الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 439/طموح الشباب

مجلة الرسالة/العدد 439/طموح الشباب

بتاريخ: 01 - 12 - 1941


لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك

مدير دار الكتب المصرية

تفضلت وزارة الشئون الاجتماعية فدعتني لأتحدث إلى الشباب في مطامحه. ولعلها بتلك الدعوة أحسنت الظن برجل طالما اتصل بشبابنا المثقفين، وأنه وإن حالت ظروفه دون وفرة الاتصال بهم، ففيما يحفظونه له من ود كريم، وفيما يحفظه لهم من حب وحنان، ما يسوغ مد الأسباب بينه وبينهم ليفضي إليهم بما يعتقده خيراً وحقاً

فللوزارة إذن شكري الخالص، إذ أتاحت لي فرصة التحدث إلى أبناء العروبة عامة، وإلى أبناء وطني وكلهم أمل باسم مرموق لبلادهم العزيزة، وللشباب أنفسهم صادق دعواتي لعيشة راضية يملأها البشر والتفائل، وتنتشر منها مكارم الأخلاق وصدق العزائم، وتفيض بنعم المعنويات

لقد نشأ الشباب الحاضر في فترة من الزمن تمتد بين حربين عظيمتين، وتصطبغ بشر المنازع للنفوس الأمارة بالسوء، وتتجلى فيها مساوئ الحياة المادية والآلية وتبدو عليها متاعب الأنانية والجشع، وتلوح منها مكاره المخادعة والعناد، وتلتزمها مخازي التحلل من القيود الأدبية، وتظهر فيها مخاطر الانحراف عن المنطق السليم، وتكتنفها مهازل الركون إلى النظم المنهارة البالية، مما انتهى إلى تباين في الحظوظ من مغانم هذه الحياة، وتنافر بين الشعوب والطبقات، وتباغض وتناحر بلا هوادة ولا رحمة. . .

ولو ذهبنا نستعرض ناشئة العالم المتحضر لوجدنا في بعض بلاد الغرب شباباً قد ترعرع في أجواء مسممة من أثر اليتم والأحقاد والغرور، مما كان له خطره الواضح في الانقلابات والثورات والأزمات وحدوث هذه الحرب الدامية

أما في بلاد أخرى كبلادنا العربية التي تأثرت بنتائج الحرب الماضية، فثم تغييرات سياسية، واضطرابات داخلية، وشهوات حزبية، ونزعات نفسية، وانقسامات واختلافات في الآراء، وثم تحرج عند شتى المشكلات العمرانية والثقافية والاقتصادية، مما انتهى بطائفة من شبابنا إلى الحيرة والإشفاق من المستقبل، والتشاؤم، وفتور الخلق والنزوع إلى الوصولية، والاستخفاف بالمألوف. . .

ولعل مختلف الظواهر والأحوال الاجتماعية التي اتصلت ببلادنا قد حملت شبابنا قسطاً من الآلام، وآخر من الآثام.

فأما هموم شبابنا وآلامه فلها ارتباط وثيق بما يشعر به من غموض المآل. وأما الأخطاء والآثام فمنشؤها غفلة الشباب حين يغفل عن قيم الحياة الحقة، ليلتفت إلى قيمها الزائفة، وحين يضلله سراب الحياة الخلاب إلى غير ما يشتهي من مائها الزلال، وحين يطمئن عن ضعف في البصيرة إلى سطح الحياة المستقر على بركان ثائر، وحين ينصرف الشباب عن جد الحياة إلى هزلها العاثر، وعبثها الساخر، ويؤوب منها بالقدح الخاسر. وعلى الجملة حين تتبدى الحياة في ثوبها المزخرف، فتستدرج إلى صغائرها الباطلة وشهواتها من لا حصانة لهم من الشباب، وكان لكل ذلك أثره في أمزجة الناشئين وأعصابهم وسلوكهم، فتعدد فيهم المتشائمون، وتكاثر فيهم المستخفون المستهترون، وأصبح بينهم المتمرد الجامح والخائر المهزوم.

على أننا نلتمس المعاذير للشباب على تشاؤمه واستخفافه، وجموحه وخوره، ونغتفر له انحرافه عن الطريق التي يرضاها له النصحاء الخيرون، إذ ترجع التبعة في كل ذلك على ظروف الماضي القريب وملابساته. فإذا كان لأحد أن يتحمل قسطاً من اللوم، فعلى الآباء بعض أثقال هذه الملامة؛ أما شبابنا فحليق بهم أن تنالهم شفقة المشفقين، وحدب العاطفين.

على أنه حري بالنشء الجديد أن يوجهوا جهودهم، ويحولوا طموحهم إلى حياة أسمى من التي يتذوقون مرها، وأن ينشدوا جوً أصلح من ذلك الذي يتنسمون سمومه، فللشباب من مفسوح الحياة ومقتبل العمر ما يوسع له المجال لتحقيق عيش يرضاه لنفسه ولمن يخلفونه؛ وله من نشاطه الحيوي ما قد يسخره في الخروج من الحياة المظلمة إلى حياة نيرة، وما قد يستخدمه لتحويل قطوب دنياه إلى بسمات، وزعازعها إلى نسمات، وأنينها إلى نغمات، فلا يأس مع الشباب، ولا يأس مع الحياة.

ويلوح لي أن أشد الحوافز لنشاط الشباب، وأقوى المثيرات لحيويته، وأمضى الشاحذات لعزيمته حين ينشد حياة أصلح من التي يحياها، إنما يكون في توجه الشباب إلى الأهداف العليا، والمثل السامية، ليسلم نفسه لسلطانها إسلاماً، ويذعن لسيطرتها إذعاناً. وهل من هدف أولى من الخلق الكريم ليكون موضع طموح الشباب؟ وهل من سلاح غير سلاح هذا الخلق يستطيع الشباب أن يحول به مذاق العيش حلواً وعذابه نعيماً؟

إذن فالاعتزاز بالخلق الرفيع هو ما ينبغي أن يكون مثل شبابنا الماثل، ومطلبه الشامل

وإذا كان الخلق الكريم في جملته وتفاصيله هو الهدف الذي ينبغي لشبابنا أن يروضوا أنفسهم عليه، وأن يلقوا بأعمالهم في دوائره وأحضانه؛ فيقيني أن أكبر معين لإصابة هذا المرمى هو التدين الصحيح.

وإني حين أعفي نفسي من الإسهاب في تفاصيل الأخلاق الكريمة، وبسط جزيئاتها الرائعة؛ أقرر بأن التدين الصحيح هو أفضل رائد للوصول إلى الأخلاق الفاضلة الرفيعة؛ ذلك لأن الديانات على اختلافها قد أجمعت على تقديس الأخلاق الأساسية التي كانت أهداف الإنسانية مع تتابع العصور، واختلاف الأجناس والأقاليم

وليست هذه الأخلاق المقررة مجهولة تحتاج إلى التذكير، أو منكرة تحتاج إلى الإبانة والتعريف، أو مستورة خفية تحتاج للكشف والإظهار، إنما كل ما تحتاج إليه أن يستجيب الناس إليها، وأن يأخذوا أنفسهم بالإذعان لدواعيها، وأن يؤمنوا بأن تجارب العصور والأجيال لم تكن عبثاً حين لم تأت بما يضعف من قيمة هذه الأخلاق، أو يشكك في نفعها لدعم سعادة الأفراد وعظمة الأمم. فكل دين يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ وما ندم قط امرؤ اتخذ من أخلاق دينه هادياً له في معاملاته وسلوكه؛ وما هانت ولا وهنت أمة تمرس أفرادها في آداب الدين، ذلك لأن التدين والدين يحضان على العزة والتضحية والإيثار والعدل والقسط وجد الحياة ومهيئات السلامة والسلام.

ويقيني أن التدين الصحيح إذا استحال في عناصر الدم دماً، وفي عناصر الأعصاب عصباً، وعلى الجملة في عناصر النفس الناطقة روحاً ويقيناً وإيماناً، فإن أفعال الناس جميعها تستقر على الخير، وتدور في دوائر الحق، وتسرح في ميادين الجمال. . .

وحسبنا من التدين أن يذعن المرء لقيود والتزامات ونظم تحت رقابة حاضرة لا تغيب، يقظى لا تغفل، عالمة لا تجهل، تلك رقابة الضمير الطاهر، تلك رقابة الوجدان الساهر، تلك رقابة القوي القاهر، تلك رقابة الله

وكما أن للتدين الصحيح رقابة على النيات الخافية والمعنويات التي تؤثر في صور المعاملات وأشكالها، فإن له أجلى أثر في رياضة الناس على حب النظام. فكل دين يقاضي أتباعه بأنواع من الشعائر في فترات موقوتة، وفي وضعات معينة، وفي حالات خاصة؛ ففي مختلف الصلوات، وفي أنواع الخشوع، وفي أصناف التوجهات، نُظم للجسم والنفس من شأنها أن تؤلف المرء على حب النظام، وما أحوج شبابنا لخلق النظام.

قد يأخذ البعض على الديانات ما فيها من حواجز وحدود تحد مما تبيحه الحريات. على أنهم ينسون أنه لا خير في الحريات

ما لم تقف عند الحواجز والحدود، وإن وراء حدود التدين هاوية فتاكة بالنفوس، وتيهاً مضللا للعقول والأحلام

وإذا أضيف إلى فضائل الدين ما يتعزى به المنكوبون المعتقدون، وما يأمله المستحقون ممن يعتقدون بعدل الله، وينتظرون جزاءه الأوفى، فما أحرى الشباب أن يرعى حرمة الدين، ويتجه إلى هدفه المبارك المأمون

وزيادة على ما أتمناه لشبابنا من هذه المطامح المتقدمة، أرجو أن يجعل من أهدافه المباشرة نزعة الكرامة الأدبية، فعندما يطمح المرء إلى هذه الكرامة، وعندما يشعر بحرارتها المنبعثة من الأعماق تتجلى له قيمته الإنسانية المقدسة من خلال ماضيه وحاضره، وتفكيره وأمله ومسلكه الخلقي، وعندما يستذكر المرء معاني الكرامة، فإنه يحس في طواياه بنوع من عظمة النفس تدنيه إلى كل عمل حميد، وتضعه في كل منزل من المنازل التي تسدى فيها المكارم وتساق فيها المحاسن لخير نفسه، وخير أمته، وخير الناس أجمعين.

فالكرامة إذن هي نزعة نفسية عالية يتحقق بها الخلق الشريف والموقف المنيف لدنيا يريدها المرء مصقولة معقولة كريمة.

بل هي نزعة إلهية تتأثر بها كل قوانا النفسية لتستنهض أكثر الفضائل من شجاعة وصدق، وصراحة وجد، وضبط للنفس، وإيثار ووطنية وما إلى ذلك من الخلال الآدمية التي يأخذ بعضها برقاب بعض لتتحقق مشيئة الله حين أراد أن يكرم بني آدم

وهذه الكرامة التي أدعو شبابنا إليها غنية عن التعريف والوجاهة، غنية عن الأحساب والأنساب، ما دامت تستعين بالإيمان بأن الإنسان الحقيق بإنسانيته، هو من يصدر عنه دائماً الخير وطيب العمل

وإني حين أرسل صوتي إلى شبابنا ليحصر أهدافه في دوائر الأخلاق والتدين والكرامة الإنسانية فإني على يقين من أنه بذلك سيستصلح لنفسه عالماً نيراً مسعداً، فما عالمنا إلا مظاهر نفوسنا وأخلاقنا تتجلى على صفحات هذا الوجود

وإن ما أرجوه لشبابنا الفتيان هو نفس ما أرجوه لفتياننا. على أنهن حقيقيات بأن يتذكرن مملكة البيت، وما تقتضيه من أخلاق وسلوك ونزعات مما ينبغي أن يكون هدفاً للفتاة وحسبي أن أشير إلى أنه من واجب فتياتنا المصريات والعربيات، أن يحذرن ما انزلق إليه الكثيرات من فتيات الغرب وخدعن في قيمته، حين انحرفن عن هدف الحياة العائلية. فإسعاد العائلة في عائلها، وفي حسن تنشئ صغارها، وإمداد وكرها بما يرفع النفوس ويقومها ويقويها، هو أجدى على الأمة من كل ما تقوم به المرأة خارج البيت

وقصارى القول أرجو إلى شبابنا أن يفسحوا في صدورهم، وأن يحفظوا في ألبابهم وتفكيرهم مكاناً للمعنويات، ومجالاً للحياة الروحية، فلا يقصروا همومهم على مطالب الثروة والدأب فيما يشتهون من متع الحياة وشهواتها

وإنهم ليحسنون مهما اختلفت عقائدهم أن يقفوا خاشعين مستبشرين في كل صباح ليرسلوا من قلوبهم وعلى ألسنتهم صلاة عربية مبينة حين يقولون: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين).

منصور فهمي