مجلة الرسالة/العدد 439/الشيخ عبد الوهاب النجار
→ مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية | مجلة الرسالة - العدد 439 الشيخ عبد الوهاب النجار [[مؤلف:|]] |
حول مسرحيات محمود تيمور ← |
بتاريخ: 01 - 12 - 1941 |
جهوده في جمعية الشبان المسلمين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
لما قبض الله إلى جواره الكريم المغفور له المجاهد الشيخ (عبد العزيز شاويش بك) الوكيل الأول لهذه الجمعية، تلفت أعضاؤها يبحثون عمن يملأ مكانه الخالي، فلم يجدوا غير فقيدنا العزيز الذي اجتمعنا اليوم لتأبينه. إذ كان الشيخان - أسبغ الله عليهما فيوض رحمته - نظيرين في الدعوة إلى الله والعلم بأسرار الإسلام والبذل في سبيله والوقوف على أسرار تشريعه ومناهج دعوته، مع اطلاع واسع في مقارنات الأديان، وقدرة على حل كثير من العقد الاجتماعية التي تشغل بال الشباب في ظروف الانتقال الخطير التي يجتازها الشرق الإسلامي
وإذا كان الأستاذ (شاويش) لم يمد الله في أجله طويلاً في خدمة هذه الجمعية، بعد أن اشترك بجاهه وخبرته في دور تأسيسها، وتمهيد العقبات الأولى أمامها، فقد مد الله وبارك في خدمة الأستاذ (النجار) لهذه المؤسسة حتى نمت واتسعت جهودها الدينية والاجتماعية
فمنذ ثلاث عشر سنة والفقيد دائب على القيام بواجباته فيها، يأنس به الشبان ويستفتونه في قضايا الإسلام والشبهات التي تترامى على عقولهم في فترة الانتقال واحتكاك العقل الشرقي بالعقل الغربي، وهو يفتيهم ويدحض ما يحوك في صدورهم من الشبهات، ويدخل على قلوبهم الطمأنينة ويرد اليقين وقوة العقيدة
وقد ساعده على الاقتراب من قلوبهم والدخول إلى عقولهم اتصاله بنصيب وافر من العلوم العصرية التي كان يعلم منها ما جعله ابن زمانه وربيب عصره لا رجلاً متخلفاً عن ملاحقة سير الحياة بالأحياء وسرعة نمو هذه المدنية العجيبة التي تتفتح فيها أسرار الطبيعة للعقول تفتحاً متلاحقاً يحير الألباب ويثير الدهشة، ويكشف عن كلمات الله التي ليس لها نهاية ولا نفاد!
فكان عليه رحمة الله يعلم من مباحث علوم الطبيعة والكيمياء والكهرباء وفنون الصناعات والآليات ما كان يثير إعجاب من يسمعونه وهو شيخ معمم تقدمت به السن، وتوجه فكره من قديم إلى الأدبيات وعلوم اللغة والشريعة والجدليات وما إليها من الميراث الشرق النظري
ولا عجب أن يكون فقيدنا كذلك؛ فقد كان يحمل بين جنبيه قلب شاب ويحمل في رأسه عقل حكيم. وشباب القلب وحب الحكمة نعمتان جزيلتان تجعلان صاحبهما متفتح الفكر متجدد العزم متلفت الذهن نحو ما تلده الليالي من أعاجيب الحياة، بريئاً من الاشتغال بالأضغان الغليظة والسخافات التافهة التي تشغل بال الجهال وتصرفهم عن ملء قلوبهم وأوعيتهم بأسرار الوجود
وإلى هذه الصفات في الفقيد كان يرجع أنس الشباب به وحبهم إياه وحبه إياهم وفهمه عقليتهم ومنازع نفوسهم في زمانهم يضاف إلى تلك الصفات أنه كان مؤرخاً واعياً وقصاصاً مملوء الحافظة بحوادث التاريخ ونوادر الرجال، فكانت مجالسة عامرة بأعذب القصص وأطرف الحكايات وتلك ميزة محببة إلى نفوس الناس جميعاً وخصوصاً الشبان الناشئين الذين يسرهم كثيراً أن يستمعوا لأحاديث الغابرين وصور الماضي تلقيها وتعرضها عليهم شيخوخة جليلة يتكلم الزمان على لسانها ويتحدث من خلال بيانها
وقد نفع الله شباب هذه الجمعية بالفقيد كمؤرخ إسلامي أجل نفع، إذا كان لما يسرده من تاريخ الإسلام ورسوله الأعظم ﷺ وأبطاله ومغازيه وذكرياته وفتوح سيوفه وأقلامه، أثر بالغ خالد في توجيه نفوسهم إلى إحياء تلك الذكريات الغاليات والأمجاد الخالدات
وقد سمعت من السيد رشيد رضا رحمه الله قوله: إن العقيدة الإسلامية لايريبها ويثبتها في القلوب إلا قراءة التاريخ الإسلامي؛ وإن أثر قراءة هذا التاريخ في تكوينها أعظم بكثير من قراءة كتب العقائد والجدليات
وهذا قول صادق تزيده الأيام تأييداً. فكلما زاد اطلاع المسلمين على تاريخهم ونشطت المطبعة في إخراج دفائنه ازدادت عقيدتهم رسوخاً وإيمانهم بأنفسهم وثوقاً
وقد جمع الفقيد إلى صفات المؤرخ الإسلامي ضلاعته في الاطلاع على الأديان الأخرى، وحفظه كثيراً من نصوص التوراة بالعربية والعبرية التي كان يحذقها، والأناجيل وإلمامه بأقوال شراحها، واستخلاصه من كل أولئك ما يؤيد رسالة الإسلام ويجلو أوصاف رسوله كما وردت في تلك الكتب، مما ملأ أيدي الوعاظ والدعاة الإسلاميين بالحجج المدافعة عن دينهم في مجال الجدل الديني، ومما جعل الشبان في عصمة من أضاليل الإرساليات الدينية الأجنبية التي همها تشكيك المسلمين في رسالتهم الخالدة
وحين رأت هذه الجمعية أنه لا يتم صلاح الأمة إلا بصلاح نصفها الذي طال إهماله - أعني نساءها - لأنهن الأساس في بنائها والمتصرفات في قلوب نشئها، وعزمت أن تنشئ لهن دروساً دينية عهدت إلى الفقيد بإلقائها وتنظيمها بالاشتراك مع المغفور له شيخ العروبة أحمد زكي باشا. فنهضا بذلك نهضة كان لها أثرها. إذ حملت كثيراً من فضليات السيدات الآنسات المسلمات على تأسيس جمعيات نسوية للدعوة الدينية بين النساء وتوجبهن إلى فهم أسرار دينهن، مما يبشر بتحقيق الآمال في حركة الإصلاح
لم يكن نشاط الراحل الكريم قاصرا على خدمة أغراض هذه الجمعية في داخل حدود مصر، بل تعداها إلى البلاد العربية والإسلامية الشقيقة، فقام إليها بسفارات عدة وأسفار بعيدة؛ إذ اشترك في أول مؤتمر إسلامي عام حين عقد بالقدس خاصاً بقضية فلسطين 1931، وتزعم الرحلة التي قام بها جوالة الشبان المسلمين في صيف السنة ذاتها إلى فلسطين وسوريا ولبنان. وكان وجوده على رأسها من اعظم أسباب الترحيب بها والالتفات إليها من السلطات والأندية الدينية والاجتماعية التي كان له فيها ذكر مرفوع. ثم قام برحلة مع جوالة الشبان المسلمين كذلك إلى تركيا في صيف 1934
ولكن أعظم رحلة قام بها في خدمة أهداف الجمعية هي رحلته إلى الهند سنة 1936 في البعثة الأزهرية التي بعثها فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي لدراسة شئون طائفة المنبوذين في الهند تمهيداً لدعوتهم إلى الإسلام ولدراسة شئون إخواننا المسلمين هناك عن قرب، وإنشاء روابط تعارف بين رجالنا ورجالهم
هذه الرحلة الشاقة التي ركب الفقيد فيها البر والبحر والجو، وتنقل فيها ببلاد الهند الواسعة يخطب ويكتب ويتحدث، وهو الشيخ المعمر الذي يحتاج إلى الراحة السكون. . . هي أعظم شهادة له تدخله في عداد المجاهدين الصادقين والعلماء العاملين الذين وهبوا الله جهودهم وأعمالهم بعدما وهبوه ألسنتهم وأقلامهم إلى آخر رمق من حياتهم. والذين يعلمون أن العمل للإسلام في هذا العصر لا يكون بتحصيل العلوم وتأليف الكتب وحدها بل لابد معه من النزول إلى ميدان الجهاد العملي والاشتراك في المعترك الأبدي بين الخير والشر والإصلاح والإفساد. . .
وإن أدراك الحق ورسمه على الصحف أمر سهل جداً على النفوس، ولكن العمل على تحقيقه وتجسيمه بين الناس متمثلاً في أشخاص وأعمال مهمة شاقة، لا يحتملها إلا أُلو العزم من محبي الإصلاح
هناك جانب خفي للفقيد في مؤازرة هذه الجمعية شاء هو أن يخفيه عمداً، هو جانب بذله المال حسب طاقته في بعض حاجات هذه الجمعية وحاجات غيرها من وجوه البر. فقد كان لا يبخل بمال، ولا يحسب حساب ذريته الخاصة في سبيل تحقيق مصلحة عامة؛ وقد طال عمره وهو كبير الراتب، ولكنه لم يتهالك على جمع شيء من الحطام الفاني، ولم يخرج من الدنيا إلا عن ميراث الحكماء والأصفياء. . .
إذا ورث الجهال أبنائهم غنى ... ومالاً فما أشقى بني الحكماء!
ألا سلامٌ على تلك الشيخوخة الجليلة السمحة المتفائلة التي كانت تضحي بما يصحب تقدم السن من الترفع والاعتزال، وتمتزج بروح الشباب لتعطيهم خبرتها وتجاربها. . .
وسلامٌ على تلك الروح الرحبة اللطيفة الوديعة التي كانت كأنها لا تعرف الغضب والمساءات. . . وعلى ذلك القلب البرئ كقلوب الأطفال الأبرار، وعلى تلك الأسارير المنبسطة التي يترقرق فيها الطهر وخلوص الطوية، وعلى ذلك المنطق العفيف عن الادعاء والغيبة وتجريح الناس ومقابلة السوء بالسوء. . .
وسلام على تلك الجبهة العالية التي كرمت صفحتها عن سمات الذلة والخضوع لغير الحق. . . وعلى تلك الذاكرة الواعية التي ما كان يفر منها رقم أو مسألة من مسائل العلم والدين التي اطلعت عليها، وما كان أكثرها!
ألا إن فقيدنا لم يكن شخصاً، وإنما كان حديقة مزهرة مثمرة بأطايب المعاني العالية، ورقائق الصفات الكريمة، ووثائق الأخبار والأسمار والمعلومات. . .
فرحمة الله له، والخلود لذكراه، والصبر الجميل لذويه وتلاميذه ومحبيه
عبد المنعم خلاف