الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 439/على هامش بحوث المجلس الأعلى

مجلة الرسالة/العدد 439/على هامش بحوث المجلس الأعلى

مجلة الرسالة - العدد 439
على هامش بحوث المجلس الأعلى
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 12 - 1941


رسالة التعليم الالزامي

للأستاذ محمد كامل حته

لعل من أهم عوامل التعثر والاضطراب في التعليم الإلزامي

ما يكتنف فكرته وأهدافه من البلبلة والغموض. ونحن نتقدم

بهذه الكلمة في بيان رسالة هذا التعليم إلى المجلس الأعلى

بمناسبة تناوله إياه بالبحث في اجتماع اليوم

لم يكن عبثاً - وقد خرجت الأمة المصرية في أعقاب الحركة الوطنية ظافرة بالحرية والدستور - أن ينص هذا الدستور على أن يكون التعليم الأولي إلزامياً بالمجان لجميع الناشئة من بنات وبنين؛ لأن هذا النص على إلزامية التعليم، وعلى نشره بين جميع طبقات الشعب بالمجان، هو أول اعتراف بحق هذا الشعب في أن يحيا حياة جديدة فيها ما يبثه التعلم في النفوس من معاني الحرية والكرامة والرقي، وفيها الضمان الوحيد على أهلية هذا الشعب لما أحرزه من النتائج الوطنية، وتثبيت دعائم النهضة القومية، ومواصلة الجهود لتحقيق كل أسباب العزة وشوارد الآمال. . .

لهذا كان مشروع التعليم الإلزامي في مصر أهم مشروع تمخضت عنه النهضة الوطنية الحديثة، لأنه مشروع تتصل أسبابه بجميع أفراد الشعب، ولأنه الدعامة الأولى لكل إصلاح ينتقل بالأمة من حياة الجهل والخمول إلى حياة مستنيرة عاملة، تستقيم بها الأوضاع الاجتماعية وتتعاون فيها الجهود على النهوض بجميع مرافق الإصلاح.

لقد أطبقت ظلمات القرون ومظالم الأحداث على آفاق البلاد حقباً متطاولة، فإذا هذا الوطن الذي أنبت أول حضارة على ظهر الأرض، والذي كان قبلة العالم في علومه وفنونه وآدابه، والذي يفيض نيله عسجداً مذاباً، وتخرج تربته من كل الثمرات، والذي تخلق طبيعته الساحرة بطولة الأجسام والعزائم والعقول - إذا بهذا الوطن الذي توفرت فيه كل أسباب العظمة والخلود، تتدهور الغالبية العظمى من أهله في مهاوي الجهل والفقر والمرض والانحلال، تدهوراً يبعث على الحسرة البالغة والأسف العميق!

وليس من شك في أن العامل الأول الذي أدى إلى هذه النتائج المؤلمة، والذي ترتبت عليه العوامل الهدامة الأخرى، إنما هو الجهل الذي مني به السواد الأعظم من الشعب، فعرضه لغيره من الآفات الاجتماعية التي تنخر في كيانه وتحول بينه وبين كل تطور محمود

فالتعليم الإلزامي - إذاً - هو العلاج الحاسم الذي يجتث هذه الآفات من أصولها، ويمد جسم الأمة بالقوة التي تقاوم بها آثار هذه الآفات، والمناعة التي تقيها شرور العدوى والانتكاس

بل هو الشعاع الأول المنبثق من فجر النهضة إلى أعماق الريف السحيق، يخترق في سبيله الظلمات الداجية والضباب المركوم، حتى يصل إلى تلك المجاهل النائية، فتتفتح له الأجفان المطبقة، وتستجيب له القلوب الصماء، وما يزال هذا الشعاع يقوى وينتشر وما تزال العيون تتفتح والقلوب تستجيب، حتى تتبدد تلك الظلمات وتستبين القافلة معالم الطريق. . .

ومن هنا نستطيع أن نفهم رسالة التعليم الإلزامي في مصر، على صورتها الصحيحة ومعناها البعيد. فليست هذه الرسالة قاصرة على محو الأمية فحسب - كما يريد البعض أن تكون - لأن مكافحة الأمية ميدان محدود بالنسبة إلى الميادين الرئيسية الأخرى، ولأن قصر هذه الرسالة على هذا الميدان عمل آلي تافه الأثر ضعيف النتائج، لا يبث في نفوس الناشئة فكرة سامية، ولا يمدها بتوجيه سديد

بل إن في هذا الحد من رسالة التعليم الإلزامي على هذا الوجه أضراراً عقلية واجتماعية هي شر من الأمية والجهل؛ لأنك إذا وضعت في يد الناشئ مفتاح القراءة والكتابة، ولم تصب في عقله المقاييس الصحيحة للحياة، ولم تملأ أحاسيسه بالعواطف اللازمة لسعادة المجتمع - كان هذا المفتاح الذي في يده يدور بوحي عقله القاصر المضطرب، وإلهام غرائزه المستعرة العارمة، فلا يفتح على نفسه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه إلا أبواب الشرور. . .

وإنما تمتد رسالة التعليم الإلزامي إلى آفاق أبعد من ذلك غاية وأسمى غرضاً، فهي ترمي إلى تكوين الجيل على أساس قوي من الوطنية المستنيرة، والإدراك لحقائق المجتمع، والحرص على حقوقه الاجتماعية، والنهوض بأعبائه الثقال في مكافحة ما يندس في كيانه من الآفات، ومسايرة القافلة الإنسانية في تنقلها السريع.

وإلا فما قيمة تلك النتائج التي أحرزها الشعب في جهاده الطويل، إذا لم يكن هذا الشعب قد تهيأ للانتفاع بها على الصورة التي تبدو فيها آثار التطور واضحة ملموسة؟

وما قيمة تلك المبادئ التي كفل بها الدستور الحقوق والحريات، إذا كان الشعب عاجزاً عن تمثل هذه المبادئ وتطبيقها في حياته الفردية والاجتماعية؟

إننا بهذا الاتجاه السديد في فهم رسالة التعليم الإلزامي، نستطيع أن نتبين السر فيما نشكوه من العيوب في نواحي السياسة العامة. ونستطيع أن نعلل الفشل الذي يلازم أكثر مشروعات الإصلاح في هذه البلاد، لأن هذه المشروعات لم يسبقها إعداد التربة الصالحة لنموها وازدهارها، وإيجاد الأيدي الشعبية القوية التي تقوم على تحقيق هذه المشروعات تلك هي رسالة التعليم الإلزامي في مصر، مستمدة من روح الدستور الذي وضع للمواطن المصري أرقى مبادئ السياسة والتشريع، ومستلهمة من حاضر هذا الوطن المفتقر إلى كل إصلاح، المشرئب إلى مستقبل وثيق الصلة بماضيه المجيد

(القاهرة)

محمد كامل حته