مجلة الرسالة/العدد 439/حول مسرحيات محمود تيمور
→ الشيخ عبد الوهاب النجار | مجلة الرسالة - العدد 439 حول مسرحيات محمود تيمور [[مؤلف:|]] |
على هامش بحوث المجلس الأعلى ← |
بتاريخ: 01 - 12 - 1941 |
من اتجاهات علم النفس
في المسرحية
للأستاذ زكي طليمات
مفتش شئون التمثيل بالمعارف
(أصدر الأستاذ الكبير محمود بك تيمور مؤلفاً يتضمن ثلاث
مسرحيات جديدة فيها الكثير من طرافة التحليل النفسي، فآثرت
أن أقدم لنقدي إياها بهذا البحث الذي يكاد يكون قائماً بذاته
ولذاته)
كثيراً ما يقع للقارئ المنقب في أروع القصص والمسرحيات الغربية، مترجمة كانت أو بلغتها الأصلية، - وقليلاً ما يقع له ذلك في مطالعة آثار أدباء الطليعة في مصر خاصة وفي الأقطار العربي عامة - أن يلاحظ شيئاً يستوقفه برهة ينسرح خياله فيها، ويأخذ ذهنه بأسباب التأمل والمراجعة، ذلك أنه يرى شخصية من شخصيات هذه المسرحية أو القصة يستوي فجأة على حالة تنبو عن التقويم النفسي العام الذي أجراه عليها المؤلف منذ بدء الرواية، فإذا بهذه الشخصية تغمض وتبهم، وإذا بها تصبح نهبة لتعقيد نفسي غريب، فتبدر منها بادرات تتناقض مع المعقول صدوره منها قولاً أو فعلاً، وتتراءى هذه الشخصية في النهاية وكأنما تلبسها ذاتان مختلفتان!! وهي مع كل هذا تبدو إنسانية أصيلة تحس بصدق خلجاتها، ونلمح في وجهها أشباهاً فيمن نعرف من الناس أو فيمن يصل إلينا خبرهم بطريق السماع المقطوع بصحته.
إن الفكرة الشائعة على أن النفس الواحدة قد تبدو أحياناً في تصرفاتها وكأنما تلبسها شخصيتان متناقضتان، تجد أعراقاً لها ممتدة بعيدة إلى صميم الأدب الاتباعي، ثم تلوح بادية الأشاجع في الأدب الرومانسي، هذا على الرغم من أن القاعدة الأساسية في ع النفس لدى الاتباعيين - والرومانسيون تبع لهم في هذا - هو أن كل ما يخطر بالنفس ويجري فيها واضح أمره لها، لأنها تحسه وتدري بمسراه فيها، فهي تتحكم فيه إذا شاءت بطريق الإرادة، وهي تنظمه بمعاونة المنطق، وتكون النتيجة الحتمية لهذه القاعدة: أنه بما أن النفس في هذا الصدد لا يخفى عليها شيء مما يختلج فيها، إذن فكل ما يجري فيها واضح المعالم والحدود تفصح عنه الأقوال والأفعال وتفسره.
على هذه السنة، سنة الوضوح والإيضاح، يقوم التحليل النفسي لدى الاتباعيين والرومانسيين ومن ينحو نحوهم في كتابة القصص والمسرحية التي هي معارض لنماذج بشرية تتنفس وتتحرك وتعمل فيها.
بيد أن المؤلفين الاتباعيين والرومانسيين، على أخذهم بقاعدة الوضوح هذه في علم النفس، لم يكونوا بمنجاة من التعثر ببعض تلك الحالات النفسية المعقدة التي تبدو النفس خلالها، وكأنها عالم يشوبه الغموض وتتجاوب أصداؤه بالمتناقضات والفوضى
فماذا كان موقف هؤلاء المؤلفين من هذه الحالات؟ كانوا يحاولون التفسير جهدهم ليستخرجوا من الإبهام وضوحاً ومن الاضطراب نظاماً، متجشمين في سبيل ذلك بياناً خطابياً حاذقاً ولهجة منطقية حارة يجرونها على ألسنة شخصيات رواياتهم ابتغاء الإفصاح، ولييسروا على القارئ أمر الانتقال من النتائج إلى الأسباب وبالعكس من غير ما يضطرب المنطق اضطرابة عنيفة، وليقيموا صلة ما بين ما هو معقول ومألوف صدوره عن هذه الشخصيات، وبين ما هو غير معقول وناب من بادرات طارئة وصور ذهنية معقدة في تواردها
وهذه الحالات النفسية المعقدة لدى الرومانسيين، تمتاز عن مثيلاتها لدى الاتباعيين بأنها تكون عادة مبطنة بفورات نفسية طارئة. ومرجع هذا كما هو معلوم، أن الأدب الرومانسي أساسه القلب، فهو يترك الحبل على الغارب للتيارات العاطفية دون أن يمد بينها وبين اعقل الراجح شكيمة ولجاماً، وهذا بخلاف ما هو الأدب الاتباعي
لدى الواقعيين والطبعيين
وفي أواخر القرن الثامن عشر، نزل بهذه القاعدة في علم النفس الكثير من الهزال والتعقيد، فأخذت تتحور على أساس نزعة فكرية جديدة، سداها ولحمتها أن الكائن الإنساني ليس فقط ما يريد أن يكونه، أو ما تقضي إرادته أن يستقيم عليه، لأن العناصر المادية تجري تأثيرها على جسده بلا انقطاع. فهذا الكائن الإنساني خاضع لمؤثرات المناخ والبيئة لا بجسمه فحسب، بل وبروحه أيضاً، وما يتأثر به الجسد تتأثر به النفس. وما دام الأمر كذلك - في زعمهم - فواجب أن ننظر إلى النفس وخلجاتها من وجهة نظر علمية خالصة، وذلك بأن تخضع خلجات النفس وبادراتها ولمعاتها إلى التعليل العلمي الصرف
هذه النزعة لم تكن غير صدى لسيطرة النزعة العلمية والتحليلية في القرن التاسع عشر في فرنسا وإنجلترا، فوجدت نظريات الوراثة والبيئة مجالاتها الواسعة فيما تخرجه أقلام الكتاب القصاصين والمسرحيين، وهكذا تمت غلبة المحسوس على غير المحسوس في كل شيء، وأصبح علم النفس خاضعاً لآلية (المعمل) يحلل ويجزئ، وما يحلل ويجزئ غير مظاهر المادة. وسيطرت الواقعية على ألوان الأدب والفنون، وتبعتها فيها (الطبعية) وهي لون متطرف من الواقعية
ماذا كان يعمد إليه الكتاب والواقعيون والطبعيون وهم يعالجون في رواياتهم تحليل شخصيات ملقحة بالغموض تنتابها تعقيدات نفسية؟
وقد يحسب القارئ أن هذه الحالات النفسية المعقدة قد انتهى زمانها بعد أن أخذ العلم يحلل كل شيء ويعلل. لا شيء من هذا لم يحدث، لأن هذه الحالات عريقة في النفس البشرية التي لم تتغير ولن تتغير، وما كانت هذه النزعة العلمية التحليلية لتحجز الكتاب عن تقديم هذه المخلوقات المعقدة التي تبدو كأنها ظاهرات عجيبة، نظراً إلى أنها تعيش بيننا ويُحس بها، ولأن القصة والمسرحية من مجالات تسجيل النفس على اختلاف ضروبها وتعقد حالاتها. للمناخ والبيئة تأثير لا ينكر أحياناً على بعث كوامن النفس واصطخابها، فهما عاملان يساعدان أحياناً على إحياء التناقض في الطبع الإنساني الواحد، ويمهدان لتشقيقه وفتح فجوات في كيانه. ولا شك في أن المؤثرات التي تنزل بالجسم وتنال منه، من شأنها أن تشق للنفس مسارب تنقلت منها في وثبات لا يمكن للمنطق الخالص أن يعللها ويفسرها.
نعيد سؤالنا فنقول: ماذا كان يعمل هؤلاء الكتاب، كتاب الواقعية (والمعمل) إذا عرضت لهم تلك التعقيدات النفسية؟
لم يكن يعمدون إلى الصمت ولا شك. لقد كان أسلافهم الاتباعيون والرومانسيون - وهم أقل ادعاء للعلم منهم، ولم يبلغ العلم في زمنهم ما بلغه في الواقعية - يعللون هذه الظاهرات العجيبة تعليلاً منطقياً ويفسرونها تفسيراً عقلياً متواضعاً، فكيف يلزم الصمت الكتاب الواقعيون والطبيعيون، ربائب العلم والنظريات المادية، وقد تطاول العلم في زمنهم على كل شيء يحاول تعليله وتفسيره!! كان الواقعيون يتحدثون كثيراً ويفسرون طويلاً، لا على أساس المنطق والعقل، ولكن على أساس النظريات العلمية، يتعلقون بأذيال العلم ويحملونه ما لا يقدر عليه، ليقرروا بعد ذلك - وهم يلهثون - أن هذه التعقيدات والظاهرات الإنسانية العجيبة، إنما هي حركات انعكاسية للنفس نجمت عن تغيرات واضطرابات عضوية في الجسم خاضعة لقوانين المادة.
أفلاس المعمل
ولم يمض زمن طويل حتى خففت المادية من غلوائها بعد أن عجزت النظريات العلمية عن تفسير كل شيء، وأفلس (المعمل) بعد أن أنهكه تحليل المركبات، وصارت تلك التفسيرات التي يصدرها الكتاب الواقعيون والطبيعيون لا يؤبه لها، بل غدت عقيمة عقم العقل نفسه في النفاذ إلى جوهر الأشياء واستبطان حقائقها. فاشرأبت النفوس إلى مطالعة وسائل جديدة غير الوسائل السالفة تقدم إليها ما ينقع غلتها في استطلاع المجهول الغامض في حناياها
الرمزية
وكانت يقظة للنزعة الرمزية من جديد، ولكن على غير غرار الرمزية الدينية (الصوفية) فقامت لها حركة بدأت في شمال أوربا وانحدرت إلى الجنوب، وهذه الحركة في صميمها ليست إلا مظهراً من مظاهر المزاج الأدبي العام للتحرر من (واقعية) الأدب، ووثبة من وثبات الذهن إلى ارتياد آفاق جديدة للكشف عن الغامض في النفس وحل أحاجي تلك التعقيدات النفسية التي سبق أن تحدثنا عنها.
شوبنهور وهارتمان
وجاءت تعاليم الفيلسوفيين شوبنهور وهارتمان من ألمانيا فأضافت جديداً على هذه الحركة التحريرية، فقد حاول هذان الفيلسوفان أن يقررا أن العالم لا يسيره الذكاء، بل هو خاضع في سيره إلى نوع من الإرادة تعمل وتعمل من غير أن تفسر عملها ومن غير أن تأبه لقواعد العقل والمنطق. وهذه فكرة من فلسفة ما وراء ولا شك. ولكنها تحمل في طياتها عناصر جديدة شام فيها الأطباء وعلماء النفس آفاقاً جديدة فعقدوا عليها فصولاً وبحوثاً أسفرت عن جديد يصح أن يتخذ مفتاحاً للمغلق الغامض في النفس
خطوات جديدة
العالم تسيره قوة من غير أن تفسر عملها ومن غير أن تعبأ بقيود العقل والممنطق، والنفس جزء من هذا العالم. . .!!
من هنا يبدأ الخيط الذي رسم الاتجاه الجديد لعلم النفس
فمن اكتشافات العلامة الفرنسي (شاركو) بين 1870 و1890 في التنويم المغنطيسي وإثباته أن في الاستطاعة أن يسكب المنوم في نفس الوسيط آراء وواردات لم يكن لها أصل في ذهنه الواعي ويوجهه توجيهات لم يكن له قبل بها من قبل. . .
إلى ما كتبه العلامة (ريبو) عن أمراض الذاكرة، وذلك في ما بين 1882 و1885 وتدليله على أنه تسكننا حافظات لا نحسها - إذ ليس لنا بها علم من قبل - ولكنها تعيش فينا متحوية منطوية على نفسها، وسرعان ما تنسرح وتنشر مطاويها فينا على أثر مرض طارئ؛ وكيف أن كائناً إنسانياً عادياً متماسكاً ليس في مظهره شذود ما قد ينقلب فجأة شخصاً آخر، شخصاً عادياً بدوره، ولكنه لا يذكر شيئاً عن الشخص الأول؛ وكيف أن هذا الكائن الإنساني قد يجد من جديد شخصه الأول الذي كان يعيش ولا شك في زاوية من عقله اللاواعي أو الباطن، وذلك بمجرد اختفاء الشخص الثاني. . .
إلى ما انتهى إليه (بيير جانيه) في دراسته للإيهام وللاضطرابات العصبية وأمراضها، من أن هناك ما يحمل على الاعتقاد بأنه يمكن أن تعيش في نفس كائن إنساني واحد شخصيات عديدة وتيارات متباينة قد تتدخل في بعضها أحياناً وتختلط مدومة مدوية!
العقل الظاهر والعقل الباطن
وقام العلامة (سيجموند فرويد) (1856 - 1939) النمساوي وأنشأ فصولاً جديدة في التحليل النفسي تعرف باسم أرجع فيها كل خليقة من الخلائق، وكل عارضة من عوارض النفس إلى الغريزة الجنسية، وقرر أنه يسكن النفس البشرية ذاتان، الأولى طبعية بدائية عارية من صقل جبلت وفاقاً للطبع المركب فينا، والأخرى مختلفة اختلافاً بفعل التثقيف والتهذيب، ومنسقة تنسيقاً صناعياً بيد الاجتماع والمتواضع عليه. ثم استطرد البحث ليقول إن عقلنا - وهو واعيتنا الظاهرة - لا يجيب غير ما يصدر من الذات الأخرى التي هي من صنع التثقيف والتهذيب، ولكن قد يقع كثيراً أن تتغلب الذات البدائية العارية من كل صقل وتنسيق فتجمح النفس وتبدو منها بادرات طارئة ي القول أو الفعل تبدو غريبة معقدة، وتلمع في النفس لوامع خاطفة لا تعلل ولا تفصل!
برجسون (1859 - 1940)
وانبرى الفيلسوف الفرنسي برجسون يشن حرباً شعواء على النزعة الآلية والمادية وليدة العلم و (المعمل)، ويخطئ من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية، وهاجم الذكاء والمنطق لينادي بوجود عنصر جديد في النفس أسماه ' به أكثر مما نعيش بذكائنا ومنطقنا، أي بالعقل. ثم حدد العقل الظاهر أو الواعي بما مفاده أن هذا العقل الظاهر ليس إلا جزءاً من كياننا النفسي العام، ودوره عملي خالص لا يتجاوز إلقاء ضوء مزدوج على أطراف الأشياء والتي يجب أن نعملها، وعلى نواحي الفكر التي تتولاها، وأنه ليس لهذا العقل الظاهر أن يفسر الأشياء وأن يفصح عنها. ثم قرر برجسون بعد ذلك: أننا نتجاوز أحياناً في أعمالنا الحدود والمعالم التي يقيمها العقل الباطن الظاهر، وأننا خاضعون في تصرفاتنا إلى العقل الباطن، باعتبار أنه النبع الخفي البعيد الغور المترامي الأطراف الذي ينساب منه في خيط دقيق ماء رقراق، هو عقلنا الظاهر!
كل هذا مع ما جاء على غراره جعل الحياة الباطنة تتغلب على الحياة الظاهرة؛ فأخذ علم النفس يتجه اتجاهاً جديداً، يتخلص في أن العقل الواعي إنما هو شيء ظاهر سطحي لشيء باطن عميق قابع في أغوار النفس؛ وأنه إذا أردنا أن نبحث عن تفسيرات تلك التعقيدات النفسية من بادرات طارئة وواردات غربية فلنطرق باب العقل الباطن حيث لا سلطان للعقل والذكاء، ولا صوت للمنطق والإرادة، وحيث الغرائز تتشابك وتفور
زكي طليمات