجمعين، فإذا انجلت المعارك السياسية وانقطع إلى الحياة العلمية كان من الواجب أن يخلق أزمة جامعية، فاذا نُقل من الجامعة إلى وزارة المعارف كان من الحتم أن يخلق مشكلة في وزارة المعارف
ومع أن للدكتور طه عذراً في التخلف عن شهود بعض المآتم وحضور بعض الحفلات، فهو يشهد جميع المآتم ويحضر جميع الحفلات، ليطرد عن نفسه عناء العزلة والانفراد
فالذي ينظر إلى الأمور نظرة سطحية يحكم بأن الدكتور طه رجل متغير متحول، أما الذي ينظر نظر المدقق فيرى التغير والتحول من صور الثبات والاستقرار بالنسبة إليه، لأنهما يؤديان وظيفة أساسية في حياته اليومية!
ومن الجائز أن يكون لهذه النزعة دخل في هيامه بالفروض والحدوس وهو يساور الأبحاث الأدبية والتاريخية، فؤلفاته في أغلب أحوالها قليلة التعمق، لأن التعمق يوجب أن يقف عند البحث الواحد عاماً أو عامين، والوقوف يضايقه بعض الشيء، لأنه يصرفه عن التحول والانتقال بين المعاني والآراء!
زار الدكتور طه باريس وأنا هنالك، فلما مضيت للتسليم عليه أدهشني أن أجده في غرفة تطل في غرفة تطل على ميدان (الأوْبِسرفتوار) وهو ميدان صخاب ضجاج؛ فقدرت أنه يريد أن (يسمع) باريس بعد أن فاته أن (يرى) باريس!
ويحدثنا الدكتور طه في (الأيام) أنه كان يأنس أنساً شديداً بمراسلة إخوانه وهو في الريف، وتفسير ذلك سهل، فهو يلقي بالرسائل من يشاء من الإخوان.
ويحدثنا أنه حين رجع إلى بلده بعد قضاء بضعة أشهر في الأزهر أقام معركة حول فكرة التوسل بالأولياء، فما سر ذلك؟ لم يرد في الواقع غير خلق دنيا يراها عقله، وإن لم ترها عيناه!
وقد سجل عتبه على أخيه، الأخ الذي كان يتركه وحده ويمضي للسمر مع الأصحاب والسجراء، ولو أن ذلك الأخ تأمل قليلاً لعرف أن أخاه الضرير الناس إلى الأنس بالأسمار والأحاديث!
وتأليف كتاب (الأيام) هو في ذاته تسلية لهذا المؤلف، فهو يخلق لخاطره أجواء جديدة تحتشد فيها مواكب من الصخب والضجيج، وإلا فكيف اتفق أن لا يفكر في إحياء تلك (الأيام) إلا وهو في المصايف الفرنسية، حيث يشغل عنه أهله بطرائف تلك المصايف، ولا يبقى له إلا اجترار ما اختزن من الذكريات؟
وقد شهد الدكتور طه على نفسه في مواطن كثيرة من كتاب (الأيام) باضطراب العقل؛ وأقول إن هذا الاضطراب هو مصدر قوته الذاتية، لأنه من مظاهر الحيوية، ولأنه الشاهد على أنه من كبار الأحياء
وهل كان من العبث أن تتنقل الطبيعة بين فصول مختلفات أشد الاختلاف منها الصيف والشتاء؟
هذا رجل حي، يعد ويُخلف، كما تعد الطبيعة وتخلف، ويستنيم عند الخوف كما تستنيم الطبيعة عند الخوف، ولا يتنمر إلا عند الاطمئنان إلى الأمان
وسر القوة عند هذا الرجل أنه كما وصفت، فهو من دعاة الثورة إن أتسع المجال للثورة، وهو من دعاة الهدوء يوم يحس بأن المجال لا يسمح بغير الهدوء، ولذلك شواهد يعرفها جميع الناس.
هو طه حسين، ولن يكون غير طه حسين. وكيف يكون رجلا آخر، وهو ليس برجل آخر؟ تلك إذن قضية، ولم تكن له قضية، وكيف تكون له قضية، وهو أعظم من أن تكون له قضية؟!
أسرار كتاب الأيام
نحن مع الدكتور طه في المرحلة الثانية من حياته الشخصية؛
وكلمة (الشخصية) لها مدلول؛ فهو في الجزء الثاني من الأيام لا يزال صبياً وفي أحلام الصبيان؛ والصبي لا يخرج من الحياة الشخصية إلى الحياة الاجتماعية إلا في نطاق محدود
والعجب كل العجب أن يستطيع الرجل الكهل وصف حياته وهو طفل بتلك الدقة العديمة المثال
تكلم طه حسين عن حياته الأولى في الأزهر بعد أن فارقها بنحو أربعين سنة، فكيف اختزن تلك الذكريات في أمد كاد يزيد على أربعة عقود؟
الشيخ طه هو الذي كتب (الأيام) لا الدكتور طه، فهي صور فطرية لأحلام طفل كانت دنياه محصورة بين حي الأزهر وحي الجمالية، ولا يكاد قارئ هذه المذكرات يصدق أن كاتبها تخرج في السوربون وإن كانت السوربون هي السبب في أن يجيد مثل هذا القصص الطريف
جمال هذه المذكرات يرجع في جملته وتفصيله إلى ما انطوت عليه من الصدق. والكاتب يقول إنه ضرير، ولو سكت عن هذه الناحية لأفصحت عنها الشواهد؛ فهو لا يحدد أي مكان إلا بالنص على أنه من عن يمين أو عن شمال؛ وهو يصور المعقولات بصور المحسوسات، لتكون مما يلمس أو يذاق، فهذه ضحكة غليظة، وذاك ابتسام سخيف؛ وهو لا يذكر من عذوبة الشاي إلا أنه كان يوضع فوق ماء له أزيز عند اشتداد الغليان؛ وهو لا يقول إنه كان يتسمع أحاديث الجيران وإنما يقول إنه كان يمد أذنيه مداً ليسمع أو ليلمس تلك الأحاديث؛ وهو لا يقول إن أخاه كان يتركه إلى أن يعود، وإنما يقول إن أخاه كان يلقيه كما يلقي المتاع؛ وهو لا يقول إن الليل يستر الأشياء والأحياء وإنما يقول إن الليل: (يمس بيده المظلمة العريضة هذه الأشياء وهؤلاء الأحياء) ويؤيد هذه اللفتة قوله في وصف بعض الأشخاص:
(كان ضحكه غريباً مضحكاً حقاً، فقد كان يبدأه عالياً ثم يقطعه، ويضحك صامتاً لحظة ثم يستأنفه عالياً، ثم يقطعه، ويمضي فيه صامتاً، ثم يستأنفه، وهكذا)
وهذه صورة لا تتفق من يعتمد على السمع في وصف بعض الأشياء.
وهنالك صورة ثانية تؤيد هذه اللفتة، وهي قوله بأنه (كان يجد للظلمة صوتاً يبلغ أذنيه، صوتاً متصلاً يُشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ)، ولهذه اللفتة أمثال وأمثال، كأن يسجل بنفسه أنه كان مفتوناً بعد درجات السلالم، وكأن يقول إنه كان يطرب لأصوات الملاعق وهي تداعب الأكواب، وكأن يقول فيمن يصف امرأة حسناء: إنه كان يفصلها بعينه تفصيلاً، ويحللها في نفسه تحليلاً، ويجردها من ثيابها تجريداً؛ وكأن يقول إن الروائح الكريهة كانت تنعقد فتؤلف من فوق رأسه سحاباً رقيقاً ولكنه متراكم قد غشي بعضه بعضاً وكأن يقول إن مواطئ أقدامه كانت تعتدل حيناً وتعوج مرة أخرى فذلك كله يشهد بأن (اللمس) أداته الأولى في الإحساس
أحزان الطفل الضرير
وفي كتاب الأيام صفحات تقهر عصي الدمع، وهي صفحات بالنسبة لذلك الطفل، فهو يعد على أخيه جميع الهفوات مع الصفح الجميل، وهو يذكر بعد أربعين سنة أنه لم يكن يتناول طعامه بحرية، وأن نصيبه من ماء (الطرشي) لم يكن له وجود، وأن الحديث على مائدة الفول المدمس لم يكن يزيد على كلمة أو كلمتين، مع أن الطفل الضرير يحتاج إلى الكلام أشد الاحتياج، بدليل أنه يحادث نفسه بصوت صخاب حين لا يجد من يحادثه من الرفاق
ولم يقف بلاء ذلك الطفل عند هذا الحد، فقد نص على أن فريقاً من أشياخه بالأزهر كانوا يقولون له حين يوجه إليهم بعض الاعتراض:
(اسكت يا أعمى، اسكت يا أعمى)
وكان يعرف أنه أعمى، مع الأسف الموجع، ومع العجز عن دفع ذلك الإسفاف
واتفق في تلك الأيام أن يتصل ذلك الصبي بشيخ من أصحاب المواهب، وهو الأستاذ سعيد بن علي المرصفي، وهو رجل ما ذكرته إلا رأيت أنه حجة مصر في العبقرية العربية
والدكتور طه يقول إنه كان يفهم دروس الشيخ سيد المرصفي في شرح الكامل للمبرد، وذلك عنده سبب تلك الجاذبية، ولكني أرجح أن السبب يرجع إلى أن الشيخ المرصفي كان ينشد الشعر بأساليب موسيقية تخدر الثعابين، فلم يكن من العجب أن يستريح إلى إنشاده طفل في حال طه حسين، وهو يواجه الوجود بأدوات أهمها السماع
وأقول إن الشيخ المرصفي كان غريباً في الأزهر وكان تلاميذه غرباء، وبهذا أصبح طه حسين من المنبوذين في أنظار (العلماء) وصار من حقهم أن يهينوه ظالمين بالتصريح أو التلميح ثم تمضي الدنيا بالطفل الضرير إلى ما لا يريد، فيشيع بعض حاسديه أن يرى ما لا يرى الأزهريون من كفر (الحجاج) وهو أعظم رجل تولى أمور العراق في نظر (العقل) لا في نظر (التاريخ)
ويهان الطفل الضرير لهذه اللمحة الفكرية، فيمسي وهو زنديق في أنفس الأزهريين، وهم أصحاب الرأي الرسمي في الكفر والإيمان، ثم تكون لذلك عواقب يعاني متاعبها إلى اليوم
صور وصفية
في الجزء الثاني من الأيام ألوان من الصور الوصفية، ولا تظهر قيمة هذا الكتاب إلا لمن يلتفت إلى تلك الألوان
وأجمل صور هذا الكتاب ما جاء في وصف الشيخ سيد المرصفي، وهي صورة جدية فصلت شمائل ذلك الشيخ أجمل تفضيل والحياة الأزهرية بمزاياها ونقائصها نالت حظها من التدوين في الحدود التي تصورها الطفل، وقد عاش في بيئة مولعة بتعقب العيوب، وهو لهذا لم ير من الأزهر ورجاله غير ما يؤذي النفس، ويثير البغض، وما نراه يلتفت إلى محاسن الأزهر إلا في أندر الأحيان
وحياة (الرَّبع) ظفرت بألوان لطاف ظراف هي غرة الكتاب، وربما جاز القول بأنها من أطايب الأدب الحديث
والمجون له في هذا الكتاب مكان، ولكنه مجون ملفوف، إلا حكاية (أبو طرطور) فهي من المجون المكشوف، وهو مكروه على أرجح الأقوال!
وعنى الطفل بوصف أخيه عناية فائقة، فصوره في هزله وجده وغضبه ورضاه، بأسلوب يغلب عليه العتاب
وتحدث الطفل عن أبيه حديث اللوم في حين وحديث الحمد في أحيان. أما حديثه عن أمه فهو من أبرع صور الوفاء. ويظهر أنه لم يحب أحداً بلا قيد ولا شرط كما أحب أمه الغالية، ولم يثق بأحد كما وثق بقلبها الرفيق. ولا تقل إن الذوق هو الذي نهاه عن أن يتحدث عنها كما يتحدث عن أبيه وأخيه، فذلك كاتب وصاف قد يستبيح في الخروج على الذوق ما لا يباح، وإنما الوجه أن الدكتور طه لم ير من أمه غير الشمائل الأصلية في الرفق والعطف والحنان حديث الدكتور طه عن أمه حديث نفيس جداً، وهو يصدر عنه بحرارة وجدانية قليلة الأمثال. ألا ترون كيف صورها بأساليب مختلفات تشهد بأنه كان بها من المفتونين؟
من المفهوم أن الرجل لا يستطيع أن يذكر أمه بغير الجميل، ولكن الدكتور طه يخلق الفرص حلقاً ليتذوق النعيم بتصور ما كانت أمه تذرف من الدموع وهي تعد الزاد الذي يرسل إلى أبنائها الغائبين.
كان الطفل في غرفة مغلقة النوافذ في يوم صائف، فلما خرج تروح النسائم الرطاب، فتذكر ما كانت أمه تطبع على جبينه من القبلات.
والأم التي أنجبت طه حسين خليقة بكل إعزاز وإجلال
أما بعد فهذا كتاب
وأي كتاب؟ هو صفحات مقبوسة من القلب والروح، كتبها أديب مرهف الأعصاب، بعد أن تجنى عليه الوجود بلا رحمة ولا إشفاق
قال أستاذنا السنيور ناللينو، ونحن نذكر عاهة طه حسين:
,
وأقول إني لم أنقد الدكتور طه يوماً وأنا أتصور أنه ضرير، فما قُدَّ قلبي من الصخر حتى أصوب سنان القلم إلى رجل مكفوف، وإنما أنقده وأنا جاهل بحالته الشخصية، كما تعبر الأوراق الرسمية
طه حسين ليس بضرير، وإنما هي دعوى حمله عليها حب التظرف، وسيبقى هذا الرجل شاهداً على أن البصر السليم هو بصر القلوب
زكي مبارك